انهيار أميركا المؤسسة
فرانسيس فوكوياما
ما كان لانهيار وول ستريت أن يكون بهذا القدر من الضخامة لولا انفجار أكبر مصارف الاستثمار في أميركا من الداخل, وتلاشي تريليون دولار ونيف من ثروات أسواق الأسهم في يوم واحد, ولولا مبلغ 700 مليار دولار الذي يتعين على دافعي الضرائب الأميركيين تحمله.
ورغم تساؤل الأميركيين عن السبب الذي يضطرهم لدفع مثل هذه المبالغ الهائلة للحيلولة دون تداعي الاقتصاد, فإن نفرا قليلا يعكفون على تقييم الخسارة التي هي غير ملموسة ولكنها تحمل في طياتها تبعات أكبر بكثير على الولايات المتحدة، ألا وهي مدى الضرر الذي يلحقه الانهيار المالي “بالنموذج” الأميركي.
ولعل المفاهيم هي أحد أهم صادراتنا حتى إن اثنتين من الأفكار الأميركية هي التي ظلت تهيمن على الفكر العالمي منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين عندما انتخب رونالد ريغان رئيسا.
وأولى تلك الأفكار كانت تنطوي على بعض من مفاهيم الرأسمالية وهي فكرة تقوم على إثبات أن فرض ضرائب مخفضة, ووضع ضوابط مخففة, ووجود حكومة مقيدة الصلاحية، هي محرك النمو الاقتصادي.
لقد عكست الريغانية رأسا على عقب نزعة كانت سائدة قرنا من الزمان، مستندة على مبدأ منح الحكومة سلطات أكبر. ولم يعد تحرير الاقتصاد من القيود هو المبدأ السائد في الولايات المتحدة وحدها بل في سائر أرجاء المعمورة.
أما ثانية الأفكار الكبيرة فتمثلت في لعب أميركا دور المروج للديمقراطية الليبرالية حول العالم, تلك الديمقراطية التي كان ينظر إليها على أنها المسار الأمثل نحو إرساء نظام دولي أكثر ازدهارا وانفتاحا.
إن أميركا لم تستمد سلطانها ونفوذها من دباباتنا ودولاراتنا, ولكن من إحساس السواد الأعظم من الناس بجاذبية النمط الأميركي في الحكم مما جعلهم يتوقون إلى إعادة صياغة مجتمعاتهم على نفس الشاكلة التي أطلق عليها أستاذ العلوم السياسية جوزيف ناي مصطلح “قوتنا الناعمة”.
ومن العسير أن ندرك كنه الضرر الذي لحق بالنموذج الأميركي في سماته المميزة. ففي السنوات ما بين 2002 و2007, عندما كان العالم يمر بفترة غير مسبوقة من النمو, كان من السهل تجاهل أولئك الاشتراكيين الأوروبيين والمدافعين عن حقوق عامة الناس ممن شجبوا النموذج الاقتصادي الأميركي ووصفوه بأنه “رأسمالية رعاة البقر”.
غير أن محرك ذلك النمو, الذي هو الاقتصاد الأميركي، قد خرج من سكته وهو ينذر بسحب بقية العالم معه، والأدهى والأمر أن الجاني هو النموذج الأميركي بذاته.
وبتبني مبدأ تقليص سيطرة الدولة, أخفقت واشنطن في ضبط القطاع المالي على نحو واف وأفسحت المجال للحكومة لتلحق ضررا بليغا بباقي المجتمع.
على أن الديمقراطية فقدت بريقها حتى قبل ذلك، فعندما ثبت أن صدام حسين لا يمتلك أسلحة دمار شامل التمست إدارة بوش تبرير شن حرب على العراق بربطها “ببرنامج حريات” عريض.
وسرعان ما أصبح نشر الديمقراطية هو السلاح الرئيسي في الحرب على الإرهاب، وبدا الخطاب الأميركي عند الكثيرين في مختلف أرجاء العالم أشبه بالمبرر الذي يسوغ تعزيز الهيمنة الأميركية.
