أكلاف الحقبة المحتملة؟
حازم صاغيّة
عن عالم «ما بعد أميركا»، والتعبير لفريد زكريا، تتجّمع ملامح وإشارات يمكن الاستدلال عليها في ركام من الأخبار والمقالات والتصريحات التي تتدفّق في إيقاع سرعته سرعة أزمنة التحوّل والتغيير.
فربّما كانت رمزيّة باراك أوباما، المختلف جيلاً ولوناً وأصلاً عن جورج بوش وصحبه، هو المتّجه كالسهم إلى البيت الأبيض، دالّة إلى جدّة الحقبة التي تدخلها الولايات المتّحدة وندخلها معها. وأغلب الظنّ أن درجة ملموسة من التدخّل الدولتيّ ستتكرّس على نحو قد يزاوج بين التقليد الليبراليّ، بمعناه القديم والرفيع، والتقليد الاشتراكيّ الديموقراطيّ.
وترتفع اليوم، في بيئة الاقتصاديّين ولكنْ أيضاً في بيئة السياسيّين، النبرة التي تقول إن مكوّنات النظام الاقتصاديّ الدوليّ معرّضة كلّها لتغيير مطلوب، يفرّع محاور القوّة ويعدّدها ويستبدل الأدوات والأجسام التي ابتكرتها مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، كالبنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ، بأدوات وأجسام أخرى. ولا بأس بالتذكير، هنا، بأن الأزمة الماليّة الأخيرة، الراهنة، قد ترافقت مع الوصول الصينيّ إلى القمر، وهو من إمارات «عظمة» الدول في زمننا، فيما تعلن الهند قرب إطلاقها قمرها. وهذا وذاك بعد أسابيع قليلة على الافتتاح الهيوليّ والمشهديّ للألعاب الأولمبيّة في بكين، وهو أيضاً مِعلم آخر على «العظمة». فإذا أضفنا ذلك مجتمعاً إلى «الانبعاث الروسيّ» كما تبدّى في جورجيا، مستدعياً التكهّنات حول «حرب باردة» جديدة، شارفنا على معنى التعبير العائد بقوّة إلى التداول: سياسات واقعيّة بدل السياسات الإيديولوجيّة، وتالياً تراجع في أمر الديموقراطيّة وحقوق الإنسان و «المجتمع المدنيّ» لصالح سياسات مدارها الدول.
وهذه، إذا ما كُتب لها التحقّق، اتّجاهات تستند إلى مرتكزات جدّيّة في الواقع الدوليّ. بيد أنّها قد تفضي إلى احتمالات لا تزال غامضة ومربكة يتصدّرها، في ما خصّ منطقتنا، إشكال الدولة.
ذاك أن الفارق كبير، وكبير جدّاً، بين عقلنة السياسات والتخلّص من الحماسيّات الانفعاليّة في ما خصّ الديموقراطيّة (التي لا تمتلك أيّاً من شروطها) وبين اعتبار السلطات القائمة، المعزّزة بالاستبداد، هي الدول، أي أنّها هي المعطى «الطبيعيّ» الذي ينبغي التعامل معه، ولا ينبغي التعامل مع سواه.
والفارق هذا قد يتحوّل تناقضاً في حالات يصطدم فيها إنشاء الدول برغبة سلطات عسكريّة واستبداديّة تقيم في جوارها تحول دون ذاك الإنشاء. يصحّ ذلك في حالات بلدان كجورجيا قياساً بروسيّا أو لبنان قياساً بسوريّة. وهو ما قد تعمل تطوّرات كثيرة على مفاقمته: فلنتخيّل للحظة مثلاً أن ينسحب الأميركيّون من العراق، بعد انتخاب أوباما المرجّح، وأن يغدو تقسيمه مطروحاً على الطاولة. ذاك أنّه سيصير في حكم المؤكّد، والحال هذه، أن السلطة الحاكمة في إيران ستحظى بهديّة ضخمة أخرى تضاعف سلطانها على الواقع العراقيّ الجديد، كائناً ما كان اسمه أو اسم مكوّناته.
وقد يرتسم في غد هذه المنطقة، والمناطق التي تشبهها، كثير من الفوضى، وقد تعمل الميول الانسحابيّة للولايات المتّحدة، وربّما لأوروبا الغربيّة، على تعميق الفوضى المذكورة. لكن هذا سلوك لن يُعدم، في حال اعتماده، حجّته القويّة، وهي أن على شعوبنا أن تتحمّل بنفسها مسؤوليّة نفسها. فإذا لم نفعل، ومن الصعب أن نفعل، دفعنا كلفة العقلانيّة في السياسة بعد دفع أكلاف اللاعقلانيّة في الطور الآفل، ودفعنا كلفة الانسحاب الغربيّ بعد دفعنا كلفة الاقتحام.
الحياة – 11/10/08