صفحات الحوار

ابريل غلاسبي السفيرة الأميركية في بغداد تروي لـ «الحياة» قصة اللقاء الأخير مع الرئيس العراقي قبل غزو الكويت

null

صدام دعاني لإبلاغ الرئيس «ألا يقلق… كل شيء سيكون على ما يرام»

كيب تاون – رندة تقي الدين

ابريل غلاسبي، السفيرة الأميركية السابقة في العراق التي حذرت صدام حسين من عواقب اجتياحه الكويت، تحملت لوم وزير الخارجية آنذاك جيمس بيكر الذي ألقى المسؤولية عليها وكأنها مسؤولة عن قرار صدام، بقيت صامتة طيلة خدمتها في السلك الديبلوماسي الأميركي. فالرئيس السابق جورج بوش (الرئيس آنذاك) دافع عنها في مذكراته،
وكان منصفاً لها. فغلاسبي، المستشرقة التي خدمت في سورية ولبنان والعراق، تعيش الآن في شقتها المطلة على الجبل في كيب تاون «مثلما في لبنان»، على حد قولها، وبين منزلها في كاليفورنيا. فهي متقاعدة وتدرّس في بعض أحياء كيب تاون المتأخرة والفقيرة، وتمارس هوايتها في تريبة خيول السباق، وتسافر إلى كاليفورنيا لتمضية باقي وقتها.

غلاسبي، التي لها صداقات عدة في لبنان وسورية، تسأل عن نائلة معوّض ووليد جنبلاط ومروان حمادة وغسان تويني، وتقول إنها تتابع أخبار لبنان من وراء شاشة التلفزيون في كيب تاون.

روت غلاسبي لـ «الحياة» وللمرة الأولى لصحيفة قصة لقائها الأخير مع صدام حسين، ونفت الرواية العراقية التي نُشرت بعد لقائها الرئيس العراقي أنها قالت له: «نحن لا نتدخل بخلافات حدودية بين بلدين»، ملقية مسؤولية الرواية على نائب الرئيس العراقي طارق عزيز الذي كان وزيراً للخارجية آنذاك. وقالت غلاسبي إن الجميع في إدارتها كان على علم بأنها نفذت توجيهات الخارجية الأميركية، إلا أنها اعتقدت بأن بيكر فضل تحميلها اللوم على تحمله بنفسه.

واعترفت غلاسبي في الحديث مع «الحياة» أن الكل أخطأ التقدير، هي والرئيس المصري حسني مبارك، عندما اعتقدا بأن صدام حسين لن يجتاح الكويت خلال الأيام التي تبعت اجتماعها معه. وروت ظروف حياة ديبلوماسية أجنبية في العراق والمراقبة الشديدة التي كان يخضع لها الديبلوماسيون الأجانب في بغداد. وقالت إن صدام كان يفكر بأنه كان أنقذ الدول الخليجية الصغرى من الخطر الإيراني، وأن هذا البلد الصغير الذي كان يعتبره ولاية أخيرة من العراق، كان عليه أن يُسدد دينه له، كونه أنقذه من الخطر الإيراني. وأشارت الى أنها اعتقدت بأن هذه الحسابات الخاطئة والجهل حملاه على اجتياح الكويت. وروت أن طارق عزيز قد يكون نصح صدام باجتياح الكويت في غياب جميع الديبلوماسيين من بغداد، خصوصاً أنها كانت غادرت لبضعة ايام في الوقت ذاته الذي غادر فيه السفيران الروسي والبريطاني.

وطالبت غلاسبي بديبلوماسية شجاعة وجريئة وخلاقة مع فهم غربي حقيقي للعداوات والانقسامات في العراق.

وأكدت قناعتها بأن حل القضية الفلسطينية هو المحور الأساس الذي ينبغي أن يتم، لأنه الصراع الذي له تشعباته في كل المنطقة، وأنه من الخطأ القول مثلما قيل بعد احتلال العراق، إن محور الصراع انتقل إلى مكان آخر.

وقالت غلاسبي إنها استغربت أن الرئيس الراحل حافظ الأسد ترك في 1984 سفارة إيران في دمشق كي تصدر ثورتها إلى لبنان، إذ أن سفير إيران في دمشق في حينه كان يتولى نقل السلاح إلى الجنوب والبقاع ويؤمن لمجموعة من الأشخاص استقلالية سيكون من الصعب جداً السيطرة عليها. وقالت إن الرئيس السوري الراحل كان محنكاً وشديد الذكاء وله روح النكتة ويرغب في ممازحة محاوريه في حين أن صدام حسين كان يُرعب أوساطه وينشر نوعاً من توتر يخيّم على أجواء لقاءاته.

وقالت إن نائب الرئيس السوري السابق عبدالحليم خدام كان صعباً ومتشدداً في التفاوض، وانها قامت بمهمات مكوكية بين خدام والرئيس اللبناني السابق أمين الجميل الذي وصفته بأنه كان حريصاً جداً على الدفاع عن حقوق وطنه، وأنه كان وفياً جداً للبنان.

وفي ما يأتي نص الحديث:

عندما طلب صدام حسين مقابلتك، لم تشكّي بأن هناك أمراً ما قيد الإعداد، إذ أنه لم يسبق أن التقى أياً من السفراء؟

– كان يلتقي السفراء في بعض المناسبات، والتقيته مرة وإنما ليس على انفراد. فهو كان يتلقى أوراق اعتماد السفراء بنفسه، لكنه لم يكن يستقبل أي سفير جديد يقدم أوراق اعتماده.

بالنسبة إلى لقائي معه قبل أسبوع من اجتياح الكويت سنة 1990، تلقيت اتصالاً من وزارة الخارجية، فاعتقدت أنهم اتصلوا لإبلاغي بالتوجه إلى وزارة الخارجية لمقابلة نزار حمدون الذي كان نائباً لطارق عزيز، أو ربما عزيز نفسه، فاكتفوا بالقول لي بالحضور إلى الوزارة من دون تحديد الشخص الذي سأقابله.