إن الخيار الذي نواجهه اليوم يذهب إلى أبعد من خطة الإنقاذ أو حملة الانتخابات الرئاسية, فالنموذج الأميركي يقف على المحك على نحو مؤلم في وقت تبدو فيه النماذج الأخرى الصيني منها أو الروسي أكثر جاذبية.
إن استعادة سمعتنا وإنعاش بريق نموذجنا يعد في أكثر من منحى تحديا يضاهي في ضخامته إعادة التوازن إلى القطاع المالي. وسيضفي كل من باراك أوباما وجون ماكين زخما مختلفا لهذا الجهد, بيد أنه سيكون عملا شاقا ويستغرق سنوات طويلة لكليهما.
ولا يمكننا أن نشرع في العمل قبل أن نفهم بوضوح ما وقع من أخطاء، وما هي سمات النموذج الأميركي التي حافظت على متانتها وتلك التي لم تطبق على نحو سليم, وما تلك التي ينبغي التخلي عنها إجمالا.
وقد لاحظ كثير من المعلقين أن انهيار وول ستريت يمثل نهاية لعصر ريغان، وهم في ذلك قد أصابوا كبد الحقيقة بلا ريب, حتى لو انتخب ماكين رئيسا في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
إن الأفكار العظيمة تولد في سياق حقبة تاريخية بعينها، وقلة هي تلك التي تبقى على قيد الحياة حينما يتبدل السياق على نحو مثير ومفاجئ, وهذا ما يفسر ميل السياسة إلى التحول يسارا تارة ويمينا تارة أخرى في دورات تمتد أجيالا.
لقد كانت الريغانية (أو التاتشرية في بريطانيا) ملائمة لعصرها، ومنذ تبني سياسة “العهد الجديد” التي سنها فرانكلين روزفلت في ثلاثينيات القرن الماضي والحكومات في كافة أنحاء العالم تكبر أكثر وأكثر.
وبحلول سبعينيات القرن العشرين اتضح أن دول واقتصادات الرفاه الاجتماعي التي كبلتها البيروقراطية تعاني من خلل وظيفي كبير، فقد كانت الهواتف حينذاك باهظة التكلفة وصعبة المنال, وكان السفر بالجو ترفا ينعم به الأغنياء, وأودع معظم الناس مدخراتهم في حسابات مصرفية بنسب فوائد منخفضة ومعدلة.
ولم تشكل برامج على شاكلة برنامج المساعدات للأسر التي تعيل أطفالا حافزا يدفع الأسر الفقيرة للعمل وللحفاظ على علاقاتهم الزوجية فكان أن انهارت تلك الأسر.
وقد جعلت الثورة الريغانية التاتشرية من اليسير استخدام العمال وفصلهم، مما أحدث ألما مبرحا في وقت انكمشت فيه الصناعات التقليدية أو توقفت عن العمل.
لكن تلك الثورة أرست قواعد نمو امتد ثلاثة عقود من الزمان تقريبا وأدت إلى بروز قطاعات جديدة مثل تقنية المعلومات والتكنولوجيا الحيوية.
وعلى الصعيد الدولي, تحولت ثورة ريغان إلى “إجماع واشنطن”, مارست بموجبه واشنطن –والمؤسسات التي تدور في فلكها مثل صندوق النقد والبنك الدوليين- ضغوطا على الدول النامية لتحرير اقتصادها.
ومع أن المدافعين عن حقوق العامة من أمثال الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز ظلوا يستخفون بإجماع واشنطن فقد نجح في الحد من غلواء أزمة الديون في أميركا اللاتينية في مطلع ثمانينيات القرن الفائت عندما أصابت موجة التضخم الجامح بلدانا مثل الأرجنتين والبرازيل.
وكان لتلك السياسات التي تشجع تبني اقتصاد السوق الفضل في جعل الصين والهند قوى اقتصادية اليوم.
