اثر فوزه بجائزة الشرف لأدب الاطفال نوري الجراح: الطفل العربي بلا صوت والثقافة العربية أسيرة عقدة قتل الإبن
حسام الدين محمد
لندن ـ ‘القدس العربي’ من الشعر ال الكتابة للطفل ما الذي يجمع أو يفرّق بين هذين الموضوعين وكيف وجدت نفسك كاتباً للاطفال؟
ـ ليس أمراً جديدا أن أكتب للأطفال، فقد سبق لي أن أصدرت في قبرص حيث أقمت لفترة من الزمن سنة 1990 كتابين للأطفال الأول تحت عنوان ‘الصدفة’ والثاني تحت عنوان ‘الملك والموسيقى’. وقبل هذا التاريخ عندما كنت أعيش في بيروت في مطلع الثمانينات ساهمت في الإشراف على مجلة لأدب الأطفال. الجديد في الأمر أنني عدت فجمعت بعض ما كتبت من قصص عبر زمن مضى، وجعلت هذا المجموع تحت عنوان ‘كتاب الوسادة’. والواقع أنني كتبت هذه القصص للطفل المتواري في كل واحد منا نحن الأشخاص الذين ظننا أن الطفولة مرحلة، ما ان نودعها حتى نودع معها الطفل الكامن فينا.. أو الجوهر الطفولي في الإنسان. قصصي تقترح شيئاً آخر.. وثيق الصلة بشعري، وبرؤيتي الشعرية، وبنظرتي إلى الوجود.. فهي من حيث تتصور العالم بطريقة خاصة، ترى إلى الإنسان انطلاقاً من جوهره الطفولي، من منطقة الدهشة فيه، من مكمن الإشراق الروحي في الكائن، هناك في تلك المنطقة القصوى من البراءة، وهي منطقة عميقة في الكائن، هناك يسكن الطفل في الإنسان، وتسكن أشواقه. وفي ظني أنه عند هذا الخيط الرفيع الساحر تتصل الرؤيا الفلسفية للشعر، بالنظرة الجمالية للسرد القصصي. هناك كتبت، وفي نظري أن الكتابة غير المحترفة للأطفال إنما تتحقق هناك.
ماذا تقصد بالكتابة غير الحرفية..؟
أقصد الكتابة الحرة، الكتابة التي تبتكر معاييرها معها، الكتابة التي لا تستبق ذاتها وتصادر على مغامرة صاحبها مع الكلمات، وعبر الاخيلة، لتقول هذه قصة للأطفال أو هذه قصيدة للأطفال، كتابة المغامرة. كم كاتب عربي للأطفال يمكن وصفهم بأنهم هواة كتابة للأطفال؟ سأعود إلى هذه النقطة لاحقاً، ولكن دعني أتم الإجابة عن السؤال الأول.
قبل أيام، بينما كنت ألهو وابنتي في طريق العودة من المدرسة، فاجأتني زوجتي بالجملة التالية: تلعب مع ابنتك كمن يلعب مع رفيقته.. ولعلها كانت ستضيف، تتنازع معها على الاشياء..كمن لم تغادره طفولته! بهذا المعنى أنا اعيش طفولتي مع طفلتي، وبالتالي، عندما أكتب أكتب طفولتنا معاً.
ولو أنت عدت إلى ديواني الاول ‘الصبي’، ستكتشف جذور جملة من الافكار والتصورات والميول والموضوعات التي يحملها شعري، والأهم بالنسبة لموضوعنا الراهن، ستقع على الخيط الرهيف الذي يصل رؤيتي كشاعر، برؤيتي كسارد، بينما أتلمس عوالم اللطف والطرافة والتشويق التي يتيحها الاقتراب من الطفولة والطفولي والطفلي، سعياً إلى ابتكار نموذج قصصي مثير للطفل وللخيال الطفولي.