ولدى وصولي وضعوني في سيارة مجهولة مع سائق مجهول وطلبوا منه اصطحابي إلى مكان ما، فأردت أن أعرف إلى أين سأتجه في هذه السيارة، فقالوا لي إلى الرئاسة. وأثناء الطريق لم أكن أفكر بأنني ذاهبة لرؤية صدام، إنما لألتقي شخصاً آخر. وعندما أدركت أنه هو الذي سألقاه، فكرت بأنه ليس مستحيلاً أن تكون الانذارات القوية التي وجهتها إلى العراقيين عبر نزار حمدون، خصوصاً تلك الموجهة إلى السفير العراقي في واشنطن من جانب مساعد وزير الخارجية الأميركي، لم تصله لأن الكل كان يرتعب منه، لذا اعتبرت أنها مناسبة جيدة لي لتكرار التعليمات التي وصلتني من الادارة ومفادها «لا تحتل الكويت وارفع يديك عن هذا البلد».

وعندما استدعي السفير العراقي في واشنطن إلى وزارة الخارجية، تم ابلاغه بعدم احتلال الكويت وبضرورة ابلاغ بغداد بهذه التعليمات فوراً.

الكل كان قلقاً في العالم العربي، إذ أن الرجل معروف بعبثيته لذا، وما أن انتهى اجتماع واشنطن، كررت هذه «التعليمات» لنزار حمدون في بغداد وقلت له إن رئيسي (جورج بوش) مهتم جداً بأن أبلغ رئيسكم فوراً بتحذيره بعدم احتلال الكويت.

بالطبع كان من غير المجدي في حينه طلب مقابلة صدام، لأنه كان يرفض ذلك دائماً… فلا يمكن مقابلة أحد في بغداد، وما من أجنبي كان يُسمح له بالاتصال مع ميشيل عفلق الذي كان مقيماً في المدينة، ويحتل موقعاً رفيعاً على رغم أنه خارج إطار رئاسة الجمهورية.

حول ماذا دار الحديث بينك وبين صدام، وهل كنت مطلعة على تجميع القوات العراقية على امتداد الحدود مع الكويت، وهل كانت الأقمار الاصطناعية التقطت ذلك؟

– ليس الأقمار الاصطناعيةّ فقط الكل في العراق كان يمكنه مشاهدة القوات وهي تتجه جنوباً. لم نكن نعرف عددها بالضبط، لكن ما شاهدناه كان كافياً لنفهم، مثلنا مثل الكويتيين، ما كان يجري، ما اثار قلقاً عميقاً لدى الجميع. إذاً، نعم كلنا على علم بما كان يُعد له. شهدنا زيارة الأمين العام للجامعة العربية وزيارة مبعوث مصري، إضافة إلى عدد من المبعوثين العرب الذين احيط وصول بعضهم بالتكتم، فلم نعلم بهم، لكن الكل كان قلقاً.

هل كان بمفرده عندما استدعاك وقابلته؟

– كلا، كان طارق عزيز حاضراً وأيضاً اثنان أو ثلاثة من معاونيه لتسجيل المحاضر.

هل خاطبك بشكل مباشر؟

– لا، ليس بشكل مباشر تماماً… بدأ ابلاغي كيف كان سلوك الكويتيين سيئاً، وتطرق أيضاً إلى الاجتماعات في جدة للقول إنهم كانوا منفعلين وألقى اللوم عليهم. وأثارت اتهاماته هذه للكويتيين لدي القلق من أن يكون ما سيقوله لاحقاً، سيعيدنا إلى الوراء 20 سنة عندما اعلن رئيس عراقي سابق أن الكويت جزء من الولاية الجنوبية للعراق . وتبادر الى ذهني أن هذا ما سيقوله. لكن على رغم ما كان تبقى لديه الكثير مما يقوله فقد أبلغته برسالتي.

لكن الصيغة التي قدمتها بغداد عن اللقاء جاء فيها انكِ قلتِ لصدام أن الحكومة الأميركية لا تتدخل في الخلافات الحدودية بين دولتين عربيتين، وهو ما اعتبره بمثابة ضوء أخضر اميركي لمهاجمة الكويت؟

– هذه الصيغة من اختراع طارق عزيز، المعروف عنه أنه سيد الكلام بصفته وزير إعلام سابق ورئيس تحرير لصحيفة. والمؤكد أنني لم اعطِ صدام أي فكرة من نوع اننا لن نتدخل في خلاف حدودي، بل إن ما قلته هو إنه «ينبغي ألا يتدخل لا في الكويت ولا في أي مكان آخر». ثم قُطع اللقاء. فوقف بتهذيب بعد دخول أحد الأشخاص، وقال أرجو المعذرة لدي اتصال هاتفي مهم. فجلسنا جميعاً ننتظر عودته. وعاد ليقول لنا إن الرئيس المصري حسني مبارك اتصل به وأنه أبلغ مبارك «أن عليه ألا يقلق، وأن ليس هناك مشكلة وأنه يتعامل مع الأمور من دون إثارة المشاكل وكل شيء سيكون على ما يرام». فقلت له انني سأبلغ رئيسي بكثير من السرور بأنك أكدت لي أنه لن تكون هناك مشكلة.

هل قلت له انك ذاهبة في اجازة؟

– كان بالطبع على علم بذلك. لأنه يتعين على أي ديبلوماسي أجنبي ابلاغ وزارة الخارجية للحصول على إذن. وهذا ينطبق على الديبلوماسيين العرب والأجانب. فعندما كان سفير الأردن في بغداد يرغب بالتوجه إلى بلده كان عليه أن يحصل على إذن من الوزارة، فصدام كان على علم بمغادرتي، وكنت أعد لعدم المغادرة عندما بدأ حشد القوات.

ما الذي حملك على تغيير رأيك والمغادرة في اجازة؟

– الحماقة! اعتقد أنه بعدما قاله صدام لي وما قاله لمبارك (الرئيس المصري)، وقد تحققت مما قاله لمبارك من سفيرنا في القاهرة أنه ليس احمق لدرجة تجعله يجتاح الكويت، بعد ابلاغه الشخصية الأكثر نفوذاً في العالمين العربي والغربي بأنه لن يقدم على ذلك. واعتبرت أن بأمكاني اصطحاب والدتي المريضة إلى البيت والقيام بجولة ثم العودة بعد خمسة أيام. وعندما كنت أودعه قال لي صدام شيئاً لا اذكره بدقة، إنما كان معناه بإمكانك الذهاب الآن، فارتاحي واستمتعي بالاجازة ولكن عليك ابلاغ رئيسك بالمشكلات التي يثيرها الكويتيون.