وإن كان ثمة من هو بحاجة لمزيد من البراهين فعليه أن ينظر إلى أمثلة صارخة لحكومات كبرى في العالم كالاتحاد السوفياتي السابق ودول شيوعية أخرى تبنت الاقتصاد المركزي.
وفي سبعينيات القرن الماضي تراجعت تلك الدول عمليا وراء غريماتها الرأسمالية في جميع المجالات، وكان انفجارها من الداخل بعد سقوط سور برلين دليلا على أن تلك الدول بلغت نهايتها التاريخية.
وكدأب كل الحركات التي تنزع للتغيير, ضلت ثورة ريغان طريقها بعد أن أصبحت في نظر العديد من أتباعها عقيدة منزهة عن العيب وليست ردا عمليا على تجاوزات النظام الاشتراكي.
وانطوت تلك الثورة على مفهومين أضفت عليهما قداسة, تمثل أولهما في أن خفض الضرائب سيكون ذاتي التمويل، بينما يقوم الثاني على أن الأسواق المالية ستتضمن آلية ضبط ذاتي.
وقبل ثمانينيات القرن العشرين, كان المحافظون ينتهجون سياسة مالية تقليدية, بمعنى أنهم كانوا يمتنعون عن إنفاق أكثر مما كانوا يحصلون عليه من ضرائب.
بيد أن السياسات الاقتصادية في عهد ريغان تبنت الفكرة القائلة بأن أي خفض للضرائب سيحفز من الناحية العملية النمو بما يتيح تدفق مزيد من الإيرادات على الحكومة في نهاية المطاف (ما يسمى منحنى لافر).
إن النظرة التقليدية القائلة بأن خفض الضرائب من دون الحد من الإنفاق سيفضي إلى عجز ضار هي في واقع الأمر رؤية صحيحة. وهكذا فقد تسببت سياسة ريغان بخفض الضرائب في الثمانينيات في عجز كبير, فيما حققت الزيادات الضريبية في عهد كلينتون في التسعينيات فائضا, كما أدى الخفض الضريبي في عهد بوش في مطلع القرن الحادي والعشرين إلى عجز أكبر.
إن حقيقة أن الاقتصاد الأميركي نما سريعا في عهد كلينتون مقارنة بفترة ريغان لم يهز بطريقة أو بأخرى ثقة المحافظين في سياسة الخفض الضريبي باعتبارها المفتاح الأكيد للنمو.
والأهم أن العولمة ظلت تحجب العيوب التي اعترت هذه الفكرة لسنوات عديدة، وبدا الأجانب ميالون دوما لاقتناء الدولار الأميركي مما سمح للحكومة الأميركية بأن تراكم العجوزات بينما تنعم في الوقت نفسه بنمو مرتفع, وهذا هو ما لم يتح لأية دولة نامية.
ولعل هذا ما حدا بنائب الرئيس ديك تشيني أن يبلغ الرئيس بوش في وقت مبكر أن العبرة المستقاة من حقبة الثمانينيات هي أن “العجز لا يهم”.
إن ثاني اعتقاد جوهري كان سائدا في عهد ريغان –ألا وهو تحرير أسواق المال من القيود- تحقق بضغط من حلف غير مقدس بين مناصرين مخلصين للمبدأ والشركات العاملة في مركز وول ستريت المالي, وهو ما قبله أيضا الديمقراطيون كإنجيل في التسعينيات.
وقد كانت حجتهم أن النظم السارية منذ وقت طويل, مثل قانون غلاس-ستيغال إبان فترة الكساد العظيم (وهو التشريع الذي فصل الصيرفة التجارية عن المالية), أعاقت الابتكار وقضت على روح التنافس بين المؤسسات المالية الأميركية.
