لا تزال «الدولة»، التي يتسابق الجميع على رفضها، لبنة معمار العالم
صالح بشير
قد يكون شأننا، إن نحن اقتصرنا في تناول أزمة الدولة الحديثة أو كما هي في حقبتنا الجارية هذه، على ما فعلته بها النيوليبرالية الاقتصادية، كشأنِ غبيّ المثل الصيني يُشار له بالإصبع إلى القمر، فيتطلع إلى الإصبع ويهمل القمر، فيقصر عملية المشاهدة أو الإشهاد تلك على تفصيل من تفاصيلها نافل أو جزئي لا يُعتدّ به، عديم الجدوى والدلالة «المعرفيّتيْن» في ذاته أو محدودهما.
ذلك أنه من البديهي أن إيديولوجيا السوق، كما استحكمت منذ الفترة الريغانية-الثاتشرية حتى أضحت أقنوما كونيّا شامل النفاذ بعد الحرب الباردة وانهيار النموذج (الشيوعي) النقيض، قد سامت الدولة (مفهوما ومؤسسة، فكرة ووظيفة) دحضا وإبطالا. فقد أعلنت عدم أهليتها في التدخل في الحياة الاقتصادية، وهذه، حسب تلك النظرة، تستوفي الحياة كلها، بجميع مناحيها. لكن التجربة أو معاينة مجريات حقبتـنا هذه تفيدان أن ذلك النزوع المُبطل للدولة، المتبرم بها، أو الجاهد على الأقل في الحد منها ومن صلاحياتها ومن نفوذها، لا يقتصر على تلك الإيديولوجيا النيوليبرالية. فالإيديولوجيا تلك لا تعدو أن تكون وجها من وجوه ذلك النزوع، مظهرا من مظاهره، رافدا من روافده.
ذلك أن الارتداد على الدولة كان السمة الفارقة لزمننا منذ نهاية الحرب الباردة. كأنما الدولة التوتاليتارية، إذ تهاوت في الشطر الشرقي من أوروبا وفي الاتحاد السوفياتي السابق على ذلك النحو المعلوم، والذي لو أراد المرء تقريب مداه للأذهان لما وجد غير مفردات الجيولوجيا يستعيرها ولشبّهه باختفاء قارّة… كأنما الدولة التوتاليتارية تلك إذاً، إذ تهاوت، أودت بفكرة الدولة ذاتها، بإطلاقٍ دون تمييز، ونسفت شرعيتها.
وهكذا، صدر الاشتباه بالدولة، مناصبتها العداء، العمل على تقويضها أو على تجاوزها أو على النكوص عنها إلى ما دونها، عن مجمل القوى أو تيارات الرأي الفاعلة أو التي ارتفع صوتها طوال العقدين الماضيين (وهذا بطبيعة الحال تحقيب تقريبي ككل تحقيب)، والتي تنافرت في ما بينها وعادت إلى منطلقات فكرية ومصلحية متباينة أشد التباين، ولكنها أجمعت، إجماعا ضمنيا، ضد الدولة، تمجّها أو تعمل على إضعافها وتهميشها.
كل أدلى بدلوه، على طريقته ووفق المبادئ التي يستند إليها أو يزعم ذلك، في شأن الحط من الدولة، منازعتها السيادة، مساءلتها في وظائفها الأساسية والتي يُفترض أنها وُجدت من أجل النهوض بها. ليس من تباعد ومن فجوة أكبر، أقله نظريا ومن حيث المبدأ، من ذينك القائميْن بين الداعين إلى الحد من سلطة الدولة ومن فعلها وإبطالهما باسم جدوى اقتصادية ينشدونها، على ما هي حال الآخذين بالليبرالية الفائقة من جهة، وبين المجترئين،
من جهة أخرى، على سيادة الدولة باسم هواجس وأولويات من طبيعة قيميّة، شأن أصحاب مبدأ «الحق في التدخل»، ممن لا يقرون لطاغيةٍ بحصانةٍ من سيادةٍ وطنية إن هو سام شعبه أو فئات من شعبه اضطهادا أو إبادة، وهو المبدأ الذي وجد إنفاذه الأول، الأجلى والأفعل، في يوغوسلافيا السابقة وما واكب تفككها من حروب أهلية ومن تطهير عرقي، أو إثني على الأصح.
كما تأتى ذلك الارتداد على الدولة من فئات تقع دونها، انتماءات صغرى وعضوية، إثنية أو عرقية أو طائفية أو عشائرية، تضيق بالدولة ذرعا، تماحكها في هذا الجانب أو ذاك من مظاهر سيادتها، تروم انفصالا عنها أو غلبةً عليها. ولنا في شرقنا الأوسط من تلك الظواهر الكثير، نعرفه حق المعرفة ونكابده أقصى المكابدة، بما يغني عن الإسهاب في توصيفه. وذلك، بطبيعة الحال، فضلا عن ظاهرة الإرهاب، وهذا مناف تماما لواقعة الدولة، بفعل صدوره عن نظرة تسبّق الانتماء إلى أمّة مفارقة لكل دولة قائمة، واقعةً عينية، ومن حيث ممارسته التي تعبأ بحدود ولا تعترف بها.
حتى الاتحاد الأوروبي، أرقى ما اهتدت إليه البشرية في تاريخها من صيغ التكتلات العابرة للأوطان، إنما قام على تجاوز الدولة-الأمة، تلك التي كانت القارة القديمة السباقة إلى اجتراحها واختراعها. تم ذلك على نحو سلمي، طوعي لا يشوبه قسر، باسم الالتقاء حول مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان، وحول الأخذ برأسمالية ليبرالية لا تبلغ مبلغ نظيرتها الأميركية، أو الأنكوساكسونية، توحشا وانفلاتا، وحول إعادة النظر في مركزية سبق أن أجحفت في حق الأقليات، ولكن كل ذلك لا ينفي أن الاتحاد ذاك لم يتحقق إلا بواسطة تجاوز الدولة والتخلي عن بعض مظاهر سيادتها، لإنشاء ضرب من إمبراطورية «ما بعد حداثية» على ما لا يتورع البعض عن القول في تعريفها.
بطبيعة الحال، نحن لا نساوي بين كل تلك الظواهر، فمثل ذلك مما لا يصح، لا معرفيا ولا أخلاقيا، ولكن ما لا سبيل إلى إنكاره من وجه آخر أن الظواهر إياها إنما تتواطأ، تواطؤا لا إراديا بالتأكيد، على استعداء الدولة، أو على مناصبتها العداء، أو على الارتياب بها أو على إنكار مكانةٍ كانت لها منذ أن فرضها العصر الحديث وتعممت أنموذجا أوحد بعد أن نالت البلدان المستعمرة استقلالها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، هيئة انتظام مُثلى لكل اجتماع بشري.
ما يمكننا استخلاصه من كل ما سبق أنه إن كانت من قضية مطروحة بحدّة على العالم في هذا الطور الذي نعيش، إنما هي قضية الدولة، تلك التي يبدو أن عوامل عدّة، قد لا تكون العولمة سوى أحدها أو ربما خلفيتها (ذلك ما يتطلب سبرا) تعمل على تقويضها أو، على الأقل، على إعادة النظر فيها، منحى لاح حتى الآن جارفا، متعدد الأوجه والأبعاد متنافراً إن من حيث الطبيعة وإن من حيث الأرومة الإيديولوجية، ولكنه موحد في ما يشخص نحوه.
علما بأن ما يزيد الأمر، في ذلك الصدد، تشوشا أن تلك الدولة التي يبدو أن أحدا ما عاد يريدها، تظل موضوعيا ومن الناحية القانونية، اللبنة الوحيدة التي يقوم عليها معمار العالم ومؤسساته الناظمة وتشريعاته السارية.
لماذا بلغت الدولة هذا المآل؟ ذلك ما يتطلب تناولا على حدة.
الحياة