ويجب أن اضيف أن طارق عزيز مسؤول إلى درجة كبيرة جداً عن نصح صدام عند مغادرتي للبلاد، لأن السفيرين البريطاني والروسي كانا غادرا في اجازة، ولم يكن في بغداد أي من ديبلوماسيي الدول الكبرى، فمن الجدير بالاهتمام اننا كنا جميعاً خارج العراق عندما اجتاح الكويت.

بعض المصادر في وزارة الخارجية الأميركية أشار في حينه إلى عدم تلقيك تعليمات وتوجيهات من وزير الخارجية في حينه جيمس بيكر؟

– هذا غير صحيح. كانت لديّ تعليمات نقلتها. ولا بد من القول إن الاجتماع في واشنطن مع السفير العراقي في مقر وزارة الخارجية، تم قبل اسبوع من مغادرتي والتعليمات التي تلقيتها انبثقت عن هذا الاجتماع. فتوجهت الى وزارة الخارجية العراقية خمس مرات متتالية على ما اعتقد وكررت أنه ينبغي عدم القيام بأي عمل ضد الكويت.

وبالنسبة إلى مغادرتي، فقد كنت سألت قبل أسابيع عدة ما إذا كان بوسعي المغادرة، ولكن عندما أصبح الوضع مثقلاً بالتهديد اعتبرت أنه إذا قال صدام لي وللرئيس مبارك انه ليس هناك حرب، فإن الفرصة متوافرة أمامي لاصطحاب والدتي المريضة إلى البيت والتشاور مع وزير الخارجية.

وكانت هناك زيارة مهمة لوفد من الكونغرس كان من المقرر أن يصل إلى بغداد، فاعتقدت أنني سأعود في غضون خمسة أيام بحيث أكون موجودة خلال زيارة الوفد. وكنت آمل أن يلتقي صدام الوفد بحيث يدرك أنه ليست الحكومة الأميركية وحدها هي التي تطلب عدم اجتياح الكويت، بل ان الكونغرس والشعب الأميركي يعارضان هجومه على هذا البلد.

لقد كان صدام مثيراً للرعب، فكيف تعاملت معه خلال اللقاء، بأسلوب ديبلوماسي أم بقسوة؟

– كنت أمثل رئيس الولايات المتحدة، لم أكن بالطبع خائفة من صدام حسين، لكن ما كنت أخشاه هو أن يخطئ أو أن يسيء التقدير، مثلما فعل، كان العديدون في العالم عازمون على الحؤول دون ضمه للكويت، واعتقد أنه أساء فهم عدد كبير من العرب، كانت لديه فكرة عن أن السعوديين، وأيضاً دول الخليج الأخرى، ستسمح بتجمع القوات على أراضيها، لكن أنا على ثقة من أنه اساء فهم مدى عزم الحكومة الأميركية. فقد قال لي أحدهم مرة إنه سُمع يتحدث عن كيفية ان حرب فييتنام اثرت سلباً في قرار الحكومة والشعب في الولايات المتحدة، معتبراً أنه ليست لدينا الشجاعة الكافية للقيام بأي عمل.

مثل الشاه

الأمر الآخر الذي يمكن أن يُقال عنه هو انه كان جاهلاً لدرجة لا تصدق، على رغم أنه لم يكن رجلاً غشيماً. فقد صمم بدلة حزب «البعث» بحيث تكون شبيهة بالبدلات العسكرية، ونحن نعلم أنه لم يقاتل ولا لدقيقة واحدة، ولم يدخل الجيش على الاطلاق، ولم يكن يعرف شيئاً عن الجيوش. لكنه على غرار الشاه، كلما ازداد عظمة كلما اعتبر أنه ازداد معرفة، فأصبح فجأة خبيراً بالمعدات العسكرية وبالاصلاح الزراعي والثقافة وبكل شيء آخر. وحيال شخص يمتلك مثل هذه الذهنية، ويعتبر فوق كل هذا أن «الدولة هي أنا»، فإن مقاييس التعامل معه تكون بالغة الخطورة.

هل كان مصاباً بصمم تام، أم أنه أساء قراءة ما قلتيه له؟

– إنه، كما قلت، اعتقد أنه كان يستمع، وهو ليس غشيماً لدرجة أنه لا يستمع حتى ولو بإيجاز، لكنه اعتبر انني كنت أتحدث من تلقاء نفسي وأنه ليس لدى حكومتي أي قدر من الشجاعة، وأننا لن نقاتل، خصوصاً من أجل هذه الرقعة الصغيرة من الصحراء التي تمثلها الكويت. —

هل اعطاك الانطباع بأن القضية بالنسبة إليه هي سرقة الكويت للنفط، أم أنه مجرد شخص مصاب بجنون العظمة؟

– نعم، لقد كان مصاباً بجنون العظمة.

هل كان فعلاً مدعوماً من قبل بعض الحلفاء العرب مثل عاهل الأردن الملك حسين، وفقاً للاشاعات التي ترددت؟

– لا أبداً، فالملك حسين كان يعلم أنه من الخطر جداً التعامل مع مصاب بجنون العظمة، لأنه قد ينقلب ضدك لاحقاً. واعتقد أن كامل سيرته السياسية نابعة من الرغبة في تجاوز ماضيه المهين. فهو انطلق من لا شيء وصنع نفسه بنفسه وأدرك قوة العالم. ومن يزور ما يسمى بمتحف الثورة في بغداد يعتقد أنه سيشاهد قميص صدام، لكن ما يراه هو آلة الطباعة التي كان يستخدمها للكتابة لأتباعه. وقد تربى في وقت اعتقد فيه العراقيون أنهم يستحقون تزعم العالم العربي على غرار المصريين. فكان هنا ولم يكن أحداً متنبهاً إليه باستثناء أولئك الذين تولوا شؤون حياته. ولا بد أنه كان على معرفة جيدة بآيديولوجية «البعث» في شبابه. وما كان يجري لم يكن خيار الحزب وميشال عفلق، إنما ما يساعده على تزعم العالم العربي. وبأي حال، فإنه اعتبر أنه هو الذي وقف ضد العدو القديم وهزمه (الحرب على إيران) «سارق العروبة»، وفقاً لما اعتاد على قوله خلال حربه على إيران.

هل قال لكِ بعد ذلك اللقاء الشهير اذهبِي في اجازة ولا تقلقي لن أقوم بهجوم؟

– نعم قال لي اذهبي ومن فضلك أثناء وجودك هناك قولي لرئيسك ألا يقلق، لكن الوضع خطر هنا. فأجبت بالقول سأذهب لكنني سأعود سريعاً.