لقد كانوا على الحق, فقد أفرزت سياسة التحرير وحدها طوفانا من المنتجات الجديدة المبتكرة كسندات الدين المكفولة بضمانات إضافية, والتي هي جوهر الأزمة الراهنة. وما زال بعض الجمهوريين لم يستوعبوا هذه النقطة ويتجلى ذلك في الاقتراح الذي قدموه بديلا عن مشروع قانون الإنقاذ الذي يتضمن خفضا ضريبيا أكبر لصناديق التحوط.
إن المشكلة تكمن في أن وول ستريت يختلف كثيرا عن وادي السيليكون, مثلا, حيث تكون آلية الضبط الخفيفة نافعة حقا.
وتقوم المؤسسات المالية على الثقة التي لا يمكن أن تزدهر إلا إذا ضمنت الحكومات شفافيتها وقيدت حركتها في خوض المخاطر بأموال أناس آخرين. كما أن وول ستريت يختلف لأن انهيار مؤسسة تجارية فيه لا يؤذي حملة الأسهم والموظفين وحدهم بل إن الضرر يلحق كذلك بجمهرة من المتفرجين الأبرياء.
إن المؤشرات التي تدل على أن ثورة ريغان قد حادت عن الطريق على نحو خطير بدت جلية للعيان طوال العقد المنصرم. فقد كانت الأزمة المالية الآسيوية في 1997-1998 بمثابة إنذار مبكر.
فدول مثل تايلند وكوريا الجنوبية, التي اهتدت بنصيحة أميركا وانصاعت لضغوطها، حرّرت أسواق المال فيها في أوائل التسعينيات, وبدأت الاستثمارات ذات العائد السريع تتدفق على اقتصاداتها ونجم عنها فقاعة اتسمت بطابع المضاربة, ثم ما لبثت أن هربت إلى الخارج مع بروز أول علامات للأزمة.
وفي غضون ذلك, فإن الدول التي لم تأخذ بنصائح أميركا كالصين وماليزيا فأبقت على أسواقها المالية موصدة أو محكومة بضوابط صارمة وجدت نفسها أقل عرضة للأزمة.
ويتمثل الإنذار الثاني في تراكم العجز الهيكلي الأميركي، فقد شرعت الصين ودول أخرى في شراء الدولارات الأميركية بعد العام 1997 ضمن إستراتيجية مدروسة لتخفيض عملاتها, وضمان دوران عجلات مصانعها, وحماية نفسها من الصدمات المالية.
وقد بدا ذلك مناسبا تماما لأميركا ما بعد 11/9, إذ كان يعني أن بإمكاننا خفض الضرائب, وتمويل النهم للاستهلاك, وتغطية التكاليف الباهظة للحروب, وتكبد عجز مالي في الوقت ذاته.
وكان من الواضح أن العجوزات التجارية المذهلة والمتزايدة التي أفرزتها تلك الأوضاع -700 مليار دولار سنويا بحلول عام 2007- لا تطاق, فالأجانب عاجلا أو آجلا سيستنتجون أن أميركا لم تعد ذلك المكان العظيم الذي يمكن إيداع أموالهم فيه. وتراجع الدولار الأميركي ينبئ أننا وصلنا تلك النقطة، ومن الجلي وعلى نقيض ما صدع به تشيني أن العجز “يهم”.
وحتى محليا كان اختلال النظام واضحا فترة قبل انهيار وول ستريت, ففي كاليفورنيا خرجت أسعار الكهرباء عن نطاق السيطرة في العام 2001-2002 نتيجة تحرير سوق الطاقة من الأنظمة والقيود, وهو ما استغلته مؤسسات عديمة الأخلاق كشركة أنرون لصالحها. أنرون نفسها انهارت صحبة عدد من الشركات الأخرى عام 2004 لأن معايير المحاسبة لم تفرض بصورة ملائمة.