من 7 إلى 77 سنة
طبعاً هي قصائد تصدر عن روح طفولية ونزعة لرؤية العالم بحواس ونزق طفولي، لكنها لا تتجه إلى الاطفال؟
بالتأكيد هي لا تخاطب الاطفال، ولا حتى الناشئة.. قصائد ديوان ‘الصبي’، هي، كما رأى اصدقاء لي في حينه (سنة 1982)، منهم وليد خازندار وامجد ناصر، وعباس بيضون، وعبده وازن، شاكر لعيبي، وعيسى مخلوف، ولاحقاً الغائب المحب سركون بولص وآخرون، هذه القصائد وصفت بأنها ترى إلى العالم، وإلى الوجود الطبيعي والإنساني من خلال منظور طفولي، فالمجموعة الشعرية هذه كتبت بصوت طفولي، وأي قراءة متأنية لها ربما تجعلك تحيلها على أدب الاطفال والناشئة، حيث ثمة رؤيا طفولية كتبت بلغة ماكرة، لغة مشاكسة، لغة لاعبة، وهذا كله يشبه عمل الأطفال ولكن الشرسين، أو ربما يشبه عمل كائنات عصابية ذات نزعة طفولية. ولا يضير هنا أن اذكر أن بعض الأصدقاء، (عباس بيضون على وجه التحديد) كتب مشككاً إن كان في وسع الشاعر أن يظل يكتب شعراً من منظور طفولي كهذا؟
وهكذا استبق هذا البعض الزمن، ليسأل إن كان يمكن أن نناقش عمل الغيب منذ الآن! في تلك الفترة كنت قد كتبت مجموعة من النصوص التي نشرت على أنها قصص للاطفال في صحف ‘السفير’ و’النهار’ ومجلة ‘سامر’ التي كان يترأس تحريرها صديقي الرائع نصري الصايغ (بالمناسبة هو الذي حاول وفشل في إقناعي بأن أتخصص في الكتابة للأطفال)، في تلك الفترة، وفي بعض المرات لم أكن افرق في شعرية الكتابة بين قصة توصف بأنها للأطفال (وهي عندي للجميع) وبين قصيدة شعرية، وقد استمر هذا التواصل عندي بين الشعر والكتابة الموصوفة بأنها للأطفال إلى وقت مبكر من التسعينات، عندما نشرت في صحيفة ‘الحياة’ قصصاً قصيرة جداً ومقطوعات سردية تحت عنوان ‘ليس للاطفال وحدهم’. وكانت تلك القصص قصيرة جداً وكثيفة إلى درجة توحي بأن صاحبها يحاول ان يشكك بجدوى كتابة نصوص سردية مطولة للأطفال.
مجاراة الصوت
لكن هذا المنظور الشعري الطفولي توارى بعد ست سنوات من ظهور ديوانك ‘الصبي’، مع ظهور ديوانك الثاني ‘مجاراة الصوت’، حيث ولدت مشاغل واهتمامات، ولهجة جديدة في قصائدك؟
إشارتك في مكانها، لكنني لا اعتقد أنه توارى نهائياً، فالتطور في موقفي من الأشياء والعالم جعل البعد الطفولي يغور عميقاً في قصائدي الجديدة ليحمي نفسه، وأظن أن تلك الرؤى الطفولية التي تلامعت في ديواني الأول، عادت فتلامحت هذه المرة في سطوح متعددة الابعاد والمستويات من القصائد والمقطعات الشعرية، وبدهي أنها باتت على شيء من التعقيد. فاللهو الذي كان أميل إلى استثمار فكرة البراءة، وألعاب المفارقة في قصائد ‘الصبي’ تحول هنا إلى سخرية سوداء، واستمر ذلك في ديواني الثالث ‘كأس سوداء’ حيث راح الالم الطفولي يطل برأسه من أعماق تلك النصوص، ليدل على ما هو فاجع في أعماق الكائن، ويسمح للصوفي أن يطل برأسه. وسوف يتفجّر هذا المنظور الطفولي، ويتحطم تماماً ويحل محله افق ونموذج جمالي مختلفان تماماً، وهو ما سيتكشف عن طريق لهجة إنشادية هذه المرة في كتابي ‘طفولة موت’. في هذا الكتاب يستيقظ في الطفولي ما هو سوريالي، لعب مهلك، وفضاء لنشيج الطفل فينا، وسيظهر الكائن الطفل هنا بصفته شاهداً مفجوعاً يرى كل شيء من بعد.. ويتتبع العالم من آثار خطى صبية انتحروا، صبية هلكوا بطرق غير مفهومة.. إنه نشيج مكتوم.. وحواس مكبوحة، لا اثر فيها للميوعة العاطفية، ولكن للغور الإنساني بتموجاته الغريبة، ومفاجآته المبهجة والمؤلمة معاً. كأني هنا كنت أقف على حطام الطفولة، وأقدم المرثية الدامية للطفل في الكائن.