لماذا إذن كل هذا اللوم الذي صدر عن واشنطن حيالك وحيال جيمس بيكر؟

– إن الرئيس بوش كان رائعاً. وطلب مني الذهاب لمقابلته. والحديث الذي دار بيني وبينه حول الشرق الأوسط جعلني أشعر كأنني أتحدث مع أي شخصية مهمة من الشرق الأوسط يمكن أن تخطر على بالي. كان مسترسلاً في التفكير، وبدا شديد التفهم وشديد القلق وفقاً لما استوجبه الوضع. لكن كل شيء بقي عند هذا الحد. فما من أحد كان يرغب بتحمل اللوم. أما أنا فسعيدة لتحمل اللوم. ربما انني لم أكن قادرة على اقناع صدام بأننا سنقوم بما كنا نقوله، على رغم اعتقادي بصدق أن ما من أحد في العالم كان بإمكانه اقناعه. وعلى رغم انني أقنعت بعض المحيطين به بأننا نعني ما نقوله، فما من أحد كان يجرؤ على القول له إن حساباته السياسية حول العالمين العربي والغربي غير صحيحة، وان تحليله لوضع بلده كان خاطئاً، لأن الشيعة لم يكونوا يخافونه بالقدر الذي كان يعتقده.

ما هي التعليمات التي تلقيتها من واشنطن، واعتبروا أنكِ لم تنفذيها؟

– ليس هناك اطلاقاً ما لم أنفذه. فكل شيء كان معروفاً، وكنا أجرينا كل هذه الاجتماعات في وزارة الخارجية قبل أن أقابل صدام. كانوا يعلمون أنني قمت بما طُلب مني.

لكن هل حصل خطأ ما من جانب أحد ما؟ ولماذا هذا الحكم عليكِ كما لو أن هناك شيئاً خاطئاً؟

– لأن الجميع اعتقد بأن أمامنا متسع لالتقاط الانفاس. فالرئيس مبارك أدلى بتصريح قال فيه إنه تحدث مع صدام، وان ما من شيء سيحدث. لذا اعتقد اننا كنا جميعاً على خطأ، وأن كل واحد منا كان مخطئاً. أنا لست عربية، لكن بوسعي القول إنه حتى العرب كانوا مخطئين. فالكل استرخى بعض الشيء، معتبراً أنه لم ينفذ الهجوم على الفور. وبرأيي الشخصي وبمعزل عما نقله إليه سعدون حمادي بعد اجتماع جدة، فإن هذا الاجتماع جعله يتخذ قراره بعدم السماح لهذه الدولة الصغيرة بنظره، أي الكويت، التدخل مجدداً بما يعود إليه وإلى العراق. ويجب ألا تنسي أن قناعته الراسخة كانت أنه بوقوفه في وجه إيران، فإنه انقذ هذه الدول الصغيرة في المنطقة، وأنها مدينة له بالمال والاحترام. وبرأيي ان هذه الطريقة التي كان يفكر بها.

هل قال لكِ هذا؟

– كلا، لكن اعتبر أن هذا ما كان يفكر به.

ماذا عن القيادة الكويتية، ما الذي كان يجري معها وهل تحدثت إليها؟

– وهل كان بوسعهم أن يفعلوا المزيد؟ لقد أقمت في الكويت، وأحب كثيراً هذا البلد وشعبه المقدام وصاحب العقل التجاري. ولعل البيروتيين هم الأكثر قدرة على تفهم الكويتيين، فهم رجال أعمال أذكياء وعاشوا في تلك الفترة في ظل الشقيق الأكبر، وهذا لم يكن مريحاً. وفي ذاك الوقت، فإنهم بذلوا كل ما في وسعهم للحفاظ على سيادة دولتهم في وجه الذئب الذي يريد الانقضاض عليها.

هل تعتبرين أن اجتياح صدام للكويت كان بداية النهاية بالنسبة إليه؟

– لقد أثر فيه هذا بالتأكيد لكنه انعش استياء بالغاً في أوساط الشيعة في كربلاء والنجف، لأنهم تذكروا ما حدث في نهاية الحرب العراقية – الإيرانية. وقال لي استاذ عراقي مرموق في جامعة بغداد وهو من السنّة وتعرض لتعذيب في عهد صدام وغادر العراق قبل سنوات من الحرب، أمراً شديد الوضوح، لكننا أحياناً نغفل الأمور الواضحة. قال إن الأمر الوحيد في العالم الذي يحمل السنّة الذين أرهبهم صدام على الالتفاف وراءه، هو بروز إمكانية حقيقية لسيطرة الشيعة على بغداد، فهذا أمر واضح بالتأكيد لكن على من يعمل في الحقل الديبلوماسي أن يتذكره.

لكن الشيعة لم يتفقوا مع إيران خلال الحرب، بل دعموا صدام؟

– لم يبدوا أنهم مع إيران، لكنه كان دائم القلق من ذلك، وهذا ما جعله يتعامل معهم بقسوة أكبر.

منذ مغادرتك العراق، كيف تنظرين إلى ما حصل؟ وما رأيك بمحاكمة صدام ومقتل عدي وقصي؟

– الماضي هو الماضي، فإما أن نتعلم منه وإما لا. فالبريطانيون كان لديهم سلاح ممتاز هو Gatlin gun، وعلى رغم ذلك، فإنهم لم يتمكنوا من اخضاع العراق. ونحن حاولنا القيام بذلك، لكن تناقضات العراق ومشكلاته كافة طافت على الواجهة، والكل يتفق على ذلك. وما حصل لصدام كان على ما يبدو نتيجة قرار عراقي. واعتقد أنه كان قراراً صعباً بالتأكيد، فطالما بقي على قيد الحياة، فإن عدداً كبيراً من العراقيين كانوا سيخشون من ظهوره مجدداً. أما أن يتحول إلى شهيد، فهذا يمثل النقيض الآخر. وبأي حال ليس بوسعي أن أحكم على الموضوع، فهو موضوع عراقي وليس أميركي.

ولكن كيف نظرتي إلى المحاكمة وتطوراتها؟

– لا أعرف. فما قرأته كان في الصحف. وببساطة ليس بوسعي التعليق على المحاكمة.