ولقد زادت نسبة التفاوت خلال العقد الماضي بين الأميركيين لأن مكاسب الاقتصاد راحت بصورة غير متكافئة إلى الأميركيين الأكثر مالا والأفضل تعليما, بينما ظل دخل الطبقة العمالية راكدا, ثم جاء احتلال العراق والتعامل مع إعصار كاترينا ليكشف ضعف القطاع العام من رأسه إلى أخمص قدميه نتيجة عقود من التمويل الناقص وقلة الاهتمام بالموظفين الحكوميين منذ سنوات ريغان في الحكم.
كل هذا كان من المفترض أن يؤدي إلى نهاية عهد ريغان منذ أمد بعيد, لكن ذلك لم يقع, وهو ما يعود جزئيا إلى فشل الحزب الديمقراطي في تقديم مرشحين مقبولين لدى الأميركيين أو مبررات مقنعة, وأيضا بسبب مظهر خاص بأميركا يجعلها مختلفة عن أوروبا.
ففي أوروبا يصوت المواطنون الأقل ثقافة والطبقة العمالية بصورة شبه دائمة للأحزاب الاشتراكية والشيوعية والأحزاب اليسارية الأخرى تبعا لمصالحهم الاقتصادية, أما في الولايات المتحدة فيمكنهم التحول من هذا الحزب إلى ذاك يسارا أو يمينا.
فمثلا هذه الطبقة كانت جزءا ممن التفوا حول التحالف الديمقراطي الكبير الذي أنشأه الرئيس روزفلت خلال “العهد الجديد”, ذلك التحالف الذي ظل يشق طريقه خلال فترة حكم ليندون جونسون في ستينيات القرن الماضي.
لكنهم بدؤوا في التصويت للحزب الجمهوري خلال فترة نيكسون وريغان, ثم تحولوا في تسعينيات القرن الماضي إلى التصويت للديمقراطي بيل كلينتون, قبل أن يعودوا من جديد للعباءة الجمهورية خلال حكم الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش, وهم عادة ما يختارون التصويت للحزب الجمهوري إذا كان التركيز في الحملة الانتخابية منصبا على القضايا الدينية والوطنية والقيم العائلية وامتلاك السلاح بدلا من القضايا الاقتصادية.
وهذا الصنف من الناخبين هو الذي سيحدد نتيجة انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني القادمة, خاصة أن وجودهم يتركز في ولايات تتأرجح في انتمائها بين الديمقراطيين والجمهوريين كولايتي أوهايو وبينسلفانيا.
فهل سيميلون لخريج جامعة هارفارد باراك أوباما الذي يمثل بصورة أفضل مصالحهم الاقتصادية؟ أم هل سيتشبثون بأناس يحسون أنهم يشاطرونهم نفس القيم كماكين وبالين؟
قد احتاج الديمقراطيون في الولايات المتحدة لأزمة بحجم أزمة 1929-1931 ليصلوا إلى سدة الحكم, كما تظهر استطلاعات الرأي الآن أنهم ربما وصلوا إلى تلك المرحلة في أكتوبر/تشرين الأول 2008.
والعنصر الحاسم الآخر في الماركة الأميركية هو الديمقراطية واستعداد الولايات المتحدة لتقديم العون للديمقراطيات الأخرى عبر العالم. فقد ظل هذا الخط المثالي عنصرا ثابتا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة طيلة القرن الماضي, بدءا بعصبة الأمم في عهد وودوورد ويلسون مرورا بالحريات الأربع لروزفلت وانتهاء بدعوة ريغان الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشيف إلى “هدّ هذا الجدار”.
فالترويج للديمقراطية –عبر الدبلوماسية ومساعدة جماعات المجتمع المدني والإعلام الحر وما شابه ذلك- لم يكن أبدا مثار جدل, لكن المشكلة الآن هي استخدام الديمقراطية لتبرير الحرب على العراق, فإدارة بوش قدمت للكثيرين “الديمقراطية” على أنها كلمة السر لتدخلها في العراق وتغيير نظامه. (لكن الفوضى التي نتجت عن ذلك لم تساعد في تحسين صورة الديمقراطية).