تخفيف فجيعة الألم
هل إن هذا الذي كتبته في السرد القصصي لاطفالك من 7 إلى 77 سنة هو محاولة لتخفيف هذا الألم، هذا الشيء الفاجع عن طريق السرد القصصي بطريقة تحفظ لنا خفة الكائن الطفولي؟
ربما، لكن هذا تفسير فيه شيء من طلب الرأفة لنا نحن الشعراء الأشقياء بتصوراتنا عن العالم، المتألمين من الصدمات التي لا تتوقف، من الضربات التي لا تكف عن البحث عنا. عندما نقول أن الشاعر طفل، أما يكفي أخذنا بهذه المقولة عنواناً لعلاقة كل كتابة طفولية بشعر الشاعر وبرؤيته الشعرية، وبعلاقته مع العالم ومع الكلمات؟
أنت تعرف أن الثقافات كلها عبر التاريخ اعتبرت الشاعرَ طفلا. والثقافات الشعرية على وجه الخصوص اعتبرت الوصول إلى الطفل فينا هو المهمة الاسمى للشاعر، والأجدر بالمحاولة. فالأبعاد الطفولية في الكائن هي الأكثر إغراء للمشروع الجمالي للشاعر. ولنتذكر أن التشكيليين العالميين من طراز ميرو وشاغال وماتيس وبيكاسو كانوا شعراء بالخطوط والألوان، وكانوا دائماً أصدقاء للشعراء، وهم لطالما اعتبروا رسم الاطفال المعلم الأول لهم والمدرسة التي لا تتوقف عن ابتكار الصيغ الجمالية الجديدة والمدهشة، وبالتالي ابتكار النموذج الفني الارقى والأكثر حرية تعبيرياً. ولكن لنتذكر أيضاً أن كل هذه المحاولات والتجارب التي استلهمت عالم الطفل، وجعلت الفنان يقرأ ذاته في ضوء الطفولي فيه وفي العالم، إنما جرت في ثقافة علَّمت نفسها الإنصات للأطفال، واختبرت ذاتها في ضوء العلاقة معهم. والأهم، في مجتمعات سنت نُظماً وقوانين تتعلق بحقوق الطفل، فأعلت من شانه، وانشغلت به على كل مستوى وصعيد.
ما يؤسف له أن ثقافتنا العربية ليست فقط ثقافة استبداد، ولكنها ثقافة عمياء أيضاً، فهي لا تلحظ وجود الأطفال، ولا تعتبر نفسها معنية بهم حقاً، ولو عُنيت بهم إنما على سبيل إخضاعهم لمشروعها التربوي ذي الطبيعة الاخضاعية. ثمة باستمرار، إن في الاجتماع أو الكتابة، إملاءات، تلقين، إطلاق.. وعلى الطفل، لو ظهر في الصورة، أن يخضع لكل هذا. ليس ثمة حوار معه، ليس ثمة إنصات له، ليس ثمة تفهم لخصوصية عالمه، ليس ثمة احترام لاولوياته، ليس ثمة حضور مستقل له، وبالتالي ليس ثمة اعتراف بعالمه. فعالمه هو عالمنا نحن، ولكن في محل أدنى من ذواتنا وأدنى من ذاته. لذلك فإن الذين يكتبون له ويسمّون أنفسهم كتاباً للأطفال عادة ما يكونون كتّاباً تساقطوا من دروب الكتابة للكبار، كتاباً فشلوا في إقناع الكبار بمواهبهم، فلجأوا إلى الكتابة للأطفال، أي سقطوا من عالم الكبار ووجدوا انفسهم في أحضان الصغار. وها هم يكتبون لهم!
علينا أن نتخيل الآن أي كارثة هي هذه؟! وكم من الجرائم ارتكبت بحق الاطفال في ثقافتنا العربية على ايدي اؤلئك المعتوهين الذين يسمّون أنفسهم كتاباً للأطفال؟!