هل تعتبرين أن الحرب الأميركية على العراق أمر جيد؟

– لقد قلت إن البريطانيين، على رغم التكنولوجيا المدهشة التي كانت لديهم في ذاك الوقت، بذلوا أقصى ما بوسعهم، وكانوا يتحدثون العربية، أكثر من قوات التحالف الحالية، كما كانت لديهم كل الخرائط وكانوا يعرفون كل بقعة في العراق من الشمال إلى الجنوب ولم يفلحوا. واعتقد أن أسباب عدم نجاحهم في متناول أي كان، وأن المصاعب ذاتها عادت الى البروز الآن. وكما قلت إن العامل الوحيد الذي يحمل السنّة على التماسك ودعم تكريت بعد غياب صدام هو خوفهم من أن يحكمهم الشيعة، وهذا واضح بالنسبة إلينا جميعاً.

هل تعتقدين أن العراق سيبقى طويلاً تحت الاحتلال؟ وهل سيكون بإمكان أي رئيس أميركي جديد الانسحاب منه؟

– افترض ان كل الأمور ممكنة وأن كلاً منها غير عاقل. والأمر الوحيد الذي يهمني حدوثه هو بلورة ديبلوماسية خلاقة ونشيطة وشجاعة. واعتقد انه ينبغي ان يكون هناك لدى الغرب فهم حقيق وأكثر عمقاً، للعداوات في العراق، فمن السهل الإدلاء بخطب للقول ان الأكراد مختلفون جداً عن العرب وان الشيعة العرب مختلفون جداً عن السنة. فالمصاعب القائمة على هذا الصعيد عميقة جداً ومعقدة وقديمة. وهذا ما ينبغي تفهمه بطريقة أفضل بكثير. وقد وبخت في إحدى المرات لأني قلت اني أخالف ما كان يقال في حينه، عن وجود محور أزمات جديد يقع خارج فلسطين.

من الذي وبّخك؟

– رئيسي هو الذي وبّخني. وأنا على قناعة حقيقية ان المفتاح الوحيد لجعل الأمور تتطور ايجاباً في الشرق الأوسط يبقى فلسطين، بسبب تأثيرها في المنطقة. والبعض في الغرب لا يتفهم مدى عمق هذا التأثير في المنطقة وليس فقط على الدول المجاورة. فـ «التطرف الإسلامي» هو نوع جديد من الكولونيالية التي تسعى لأن تفرض على العالم العربي فكرة، لا تتيح للشعب العربي حرية وإمكانية تحديد طريقه في ظل التسامح واحترام الآخر. واذا ما تحقق أمر ما على الصعيد العربي – الاسرائيلي، فلن يعود باستطاعة أشخاص مثل اسامة بن لادن، ضرب المدنيين العرب باسم فلسطين، كما ان الفلسطينيين لن يقبلوا بذلك. هذا بالإضافة الى الاستقرار الذي سينشأ شمالاً وصولاً الى لبنان والعالم العربي. نحن في حاجة الى ديبلوماسية بالغة الشجاعة والى قادة والى اجتماع مماثل لذلك الذي اقترحته لجنة بيكر – هاملتون. لكن الأمر لن يقتصر على اجتماع واحد، إذ ينبغي مثلاً الاجتماع والتباحث مع مسؤول ايراني رفيع وينبغي اشراك الجميع وعدم استبعاد الأتراك عن التعامل مع الموضوع العراقي وعدم تغييب المشكلة الاسرائيلية – العربية. وقد دهشت بالأصوات البالغة الشجاعة التي ارتفعت في الصف الفلسطيني وايضاً الاسرائيلي، نحن نحتاج الى هؤلاء الأشخاص للتقدم. خلال سنوات عملي في العالم العربي، كنت أرى اينما توجهت شعارات تقول «وحدة حرية اشتراكية». وبالنسبة إليّ فإن الأكثر أهمية اليوم، هو الحرية بكل ما لهذه الكلمة من معانٍ. فبعد أحداث قناة السويس، فرح المصريون ليس فقط بهزيمتهم الاستعمار، بل ايضاً لأنهم شعروا بأنهم كسبوا حرية تطوير أنفسهم وتطوير دولهم.

وبعد هذه الأحداث كان الأميركيون بمثابة أبطال لأنهم كانوا ضد الاستعمار، وايضاً بسبب هذا التعطش للحرية الذي كان الأكثر أهمية بالنسبة إلهم. والفرق بالغ بالطبع مع ما يريده ابن لادن، نظراً إلى ضرورة توقد التسامح والاحترام اللذين بدونهما لا يمكن التوصل الى تسوية سياسية واستقرار للأجيال المقبلة.

بالعودة الى العراق والكويت، ما هو حجم موضوع النفط في الحرب التي خاضها صدام؟

– لا يسعنى سوى ان أتكهن. فأنا لا اعتقد انه كانت للنفط أهمية كبرى على هذا الصعيد. الواقع انه كان يفكر على الشكل التالي: «نحن العراقيين نزفنا من أجلكم وسقط من بيننا مئات بل وألوف من الضحايا في الحرب ضد ايران، وأنتم لم تقاتلوا الى جانبنا، ونحن قمنا بذلك لأجلكم ولأجل العالم كله وعليكم مساعدتنا، فنحن في حاجة الى المزيد من المال».

لا يزال هناك سؤال لم تجيبي عليه بوضوح، وهو لماذا تعرضت للوم من قبل وزارة الخارجية؟

– لم يلمني الرئيس ولا الناطق الاعلامي ولا زملائي، إذا كان هناك من لامني، فيجب توجيه السؤال اليه. وربما انه إذا استوجب لومي، فإنه لم يكن ليُلام على ما اعتقد.

لكن لوم جيمس بيكر كان غير عادل لدرجة انه أثار هذا السؤال؟

– لقد قال لنا الرئيس كندي ان «الحياة غير عادلة»، وأنا لا اعرف الرجل ولم التقه ابداً قبل الحرب. لم التق ابداً بيكر في حياتي قبل الحرب. حتى ان المدة الأولى التي تحدثت فيها معه كانت عندما استدعاني الرئيس بوش لمقابلته وكان بيكر حاضراً خلال اللقاء، كانت هذه المرة الأولى التي التقي به.

عندما التقيته كيف جرت الأمور؟

– لا أعرف كنت أتحدث الى الرئيس. فكان اللقاء مع الرئيس. وقد رأيته مرات عدة لاحقاً، وكان اللقاء مع الرئيس مرضياً جداً.