فالشرق الأوسط بالذات حقل ألغام بالنسبة لأي إدارة أميركية, لأن الولايات المتحدة تدعم أنظمة غير ديمقراطية كالسعودية, وترفض التعامل مع مجموعات وصلت إلى الحكم عبر الانتخابات كحماس وحزب الله, فليس لدينا مصداقية تذكر عندما نحاول تقديم أنفسنا على أننا أبطال “أجندة الحرية”.
ثم إن النموذج الأميركي تلطخ بشكل خطير بسبب استخدام إدارة بوش التعذيب في حق المعتقلين, إذ بدا الأميركيون بعد أحداث 11/9 مستعدين بصورة مزعجة للتخلي عن الحصانة الدستورية مقابل الأمن.
ومنذ الكشف عن تلك الانتهاكات حل معتقل غوانتانامو والسجين المقنع في أبو غريب محل تمثال الحرية كرمز للولايات المتحدة في عيون غير الأميركيين.
وأيا كان من سيفوز في الانتخابات الرئاسية بعد شهر من الآن, فإن تغيرا نحو دورة جديدة من السياسة الأميركية والدولية قد بدأ بالفعل, ومن المتوقع أن يزيد الحزب الديمقراطي من أغلبيته في مجلس النواب والشيوخ.
كما أنه من المتوقع أن يتفاقم غضب شعبي أميركي هائل في الوقت الذي بدأ فيه انهيار وول ستريت ينتقل إلى مركز المؤسسات الاقتصادية الصغرى, إذ قد اتضح بالفعل وجود إجماع متزايد على ضرورة وضع نظم وقوانين لأجزاء كبيرة في الاقتصاد.
وعلى الصعيد الدولي, لم تعد الولايات المتحدة تتمتع بالوضع المهيمن الذي كانت تحظى به حتى الآن, وهو ما أثبته الغزو الروسي لجورجيا في السابع من أغسطس/آب الماضي. وستتداعى قدرة أميركا على تشكيل الاقتصاد العالمي عبر اتفاقيات التجارة وصندوق النقد والبنك الدوليين، وتتضاءل الموارد المالية. كما أن الأفكار الأميركية وحتى المساعدات لن تحظى بالترحيب في كثير من أرجاء المعمورة كما هي الآن.
وفي ظل هذه الظروف، أي من المرشحين مؤهل لإعادة صياغة النموذج الأميركي؟ من الواضح أن باراك أوباما يحمل أقل شيء في جعبته من الماضي القريب ويسعى بأسلوبه الثوري إلى تجاوز الانقسامات السياسية. وهو في الواقع يبدو برغماتيا وليس أيديولوجيا.
ولكن مهاراته في حشد إجماع الآراء ستختبر إلى حد بعيد عندما يضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة تجعله يستقطب إليه الجمهوريين إلى جانب الديمقراطيين الجموحين.
فماكين من جانبه تحدث في الأسابيع الماضية مثل ما تحدث تيدي روزفيليت حين انتقد وول ستريت وطالب برأس رئيس لجنة الأمن والصيرفة كريس كوكس. وربما يكون الجمهوري الوحيد الذي يستطيع أن يعيد حزبه بشكل مثير ولافت إلى ما بعد حقبة ريغان، على أن الإحساس الذي ينتاب المرء هو أنه لم يقرر بعد أي نوع من الجمهوريين هو، وما المبادئ التي يجب أن تحدد معالم أميركا الجديدة؟
إن النفوذ الأميركي يستطيع أن يعود في نهاية المطاف، وبما أن العالم كله من المحتمل أن يعاني من هذا التراجع الاقتصادي، فإنه من الواضح أن الصيغ الصينية والروسية لن تكون أفضل من النموذج الأميركي، خاصة أن الولايات المتحدة تعافت من كوارث خطيرة في الثلاثينيات والسبعينيات من القرن الماضي بفضل ما يتمتع به نظامنا وشعبنا من مرونة وقدرة على التكيف.
