أسباب الأزمات المالية العالمية وسياسات مواجهتها
خليل حسين
تكررت الأزمات المالية في معظم دول العالم، ما شكل ظاهرة مثيرة للاهتمام. وتعود أسباب ذلك الى ان آثارها السلبية كانت حادة وخطيرة وهددت الاستقرار الاقتصادي والسياسي للدول المعنية. اضافة الى انتشار هذه الآثار وعدوى الأزمات المالية لتشمل دولا أخرى نامية ومتقدمة كنتيجة للانفتاح الاقتصادي والمالي الذي تشهده الدول واندماجها في منظومة التجارة العالمية.
وتشير تقارير صندوق النقد الدولي الى ان أكثر من ثلثي الدول الأعضاء في الصندوق تعرض لأزمات مالية واضطرابات مصرفية حادة. ومن الآثار السلبية ايضا للأزمات المالية عدم القدرة الكاملة على استخدام أدوات السياسة النقدية في التحكم في عرض النقد ما يعني فقدان تلك الدول لأداة هامة من أدوات السياسات الاقتصادية في التعامل مع آثار تلك الأزمات والحد من انتشارها عبر القطاعات الاقتصادية خصوصا في ما يتعلق بقدرة الدولة على التحكم في التضخم والحفاظ على مستويات اسعار صرف مناسبة.
أولا ـ أسباب الأزمات المالية:
تتعدد وتتنوع اسبابها ونتائجها بحسب ظروف كل دولة، فهناك جملة من الأسباب تتضافر في آن واحد لاحداث أزمة مالية. ويمكن تلخيص اهم هذه الأسباب في ما يلي:
١ـ عدم استقرار الاقتصاد الكلي: تعتبر التقلبات في شروط التبادل التجاري من أحد أهم مصادر الازمات الخارجية. فعندما تنخفض شروط التجارة يصعب على عملاء البنوك المشتغلين بنشاطات ذات العلاقة بالتصدير والاستيراد الوفاء بالتزاماتهم خصوصا خدمة الديون. وتعتبر التقلبات في أسعار الفائدة العالمية أحد المصادر الخارجية المسببة للأزمات المالية. فالتغيرات الكبيرة في أسعار الفائدة عالميا لا تؤثر فقط على تكلفة الاقتراض بل الأهم من ذلك أنها تؤثر على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر ودرجة جاذبيتها.
كما تعتبر التقلبات في أسعار الصرف الحقيقية المصدر الثالث من مصادر الاضطرابات على مستوى الاقتصاد الكلي والتي كانت سببا مباشرا او غير مباشر لحدوث العديد من الأزمات المالية.
٢ـ اضطرابات القطاع المالي: شكل انهيار أسواق الأوراق المالية والتوسع في منح الائتمان وتدفقات رؤوس الأموال الكبيرة من الخارج القاسم المشترك الذي سبق حدوث الأزمات المالية. فلقد شهد القطاع المالي توسعا كبيرا، ترافق مع الانفتاح الاقتصادي والتجاري والتحرر المالي غير الوقائي بعد سنوات من الانغلاق وسياسات الكبت المالي بما في ذلك ضغط الاقتراض وصغر حجم ودور القطاع المالي في الاقتصاد. فلقد عانت معظم الدول من عدم التهيئة الكافية للقطاع المالي وضعف واضح في الأطر المؤسسية والقانونية والتنظيمية. فقد أدى التوسع في منح الائتمان الى حدوث ظاهرة تركز الائتمان سواء في نوع معين من القروض كالقروض الاستهلاكية او العقارية او لقطاع واحد كالقطاع الحكومي او الصناعي او التجاري. ومن الأمور التقليدية في جميع الأزمات المالية التي شهدتها الدول، حصول انتعاش كبير في منح القروض. ولم تقتصر هذه الظاهرة على الدول النامية فحسب بل شملت كذلك الدول الصناعية مثل فنلندا والنرويج والسويد واليابان والولايات المتحدة.
أ ـ عدم التلاؤم بين أصول وخصوم المصارف: يؤدي التوسع في منح القروض الى ظهور مشكلة عدم التلاؤم والمطابقة بين أصول وخصوم المصارف خصوصا من جانب عدم الاحتفاظ بقدر كاف من السيولة لمواجهة التزاماتها الحاضرة والعاجلة في فترات تكون فيها أسعار الفائدة العالمية مرتفعة وأكثر جاذبية من أسعار الفائدة المحلية، او عندما تكون أسعار الفائدة المحلية عالية وسعر الصرف ثابتا ما يغري المصارف المحلية بالاقتراض من الخارج. وقد يتعرض زبائن المصارف كذلك الى عدم التلاؤم بالنسبة للعملة الأجنبية وعدم التلاؤم ايضا بالنسبة لفترات الاستحقاق.
ب ـ التحرر المالي غير الوقائي: ان تحرير السوق المالي المتسارع، غير الوقائي بعد فترة كبيرة من الانغلاق والتقييد قد يؤدي الى حدوث الأزمات المالية. فمثلا عند تحرير أسعار الفائدة فإن المصارف المحلية تفقد الحماية التي كانت تتمتع بها في ظل تقييد اسعار الفائدة. ويترافق ذلك ايضا مع التوسع في منح الائتمان الذي بدوره يؤدي الى ارتفاع أسعار الفائدة المحلية خصوصا في القروض العقارية او القروض المخصصة للاستثمار في سوق الأوراق المالية. كذلك، فان التحرر المالي يؤدي الى استحداث مخاطر ائتمانية جديدة للمصارف والقطاع المالي قد لا يستطيع العاملون في المصارف تقييمها والتعامل معها بحذر ووقاية. كما ان التحرر المالي يعني دخول مصارف أخرى الى السوق المالية ما يزيد الضغوط التنافسية على المصارف المحلية لا سيما في أنشطة ائتمانية غير مهيأة لها وقبول أنواع جديدة من المخاطر قد لا يتحملها المصرف.