ألم يدل بيكر بأي تعليق خلال اللقاء؟

– ليس بوسعي ان أتذكر. كان كولين باول موجوداً خلال اللقاء، وكان رئيساً لهيئة الأركان العامة، وكان ذلك قبل الهجوم الأميركي لإخراج العراقيين من الكويت.

لماذا قابلتِ الرئيس؟

– أراد الرئيس ان يناقش ما يمكن القيام به في العراق فدعا فريق عمله وطلب مني الحضور.

الرئيس إذن لم يستدعك ليوبخك؟

– كلا إطلاقاً، فما قاله هو ماذا نفعل الآن؟

هل كان يقرأ تقاريرك عن العراق؟

– أظن انه كان يقرأ موجزات لها. ففي إطار حكومتنا التقارير التي تأتي من الخارج تُلخص وترفع الى الرئيس كل صباح.

عندما كان الرئيس بوش يناقش ما يمكن القيام به في الكويت، هل كنت صوتاً مشجعاً له على الهجوم وإخراج العراقيين من الكويت؟

– لن أناقش ما قلته للرئيس لكن من الواضح اننا جميعاً اعتبرنا ان على العراقيين مغادرة العراق فوراً وتحدثنا عما يمكن القيام به.

كنت تعرفين الرئيس حافظ الأسد، فكيف ترين شخصيته مقارنة بشخصية صدام؟

– لقد خدمت في بغداد ابتداء من سنة 1988 ومن سنة 1985 حتى 1988 كنت في واشنطن حيث كنت مسؤولة في وزارة الخارجية عن سورية ولبنان والأردن. وغادرت دمشق سنة 1985 حيث كنت المسؤول الثاني في السفارة الأميركية في دمشق مع بيل ايغلتون وقبلها مع السفير باغاتيلي. وكنت أعمل مع العديد من اللبنانيين في دمشق. وأمضيت وقتي اراقب عبر الحدود الفوضى التي كانت تعم لبنان. وهكذا تعرفت على وليد جنبلاط ومروان حمادة. كنت مقيمة في دمشق واعتدت على رؤيتهما هناك.

متى بدأتِ مهامك في بغداد؟

– سنة 1988 غادرت واشنطن الى بغداد.

بين 1985 و1988 كنتِ تقومين بمهمات في لبنان؟

– كنت أقوم بعمل مكوكي بين عبدالحليم خدام وأمين الجميل الذي كان رئيساً للجمهورية.

كيف وجدت خدام عندما كنتي تتفاوضين معه؟

– كان شخصاً من الصعب جداً معرفته، كما لو انه يرتدي قناعاً. ويمكنني أن أحكم عليه فقط من خلال ما نعرفه عن تاريخه. فهل تذكرين عندما ضغط على الموارنة الى حد ان أدى ذلك الى انتفاضة؟ كنت أعمل ذهاباً وإياباً في محاولة تنفيذ ما توصل اليه صديقنا الجزائري الأخضر الإبراهيمي، وهو ديبلوماسي رائع، في الطائف. لكن البعض كان يطلب مني القيام بأمور اعتبرتها مستحيلة. وخدام كان مفاوضاً صلباً جداً، حملُه على القبول بتسوية أمرٍ من الأمور كان يأخذ وقتاً طويلاً.

وكنا بدأنا بالعمل انطلاقاً من وضع صعب جداً تضمن مثلاً اقتراحاً بأن أقوم بصوغ دستور للبنان، وكان جوابي هو أنني لا استطيع صوغ دستور لبلدي ولن افعل هذا للبنان. فلم يسبق ان سمعت بأمر على هذه الدرجة من السخف في حياتي، وقلت إن هذا ما ينبغي على اللبنانيين القيام به إذا رغبوا بأن يكون لهم دستور مكتوب.

إذن بدأنا من مواقف متصلبة وانتهينا الى محاولة وضع عناوين لاتفاق وافكار عامة يمكن التفاوض عليها. وأتذكر ان خدام قال لي في وقت من الأوقات: «سوّقي هذا لدى أمين الجميل»، فأجبته ان أمين الجميل ينبغي ان يكون الحكم في شأن ما إذا كان بوسعه ان يسوق هذا لدى شعبه. كما قلت له انه سبق ان ارتكبتم هذا الخطأ في إحدى المرات، فقال خدام: نعم، فهو يمكن ان يكون مسلياً في بعض الأحيان.

الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل مع عبدالحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق. (الأرشيف)

الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل مع عبدالحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق. (الأرشيف)

ماذا كان رأيك بأمين الجميل في ذاك الوقت؟

– اعتقد انه كان مفاوضاً جدياً، وكان بالتأكيد قلقاً على بلده. ولم أشعر ابداً انه يعمل لأجل نفسه. وكان لديه مستشارون يثق بهم وإلا لما كانوا الى جانبه، ومنهم مستشارون مثل غسان تويني، وهو شخص من المفيد الاصغاء اليه.

وكان أمين الجميل يحاول بذل كل ما في وسعه من أجل بلده، وكان يدرك أن أي تعديل جدي للدستور من أجل قائد الجيش مثلاً سيكون من الصعب جداً تقبله. وكذلك الأمر بالنسبة، مثلاً، إلى تعديل صلاحيات رئيس الحكومة وتخويله المزيد من صلاحيات الرئيس. فهذه المبادئ كان من الصعب جداً على الطائفة المعنية التسليم في شأنها.

هل التقيتِ عندها العماد ميشال عون؟

– لم التقه أبداً، ولم تكن لي رغبة بذلك. لم أكن اعتبر أن ميشال عون كان الشخص الذي ينبغي التحدث إليه، إذ أن الشعب اللبناني كان ممثلاً برئيس الحكومة والرئيس، وكانا الشخصين اللذين التقيتهما.

لكن أمين الجميل عيّنه رئيساً للحكومة؟

– لقد غادرت قبل مدة طويلة من الطائف حيث قام الأخضر الإبراهيمي بعمل ممتاز، فاستدعى الجميع الى هناك بفضل مساعدة كبيرة من السعوديين، وأتم الأمر.

هل كنت على إدراك في حينه لدور رفيق الحريري؟

– كان الحريري يتردد الى دمشق باستمرار، وكان دائماً يتصل بسفيري وكنت حاضرة دائماً. كان وراء الكواليس، وكان يريد المساعدة فكان هذا بلده ايضاً. وأنا واثقة بأنه شعر بأن لديه الكثير مما يمكن تقديمه عبر علاقاته في مختلف العالم العربي، لكن المشكلة كانت تكمن في ايجاد مفهوم سياسي يحظى بموافقة كل اللبنانيين، وجميعنا اعتبرنا أن الأمور يمكن أن تسوى بهذه الطريقة. كنا نعمل باتجاه الطائف من دون أن ندرك ذلك. وانجزنا عملاً كثيراً.