ولكن عودة البلاد مجددا مرهونة بقدرتنا على إجراء بعض التغييرات الجوهرية: أولها أن علينا الخروج من عباءة حقبة ريغان فيما يتعلق بالضرائب والقوانين، لأن خفض الضرائب يبدو جيدا ولكنه لا يحفز بالضرورة على النمو ولا يعوض الحكومة عما خسرته من تلك التخفيضات.
وفي ضوء الحالة المالية الطويلة المدى لا بد من تبليغ الأميركيين صراحة بأن عليهم أن يتجنبوا الاقتراض في المستقبل. إن تحرير الاقتصاد أو فشل المشرعين في مجاراة أسواق سريعة الحركة، قد يكلف الكثير كما رأينا.
ولهذا لا بد من إعادة بناء القطاع الحكومي الأميركي برمته واستعادة مشاعر الفخر به، والتغلب على ما يعانيه من قلة التمويل وانعدام الحرفية والثقة المتزعزعة. وهناك مهام معينة لا يستطيع أحد القيام بها سوى الحكومة.
وعندما نباشر هذه التغييرات يبقى خطر المبالغة في التصحيح. فالمؤسسات المالية تحتاج إلى رقابة صارمة، ولكن من غير الواضح أن القطاعات الاقتصادية الأخرى قد تفعل الشيء ذاته.
وتبقى التجارة الحرة هي المحرك القوي لنمو الاقتصاد وأداة للدبلوماسية الأميركية. وعلينا تقديم مساعدات أفضل للعاملين الذين يحاولون التكيف مع الظروف العالمية المتغيرة بدلا من الدفاع عن وظائفهم القائمة.
وإذا لم يكن خفض الضرائب طريقا للازدهار التلقائي، فلن يتحقق ذلك عبر الإنفاق الاجتماعي غير المقيد. إن تكلفة خطط الإنقاذ وضعف الدولار على المدى الطويل يعني أن التضخم سيشكل تهديدا خطيرا في المستقبل. وأي سياسة مالية غير مسؤولة ستعقد المشكلة.
ورغم أنه من غير المرجح أن يستمع كثير من غير الأميركيين إلى نصائحنا، فإن كثيرين سيجنون فوائد من محاكاتهم جوانب معينة من حقبة ريغان, ولن يكون من بينها بالطبع سياسة تحرير الأسواق المالية. ولكن العمال في أوروبا ما زالوا يحصلون على إجازات طويلة وأسابيع عمل قصيرة، وضمانات وظيفية والعديد من المزايا الأخرى التي تضعف إنتاجيتهم، ولن تكون قابلة للاستمرار من الناحية المالية.
إن الرد غير المناسب على أزمة وول ستريت يظهر أن أكبر تغيير يجب أن نجريه هو سياساتنا. فقد كسرت ثورة ريغان هيمنة الليبراليين والديمقراطيين على السياسات الأميركية التي امتدت 50 عاما، وأفسحت المجال للتعاطي مع المشاكل بطرق مختلفة.
ولكن ما كان أفكارا جديدة في يوم من الأيام ازدادت تشددا مع مرور السنوات، وأصبحت عقائد قديمة.
لقد أضيفت غلظة على نوعية الجدل السياسي من قبل الموالين للأحزاب الذين لا يشككون في أفكار معارضيهم فحسب بل بدوافعهم كذلك. وكل هذا يجعل من الصعوبة بمكان التكيف مع الواقع الجديد والصعب الذي نواجهه.
لذلك فإن الاختبار الأخير للنموذج الأميركي يكمن في قدرته على إعادة اكتشاف نفسه، ذلك أن صياغة نموذج لأميركا لم يعد مجرد وضع أحمر الشفاه على خنزير -إذا اقتبسنا عبارة أحد المرشحين للرئاسة الأميركية- بل الحصول على المنتج المناسب لبيعه في المقام الأول. فالديمقراطية الأميركية قادرة على تحقيق النجاح.
نيوزويك