نموذج جمالي
لكن هل هناك في مجتمعاتنا وثقافتنا أمثال هذا النموذج حتى يمكننا القياس عليه، أو التوجه إليه بكتاباتنا.. هل تشغلك هذه الإشكالية؟ هذا جانب والجانب الآخر.. لماذا لا نجد هناك مؤسسات عربية طليعية لثقافة الطفل؟
قد لا نجد نموذج الطفل موزارت يعبر عن نفسه في مجتمعات كمثل مجتمعاتنا حيث الأبوية المفرطة في عصابيتها، وحيث بيئات تلجم الاسئلة والأفواه ربما لا نعثر عل هذا النموذج الذي يفرحنا أن يتحقق في طفل شرقي. ولكن تعال نتذكر مثلا ‘الامير الصغير’ لانطونان دي سانت اكزوبري، الحرية التخييلية العالية التي حمَّلها اكزوبري لهذا الطفل الذي ابتكره.. تجعلني أتساءل ترى: هل كان في فرنسا أواخر الثلاثينات نموذج لهذا الطفل موجودا؟ ربما كان النموذج الذي حلم به اكزوبري وقمع في طفولته وحمَّله أشواقه ورغبته في طرح الاسئلة وخلق النماذج. فقد كانت اوروبا تعيش مرحلة كئيبة عل ابواب الحرب الثانية عندما كتب أكزوبيري هذه القصة ولكن اوروبا كانت وما تزال المساحة الجغرافية الهائلة للتجريب واختبار الاسئلة وقد وفرت مساحات من الحرية للاطفال والناشئة وبالتالي هناك ما يستدعي من اكزوبري ان يكتب مثل هذه القصة. في ثقافتنا العربية أتحدث كشاعر وأيضاً كأب هل هناك اطفال استطاعوا ان يطرحوا أسئلتهم بحرية هل اختبر كتّاب الأطفال هذه الأسئلة هل وجدت لدينا مؤسسات ثقافية عربية مستقلة موجهة للأطفال؟ أستثني في السبعينات والثمانينات تجربة ‘دار الفت العربي’ التي انطلقت من بيروت التي كانت تجربة مهمة اجتمع عليها عدد كبير من الرسامين والفنانين والكتاب والمثقفين الذين كتبوا وانجزوا وطرحوا اسئلتهم الفكرية والجمالية، وصنعوا نماذج ممتازة من ادب الاطفال وشكلت تجربتهم محاولة جادة لتأسيس مختبر لصناعة ثقافية للأطفال، لأنه لا يمكن صناعة ثقافة للأطفال من دون مختبرات. هذا المشروع نجح لسبب أساسي وهو أنه لم يكن ربحيا، وكانت ممولته ‘منظمة التحرير الفلسطينية’. بالمقابل، ما يسود الان في العالم العربي هو المؤسسات التجارية للاطفال التي تطبع كتبا رديئة شكلاً ومضموناً، ونحن نعرف أن ومن أولويات صناعة ثقافة للاطفال ان تقدم نموذجا جماليا للكتاب، وان تقدم قصة مبتكرة وجميلة معاً. بينما كتب الأطفال العربية حتى طباعتها رديئة وقطعها ينقصه الابتكار، وبالتالي فإن المنتشر من كتب الأطفال فقير جمالياً، إن لم يكن ركيكاً ورديئاً. ووزارات التربية العربية تساهم في هذ الرداءة فهي تتعاقد لاطفالنا مع كتاب رديئين من خلال مناقصات تتقدم لتلبيتها دور نشر تجارية محضة هي نفسها متعهدة مناقصات الكتب المدرسية، ولهذه المطابع ولا أقول دور النشر كتابها المأجورون. فعم تريدنا أن نحدث.. من أحوال ثقافة الأطفال العرب؟
اختبار