هل التقيتِ سمير جعجع؟

– لا أبداً. بالطبع عندما كنت في لبنان التقيت بكثيرين ولكن عندما غادرت دمشق إلى واشنطن طلبت أن أساعد وقمت بزيارات مكوكية بين دمشق وبيروت. كان ذلك من أجل مقابلة الرئيس ورئيس الحكومة.

الكل اعتبر في تلك الفترة أن الإدارة الأميركية سلمت لبنان لسورية؟

– العكس هو الصحيح فالأميركيون تنحوا جانباً لمدة طويلة جداً، ولم نقم بشيء طوال الحرب الأهلية.

ولكن ماذا عن الفترة التي عادت فيها سورية عسكرياً الى لبنان؟

– لا أعرف. انتِ تسألين عن الفترة التي عملت فيها هناك. فكان يؤذن لنا ببحث ما يمكن فعله وما إذا كانت هناك تسويات ممكنة بين سورية ولبنان. وبالنظر الى الأمور على الجانب السوري كنت أرى أنه من الأفضل لنا أن نسرع.

دعيني أروي لك قصة جديرة بالاهتمام. كان لدي صديق في دمشق استدعي للخدمة العسكرية وأمضى ما بين ستة أو ثمانية اسابيع في البقاع (كان مسيحياً) وعندما عاد التقيته خلال حفل عشاء فقال لي هل لنا أن نتحدث قليلاً على انفراد؟ وقال لي عليكم ان تقدموا على أمر ما، لأن ما يجري في البقاع مخيف لي ولأصدقائي الذين كانوا معي هناك.

لم نكن ندرك ان الإيرانيين اقاموا دائرة للخدمات الاجتماعية في البقاع منذ سنة 1984، وأنهم كانوا يتولون أمر المرضى والمسنين في المنطقة. وكانت السفارة الايرانية على مقربة من السفارة البريطانية في دمشق وفجأة ارسل الايرانيون سفيراً كان يعرف برجل المهمات القذرة في طهران وكانت النكتة الشائعة عنه انه يمكن ان يفتح عن طريق الخطأ رسالة فخخها بنفسه. وبعد وصوله كنا نرى ارتالاً من السيارات التي تحمل لوحات لبنانية وتنقل اشخاصاً مثل نصرالله (السيد حسن نصرالله) وغيره. فكان يعمل على تأسيس «حزب الله» تحت انوفنا وكنا نرى ذلك.

واذكر انه خلال عشاء دولة اقامه الرئيس حافظ الاسد على شرف رئيس الوزراء اليوناني، جاء السفير الباكستاني، وكان شخصاً مرحاً وقال لي هناك شخص اريدك ان تقابليه، فأمسك بذراعي وادارني على نفسي لأجد أني وجهاً لوجه مع السفير الايراني الذي تراجع وأدار ظهره وابتعد. فقد شعر وكأنني «غير نظيفة».

هل حدثك الرئيس حافظ الاسد عن لبنان؟

– الرئيس الأسد لم يكن يتحدث معي، فأنا كنت المسؤول الثاني في السفارة. التقيته مراراً برفقة السفير أو برفقة عضو في مجلس الشيوخ أو وزير الخارجية.

كيف كان رأيه بلبنان وهل كان يرى ان لبنان مقاطعة سورية؟

– حافظ الأسد كان صاحب ذكاء متعدد الاشكال. وأذكر انه قال في احدى المرات، لا تعتبروا أني أحمق لدرجة انني اعتقد بأن بإمكاني بناء قوات جوية (واعتقد انه اختار القوات الجوية لأنها القطاع العسكري الذي يعرفه أكثر من سواه كونه انتمى اليه) قادرة على منافسة الاسرائيليين خلال جيل. لماذا؟ لأنها لسيت الطائرات المتطورة التي تصنع القوة الجوية الجيدة، وانما الطيارون الحائزون على تربية رائعة منذ طفولتهم وليس فقط على تدريب تقني. وهو كان محق بذلك. لكني أتمنى لو أني سألته عن أمر لم أفهمه أبداً، وهو لماذا أتاحوا للإيرانيين تصدير ثورتهم من السفارة الايرانية في دمشق الى لبنان.

كان يبدو لي ولكل من يراقب الأمور ان ما كان يجري ويُنقل الى البقاع وايضاً الى الجنوب من سلاح، يؤمن لمجموعة من الاشخاص استقلالية سيكون من الصعب جداً السيطرة عليها بوقف وصول القنابل اليها، لأنه بات لديها كمية منها مخبأة وتتيح لها القتال لسنوات. وهذا كان يبدو لي خطيراً بالنسبة لسورية. انها ثورة اسلامية، ولنتذكر ما حصل لسورية عندما تحرك «الاخوان المسلمون» في الشمال. أنا لم أفهم أبداً لماذا كان على يقين بأن هذا لن ينقلب عليه وينقض على سورية لأنه غير قادر على السيطرة على «حزب الله».

هل كان مقتنعاً بأن لبنان جزء من سورية أم أنه كان بحاجة الى لبنان في أجندته الاقليمية؟

– كان أذكى من أن يطرح علينا مثل هذا الطرح. فهو لم يكن ليقول هذا أبداً. فهذا من الأمور التي يمكن لصدام والعراقيين قولها في شأن الكويت واعتباره جزءاً تاريخياً من العراق. اما الاسد فكان أكثر حنكة من البوح بأمر كهذا.

لكنه رفض تبادل السفارات بين البلدين (سورية ولبنان)؟

– طبعاً، لكنني لست على اطلاع على ما كان يفكر به. فلو نظرنا الى الأمر من زاوية الجيل القديم لكان يمكن مناقشة ما إذا كان مقتنعاً أم لا بأيديولوجيا البعث. وإذا كان مقتنعاً بها، فعندها ينبغي ألا تكون هناك أي سفارة سورية في أي مكان.

كيف تقارنين صدام ومعاونيه وحافظ الاسد ومعاونيه؟

– انهما مختلفان تماما. فالكل حول الرئيس الأسد كان يحترم سلطته. فالأسد كان أذكى وأبرع من أن يطلب من المحيطين به أن يقولوا له نعم كل الوقت.