ثانيا ـ سياسات تجنب الأزمات المصرفية:
تطرح في الأدبيات الاقتصادية والتجارب العملية جملة من السياسات الهادفة الى تقليل احتمال حدوث الأزمات المالية منها:
ـ العمل على تقليل الاضطرابات والمخاطر التي يتعرض لها الجهاز المصرفي بخاصة تلك التي تكون تحت التحكم الداخلي للدولة ذلك عن طريق استخدام اسلوب التنويع وشراء تأمين ضد تلك المخاطر والاحتفاظ بجزء أكبر من الاحتياطيات المالية لمواجهة مثل تلك التقلبات، واستخدام سياسات مالية ونقدية متأنية وأكثر التزاما بأهدافها.
ـ الاستعداد والتحضير الكافي لحالات الانتكاس في الأسواق المالية والرواج المتزايد في منح الائتمان المصرفي وتوسع الدور المالي للقطاع الخاص، وذلك عن طريق استخدام السياسات المالية والنقدية التي تستطيع ان تتعامل مع تلك المشاكل من جهة وتصميم نظام رقابة مصرفية يقوم بتعديل وتقليل درجة التقلبات وتركيز المخاطرة في منح الائتمان من جهة أخرى.
ـ التقليل من حالات عدم التلاؤم والمطابقة في السيولة مع التزامات المصرف الحاضرة. والمطلوب هو آلية لتنظيم العمليات المصرفية في هذا المجال خصوصا في الأسواق الناشئة. وقد يكون ذلك عن طريق فرض احتياطي قانوني عال خلال الفترات العادية، ويمكن تقليله في حالات احتياج المصرف للسيولة في حالات الأزمات. والاستعداد ايضا لمواجهة الأزمات من خلال الاحتفاظ باحتياطات كافية من النقد الأجنبي.
ـ الاستعداد الجيد والتهيئة الكاملة قبل تحرير السوق المالية، كما يفترض العمل على تطوير وتعديل الأطر القانونية والمؤسسية والتنظيمية للقطاع المصرفي.
ـ تقوية وتدعيم النظام المحاسبي والقانوني وزيادة الشفافية والافصاح عن نسبة الديون المعدومة من جملة اصول المصرف والقطاع المصرفي والمالي.
ـ تحسين نظام الحوافز لملاك المصارف واداراتها العليا بما يخدم ويعزز نشاطات المصارف بحيث يتحمل كل طرف نتائج قراراته على سلامة اصول وأعمال المصرف.
ـ منع وعزل آثار سياسة سعر الصرف المعمول بها من التأثير السلبي على اعمال المصرف او التهديد باحداث ازمة في القطاع المصرفي.
ـ اعطاء استقلالية أكبر للمصارف المركزية، بمعنى منع التدخل الحكومي عند قيام المصرف المركزي بأداء وظيفته الأساسية وهي تنفيذ السياسة النقدية بحيث تقوم تلك الأخيرة على أساس اقتصادي ولا تتدخل أغراض السياسة المالية فيها.
ـ زيادة التنافس في السوق المالية وذلك عن طريق فتح المجال لمصارف جديدة سواء محلية او أجنبية والحد من انتشار احتكار القلة.
ـ رفع الحد الأقصى لرأس المال المدفوع والمصرح به حتى تستطيع المصارف تلبية التزاماتها الحارة والمستقبلية في عالم تتسم فيه عمليات انتقال رؤوس الأموال بسرعة فائقة.
ـ الرقابة الوقائية واستخدام طرائق أفضل من مراقبة وتتبع أعمال المصارف التجارية من منظور السلامة والأمن للأصول المصرفية وزيادة المقدرة على التنبؤ بالكوارث والأزمات المصرفية قبل حدوثها، وبالتالي الحد من آثارها السلبية على الجهاز المصرفي حتى تستطيع السلطات النقدية الوقاية منها ومنع انتقالها الى بنوك أخرى.
ان تلك الأسباب وأساليب الوقاية منها، لا تعني بالضرورة عدم مسؤولية النظام العالمي الاقتصادي القائم الذي كان نتاجا »لسقوط« الأنظمة الاشتراكية وجشع النيو ليبرالية بأبشع صورها، الأمر الذي يستوجب بحثا آخرا يطول شرحه ويتعلق بشكل أساسي بأزمة الرأسمالية والعولمة، وفي المقابل عدم قدرة النظام الاقتصادي الاشتراكي على إنتاج آليات جديدة تعيد بريقه قبل انهياره، وربما تشكل الأزمة المالية الحالية فرصة سانحة لمناهضي العولمة وأدواتها لإثبات ما يعتقدونه، فهل يصح القول: يا مناهضي الرأسمالية اتحدوا؟ انها فرصة لاثبات الذات لا مجرد تسجيل موقف!
([) أستاذ جامعي