يمكن ان نلاحظ وجود ظاهرة سفر من شعراء وحت كتاب قصص باتجاه كتابة الاطفال مثل حسن عبدالله وقبله سليمان العيس وزكريا تامر. هل يمكن اعتبار ذلك توسيعا لأفق الشعرية ام انه يأس من انسدادها أحيانا؟
ليس يأسا من انسدادها فأن نكتب للطفل إنما نحن نكتب لأنفسنا. ولا اعرف ان كنا نوسع من الشعرية ام لا فنحن نكتب الشعرية بلغة أكثر عذوبة ورهافة وبساطة، نلامس بجمالية خفيفة بعيدة عن الوزن المؤلم للعتمة واليأس وللأذ الذي في شعرنا. أي أننا نفتح نافذة عل ألوان خفيفة، لكننا نفتحه في شعرنا الشخصي وفي اهتماماتنا الشخصية وفي قاموسنا اللغوي كشعراء. أنا لا أجد نفسي خارج شعري، في هذه القصص التي كتبت، انا في قلب الشعر ولكن هذه القصص كتبتها لطفلي رامي ولطفلتي آية لأنيمهما كنت أروي لهما هذه القصص بصوتي قبل أن أكتبها ثم أعود لأجد لها لغة فأكتبها ربما تكون الكتابة الاول كتابة الراوي هي الأفضل وأن اكتشاف قاموس لغوي كتابي ربما يكون أقل قيمة أو انها لا تداني السرد الاول والعفوية الاول لأننا مع الكتابة نأسر العفوية والحرية والطلاقة في قاموس لغوي نتوجه به ال طفل عامّ. العديد من القصص التي كتبتها كتابة مباشرة فشلت مع طفلي والاطفال الذين اعرفهم، وهؤلاء الأطفال غالبا ما بدلوا في بعض وقائع هذه القصص، أو في خواتيمها، وقد استسلمت بدوري لهذا، واستجبت لهذه التجربة. فقد كانت بالنسبة لي نوعاً من الاختبار الثمين، دخلت فيه وعرفته.
كائنات ذكية
ذكرنا بعض الاشخاص الذين توجهوا للكتابة للاطفال فما رأيك بما انجزوه وبغيرهم لو كان لديك؟
بالنسبة لمن ذكرت فتجربة حسن عبدالله لافتة للانتباه بقربها من عالم الطفل. فقد وظف حسن عبدالله قدرته كشاعر مرهف وصاحب قاموس لغوي خاص في كتابة للاطفال خاصة به. هناك في كتابته نجد شخصيته الشعرية والادبية واعتبر اعماله للاطفال مثيرة للخيال وفيها لطف. تجربة سليمان العيس بعيدة جدا عن الطفل إنها تتعال عليه وتتعامل معه ككائن أدن والعيسى ليست لديه حكمة أن يعرف كيف أن الشاعر لا ينزل ال الطفل ليكتب له بل يجب ان يصعد إليه ليكتب. ولا الومه فهو ينتمي إلى أيديولوجيا البعث التي خربت بلدين هما سورية والعراق وينتمي إلى جيل فشل في كل شيء ونجح في خلق وعي أبوي ديكتاتوري. والخلاصة أن هناك وعيين: الاول ير في الطفل كائنا معوّقا ومحدود القدرات فيجب ان ننزل اليه درجات فنخفف من لغتنا ومن خيالنا حت نمكنه من ان يتجرع هذه الجرعة المعرفية والجمالية التي نحملها له وهناك وعي ثان يعتقد ان الطفل كائن معقد جدا يوهمك بالبساطة ولكنه متدرج الابعاد وخياله جامح وحيوي. ولا تنسَ أن الطفل يصدر عن رغبة بالزيغ واللعب معك وهو قادر عل جعلك في حالة حيرة باسئلته، وحركته، وبقدرته عل التواصل مع الوجود، ومع من هم اكبر منه.
قطعة غيم
أتيت على ذكر زكريا تامر.. كيف تنظر إلى كتابته للأطفال؟
من البدهي أن الاطفال طاقات إبداعية ذكية جدا. وربما اكثر من نبه ال هذا الجانب عند الاطفال، بطريقة غير مباشرة، هو زكريا تامر في قصته ‘موت الياسمين’ فهو يتحدث عن الاطفال بوصفهم كائنات شرسة مجرمة تفترس المعلمة وتأكلها. هذه القصة تقدّم لنا إشارة رفيعة المستو ومخيفة ال الاشكالية المتعلقة بوعي الطفل، بل بعقل الطفل وامكاناته. لكن لشخصية زكريا الابداعية وجه اخر، فقد سعى إلى مخاطبة الاطفال بلغتهم المبتكرة. ففي مجموعته المسماة ‘قالت الوردة للسنونو’ الموجهة للاطفال، هناك قصة يأتي فيها طفل ال امه بيد مضمومة ويقول لها احزري ماذا في يدي؟ فتقول ماذا في يدك؟ يقول: غيمة. وعندما يفتح يده نجد فيها قطعة قطن. هذا الخيال الذي يوظف تصورات الطفل في حالة جمالية ذكية وفي خيال لاعب يعي قدرات الاطفال وطرافة انفتاحهم عل الوجود من مناطق الدهشة.. أنا اعتبر زكريا واحداً من أفضل من كتبوا للاطفال في الثقافة العربية وقد كتب بقدراته الشخصية ككاتب لم ينس طفولته، كتب للطفل فينا جميعاً. والواقع ان تجربته للأطفال اثارتني في فترة مبكرة من حياتي القرائية. لأن أسئلة هذه الكتابة ولغتها ورؤاها متقدمة حقيقة لكن هناك علة في كتابة زكريا للاطفال سبق لي ان تحدثت عنها في محاضرة لي عن ادب الاطفال تحت عنوان: ‘ماذا نعرف عن الأطفال؟ ماذا نكتب لهم؟’ ألقيتها في الكويت بدعوة من مجلة ‘العربي’ مما لاحظته أن زكريا يوظف الاطفال احيانا قنطرة يعبر عليها ليقول قولا سياسيا، فيتقنع بهم ليوصل رسالة سياسية او ايديولوجية وهذا هو تحفظي عل كتابته.
تراث الكتابة للأطفال
نعود ال الكتابة الشائعة للاطفال والمنتشرة في العالم العربي واعني انطلاقا من مصر وبيروت اساساً، ترى ما هي التجربة الاهم في نظرك؟
من دون تردد أرى أن اهم تجربة في الكتابة للأطفال، لم يجر تجاوزها إلى الآن من قبل الكتابة الشائعة (لا من قبل الكتابة الطليعية وهي نادرة) هي تجربة كامل الكيلاني الذي كتب في الاربعينيات والخمسينيات والستينيات قصصا للأطفال استلهم فيها الاساطير الاغريقية والخرافات العربية القديمة والنثر والحكائي العربي الموجود في الف ليلة خصوصاً، واستلهم ايضا القصص العالمية الشهيرة نفسها، واظن انه ترجم وكتب معا.
النموذج الحكائي والسردي الكلاسيكي الذي قدمه كيلاني يجعلني اعتبره مؤسس السرد القصصي للاطفال في الثقافة العربية طبعا هناك من كتب في مصر بعده، ملاحظتي الأساسية أن كتابة طليعية للاطفال كتجربة زكريا تامر وجيله لم تنصهر إلى جانب تجربة كاتب ككامل الكيلاني في ثقافة كتاب الاطفال العرب اللاحقين لتؤسس لتيار كتابة جديدة، كما حدث في الشعر والرواية. فنحن نجد كتابا مفردين، لكن لا نجد تيارا للكتابة رغم كثرة المدّعين الذين يطبعون وينشرون للاطفال. واليوم هناك بالمقابل من يكتبون بطلب من المطابع ووزارة التربية والتعليم تشتري هذه الكتب بمناقصات هذه جريمة كبرى يشترك فيها السوق التجاري مع وزارات التربية والتعليم العربية وهم يعملون بدأب على تحطيم ثقافة الطفل.
ينزل ليكتب للطفل!
تحدثت عن الاستعلائية، استعلائية الاديب الذي يكتب للطفل.. قلت أنه ينزل ليكتب للطفل، ولا يشعر ان عليه أن يصعد ليكتب له.. ما السبب في نظرك؟
إن أمرها غريب، لكن السبب ببساطة هو في بطرياركية الثقافة العربية على حد تعبير هشام شرابي. سألني أحد الأشخاص قبل ايام: ليس معروفا عنك انك تكتب للاطفال هل بدأت تجربة جديدة الان؟ بدا لي السؤال غريباً. لكن ربما لدى الرجل الحق، لانني انقطعت عن نشر كتب الأطفال منذ عام 1990 عندما صدر لي ‘الصدفة’ و’الامبراطور والموسيق’ عن ‘دار فرح’ التي كان يشرف عليها صديقي الناقد عبد الرحمن بسيسو ضمن مشروع كان يشارك فيه زكريا تامر ونصري الصايغ واخرون. شعرت من حديث الشخص انني إذ أكتب وانشر كتابا للاطفال كأنني أقدم كتابا اقل قيمة من شعري! والحقيقة انني اشعر برهبة كبيرة عندما افكر انني سأقدم كتابا لطفل، وانني عندما أتوجه إلى الاطفال فهناك مسؤولية كبر، فنحن يمكن ان نؤذي اطفالاً وان نفسد ذائقتهم. فالكتابة للاطفال ليست أعل واصعب وحسب، بل إن مجمل حيثياتها تجعلنا نتأن ونتفكر ونطرح عل انفسنا كثيراً من الأسئلة قبل أن نتوصل ال صيغة نسميها كتابا للأطفال أو قصة للأطفال او قصيدة للاطفال.
والآن أتخيل أن اسوأ ما في الامر هو كتابة القصائد للاطفال. الكتابة للاطفال صعبة لدرجة تجعلني استعيد هنا ليون تولستوي فقد كتب قصة او قصتين للاطفال في حياته. اعتبر الكتابة للأطفال أصعب ما جرّبه في حياته. اجتهد كثيرا ليكتب بوشكين كذلك، وبعده اوسكار وايلد الذي يعتبر ‘شاعرا منحرفا’ أثار المحافظين في عصره وسيق ال المحاكم ومنعت كتبه. وايلد لديه قصص للاطفال مذهلة في جمالها. كنت ابكي كلما اقرأها عندما كنت صغيرا وقد قرأتها في ترجمة احمد شاكر الكرمي لها.
هناك يوجين يونسكو وكتاب آخرون كبار جداً جلّهم عبّر عن ان الكتابة للاطفال صعبة وانها اصعب من الكتابة للكبار، وأن علينا أن نرتفع بقدراتنا وذائقتنا، علينا أن نتفوق على أنفسنا حت نكتب لهم وليس أن نهبط إليهم كما عبر صاحبي.
والواقع أن الذين يعتدون على الأطفال بكتابتهم لهم يعرفون أن الأطفال ليس لديهم صوت في المجتمع. الطفل العربي بلا صوت وليس هناك من يسانده في الثقافة العربية حت يكون له صوت.
عندما تدخل مكتبة في بريطانيا-على سبيل المثال- سنكتشف أن ركن الاطفال هو الاكبر واشكال، وصيغ الثقافة المقدمة للاطفال متعددة جدا، فهي تتراوح بين التعليم بطريقة لطيفة وبين القصة المغرقة في خياليتها مثل هاري بوتر. وبين هذه القصص التي درت الملايين عل صاحبتها، وبين قصص التلقين اللطيفة من تعليم الحروف والالوان تجد بناء من طبقات عديدة اسمه ثقافة الاطفال.
بالمقابل نشهد في ثقافتنا العربية فوض واساءات وانعدام مواهب. وحقل أدب الأطفال متروك للمعتوهين. من هنا أنا ادعو الكتاب العرب الموهوبين ان يقدم كل منهم كتابا واحدا على الأقل للاطفال، يقول معه اريد ان اكتب فيه للطفل داخلي او أكتب لطفلي. وأدعو ان يكون لدينا كل عام او عامين نوع من لقاء او فكرة اجتماع عل هذه الفكرة، لننظر كيف نقدم للاطفال شيئا مبتكرا وربما هذا ما سوف يعينهم لاحقا عل قراءتنا ككتاب مبتكرين الطفل ليس بسيطا كما قلنا، بل لديه امكانات تجعله يحيّرك لأنه مبتكر. كل ما نفعله في حياتنا الثقافية هو لجم اطفالنا ليصبحوا عل مقاس افكارنا او ابتكاراتنا. لا نريد ان نعطيهم اكثر مما اعطيناهم، وهذا يعكس شخصية استبدادية وابوية مفرطة تشبه العصا الغليظة. قبل عشر سنوات كتبت مقالة قلت فيها حرفيا: ان الثقافة العربية تفتقر إلى عقدة قتل الاب، وتزدهر فيها عقدة قتل الابن. وهذا يعني حقيقة أن لدى ثقافتنا استعداد دائم لقتل المستقبل!