وماذا عن النظام الاستخباراتي في البلدين؟

– انه أقل ثقلاً في سورية. وعلى سبيل المثال، أنا كديبلوماسية في سورية كنت بدرجة الحرية نفسها التي كانت لدي في بيروت. ولا شك بأنه كان هناك من يراقبنا ويعرف مكان وجودنا، لكن ما من مواطن سوري كان يفكر مرتين بالأمر قبل أن يدعوني الى منزله، وكنت محاطة بأشخاص درسوا في الجامعة الأميركية في بيروت.

أما في بغداد فما من عراقي كان يحق له دعوة ديبلوماسي أجنبي الى منزله وإذا أراد أي أجنبي حتى إذا كان ديبلوماسياً عربياً أن يدعو أحد العراقيين الى منزله كان يتوجب عليه تقديم طلب رسمي بذلك الى وزارة الخارجية، وعرض بطاقات الدعوة عليها بحيث تقرر أياً منها يمكن ارسالها. وأنا لم أدخل أبداً أي منزل عراقي باستثناء مرة واحدة ولمناسبة ثقافية.

كنت تلتقين الأسد بصفتك المسؤول الثاني في السفارة وأيضاً مع صدام وهما قائدا البعث اللذين كانا يكره كل منهما الآخر، فما كان رأيك بهما؟

– كان الاسد شرقي متوسطي، وكان يمكنه أن يظهر جاذبية بالغة، على رغم افتقاره لمؤهلات ذلك. كان شديد الثقة بالنفس، وكان بإمكانه أن يكون ربة بيت بيروتية، وكان حقيقة مرحاً. كان دائماً يتكلم بالعربية لكنني علمت من مدربه في حقل الطيران أنه يعرف بعض الانكليزية.

وفي احدى المرات زاره السيناتور تاور، في مكتبه وكنت برفقته، وكان السيناتور تاور يدخن، وكان هناك صحناً مليئاً بالسجائر، وعندما أنهى السيناتور تاور سجائره دفع الرئيس الاسد الصحن باتجاهه. فكان مليئاً بالسجائر السورية وبالطبع لم يكن السيناتور على علم بذلك. فقال له الاسد باللغة الانكليزية جملة معقدة جداً، اعذرني ليس لدي أي سجائر اميركية أو بريطانية، أعرف انك تفضلها. ولو كنت على علم بأنك تدخن لكان لدينا منها، وعلى رغم من انه كان من المتوجب علي عدم إبداء أي تعابير على وجهي، فإن تعجبي بدا واضحاً الى حد جعله ينظر الي ويقول للسيناتور بالعربية لقد سقط القلم من يديها، فقد صدقها، فضحك فعلاً وضحكنا ايضاً.

أما صدام فإن حضوره كان مرفقاً دائماً بقدر هائل من التوتر لأن كل من يحيط به كان يخاف منه. ولم يسمع يوما يدلي بنكتة ولو فعل لكان على الجميع ان يضحك. فهالته الشخصية مختلفة تماماً.

وفي شمال سورية مثلاً لم أكن اتجنب مغادرة سيارتي لشراء بعض الحاجات، وعندما فعلت ذلك مرة في كردستان ادركت انها جنون لأن الكل يعلم انه لا يمكن ان أتحدث الى أحد العراقيين، من دون ان يستدعى لاحقاً الى التحقيق. لكنني كنت في بلدة عراقية صغيرة، فأخرجت رأسي من نافذة السيارة وسألت عما اذا كان هناك عسل لأن العسل الكردي الأبيض مشهور. فرد علي البائع بالقول كلا ليس لدي ذلك، فالتفت الى الوراء ورأيت ان هناك سيارة تتبع سيارتي.

ماذا فعلت بعد الحرب في الكويت؟

– درست لمدة سنة في جامعة كاليفورنيا، ثم طلب مني السفير اد بيركينز لدى الأمم المتحدة العمل معه على مؤتمر كبير حول البيئة، ثم خلفته مادلين اولبرايت في الأمم المتحدة في نيويورك وطلبت استبدالي. لم أكن أعرفها ولا أعلم السبب الذي حملها على استبدالي.

ثم عدت الى واشنطن حيث طلب مني مكتب شؤون افريقيا العمل معه، لأنه كانت هناك مخاوف في شأن السودان في ذاك الوقت. ولا بد من القول إن العمل كان مثيراً للاهتمام، وكان ذلك قبل قضية دارفور بمدة طويلة، وكنا نحاول التقريب بين واشنطن ونيويورك (الأمم المتحدة)، ثم طلب مني ادارة مكتب شؤون افريقيا الجنوبية، وذلك قبل سنة على الانتخابات التي حملت نلسون مانديلا الى الحكم، وقبل سنة من أول انتخابات ديموقراطية في موزمبيق واتفاقية السلام في انغولا. إذن كانت هناك ثلاثة ملفات كبرى ينبغي العمل عليها، فذهبت لفترة وجيزة الى الصومال وكان ذلك صعباً بالفعل، فالأمم المتحدة ارسلت جنرالاً تركياً لإدارة الشؤون العسكرية وأميركياً لتولي الشؤون المدنية، فبقيت هناك ثلاثة أشهر لمساعدته. وكان المشهد في ذاك البلد محزن جداً.

وماذا تفعلين الآن؟

– أنا متقاعدة.

سمعت اشاعات عن ناشر اميركي طلب منك وضع كتاب عن العراق ورفضت، ومن ثم جرى ابتزازكِ فدفعوا لك مبلغاً لاعداد كتاب ورفضت؟

– لم يتحدث إلي أي ناشر على الاطلاق عن أي كتاب ولم يطلب مني كتابة أي كتاب ولم أتلق أي مبلغ سلفاً ولم أطلب من أي ناشر أن ينشر لي كتاباً.

لم يطلب منك أحد أن تتناولي تجربتك مع صدام حتى في الصحافة؟

– لم يطلب مني أحد أن أكتب كتاباً ولم يطلب مني أحد أن أكتب مقالاً من أي نوع حول أي موضوع على صلة بالولايات المتحدة، فأنت الشخص الوحيد الذي تحدثت اليه، وفي الولايات المتحدة كان هناك من يكتبون كتباً وأرادوا مقابلتي من أجل هذه الكتب.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى