العرب ومعضلة الدولة: العصبيات بديلاً من الاستبداد
دلال البزري
أكثر من نصف قرن مضى على نيل العرب استقلالهم من الاستعمار القديم، ولم ينجحوا خلاله باقامة دولة مقنعة، ولو بالحدود المتعارف عليها؛ دولة بالمعنى الذي وعدوا أنفسهم بها في خطاب الممسكين بها حينها، دولة القانون والمؤسسات والتداول السلمي للسلطة؛ أي بالمعنى الحديث لمفهوم الدولة. العيب الذي نخر آمالهم الاستقلالية، العيب الذي وحّد مصيرهم، هو الطغيان والاستبداد. عملوا بالنظام والقانون وحتى “الانتخابات” أحيانا، حيث عُرفوا عالميا بالنسب الكاريكاتورية لـ”99,99%”…. ولكن دائما وأبدا في خدمة “دولة” تخدم سلطة، استحوذت عليها فئة استطاب لها المناخ.
والاستبداد صار قويا مع الزمن والتجارب التي ناقضته: فما ان تضعف هذه الدولة، او يسقط رمزها وقائدها، حتى ينهار الاستقرار فيها، وتصعد إلى زمامها الطوائف او الاثنيات. العراق مثال لها: أزيح صدام حسين، فهلّلنا للديمقراطية القادمة، ودولتها القانونية. فيما العكس حصل، رغم الانتخابات والحرية الجديدة: سقط صدام، فكان بديله تناحر المذاهب الاسلامية، وإخافة الطوائف المسيحية وتهجيرها، وشبه استقلال للإثنية الكردية في دولة مزدهرة، ومطالبة الاثنية التركمانية بحقوق جديدة.
التحليل الواقعي لواقع العراق اليوم صار يُصاغ بكلمات مختلفة عما سبق: كان بعيد استقلاله الاول عراق المواطنين العراقيين، وصار بعد احتلاله الثاني نموذجا صريحا اضافيا لدولة المذاهب والاثنيات؛ تتدخل فيه الدول باسم هذه الاخيرة وعبرها، وتقرر مصيره. قام العراقيون قبل خمسة أشهر بما يتوجّب عليهم بصفتهم بناة “دولة ديموقراطية” على أنقاض الاستبداد: اقترعوا، وإن بقانون يحترم “تكويناتهم” المذهبية والاثنية. ولكنهم حتى هذه اللحظة لم ينجحوا في ترجمة نتائج هذه الانتخابات إلى حكم يدير شؤون هذه الدولة. الذي يقف وراء هذه العرقلة التكتلاتُ الواقعة تحت الدولة، “التكوينات” المذهبية والاثنية، التي تتفوق قوتها “الواقعية” عن القوة القانونية للانتخابات.
والملفت جداً ن التجربة التركية، على تفوّقها الملحوظ، تقف أمام الحصيلة نفسها: ما أن أزاح الأتراك سلطة الجنرالات العسكرية وشرعيتهم، وبالاقتراع الديمقراطي، حتى برزت أدوار الأقليات وحقوقها التاريخية: الأرمن وحقهم بالاعتراف التركي بالمذبحة التي تعرّضوا لها في أوائل القرن الماضي، والأكراد بحقهم بالاستقلال الذاتي السياسي والثقافي، الـ 12 مليون من المذهب العلوي، وحقوقهم الدينية والثقافية والتنموية المهدورة في ظل العسكر.
لماذا؟ لماذا تصعد المكوّنات الأدنى من الدولة الجامعة عندما تسقط هذه الدولة، بالقوة كما حصل في العراق، أو كما هو قائم في لبنان بقوة “العُرف” والتقاليد، أو حتى في تركيا بقوة الانتخابات؟
ولأننا لا نملك معطيات دقيقة عن تركيا، ولا نستطيع الاجابة عن معضلتها الا بالعموميات، نحاول، في ما يتعلق بالعالم العربي، الاجابة على هذا التساؤل ببعض المعطيات الخاصة به.
لماذا اذن؟
الطوائف والاثنيات والاقليات لم تمّح طوال عهد “الدولة” العربية المعاصرة التي قامت بعد الاستقلال، لا لصالح “المواطن” كما اذيع حينها، ولا لصالح “القانون”. القانون كان يعني الامن في ذهن هذه الدولة، المتذرعة دائما وابدا بصراعها مع اسرائيل أو الامبريالية أو الاثنتين معاً. القانون كان يعني ان لا يهتز “الاستقرار” لغير صالح الممْسكين بهذه الدولة أو تلك. الطوائف كبنى وكيانات ملموسة كانت نائمة في هذه الاثناء، لم تجد طريقا لها في الدولة المزعومة. لكن بقيت ذاكرتها عن نفسها قوية، الذاكرة هي التي أحيتها عندما أتى الظرف الملائم لاستيقاظها من جديد، بعد سقوط شرعية السلطة صاحبة الدولة.
هذه الدولة بالذات كان لها وجه طائفي أو مذهبي أو اثني. تنشط كالنحل وترسي السلطة بـ”الاهل” والأقارب، الذين هم بداهة أبناء الملّة الواحدة، العائلة “الروحية” الواحدة. ولكن من دون خطاب طائفي يسندها، لأنه يفضحها. عيبها الطائفي غير معلن، لا تريد برهانا عليه. هي “الدولة” العابرة لمساحات البلاد التي تحكمها، وطائفيتها أو مذهبيتها ناشطة حيّة؛ هي مثل خلية نحل، ترتّب، تصعّد، تفرز، تنفّع، تتولى السلطة، تستمر بها عبر تمتين عصبيتها. وفي هذه الحالة، يسهل فهم مجتمعا بعينه ينهض على صورتها الراسخة عندما تحين “فرصة” سقوط هذه الفئة “الباغية”.
ولكن هناك شيء آخر: عندما استفاقت العصبيات على اثر وضوح فشل الدولة بأن تكون دولة، الا بمعنى عصبية حاكمة، كانت الايديولوجيا الوحيدة التي وجدتها أمامها هي الدين و/أو القبيلة. الايديولوجيا التقدمية العالمثالثية الحداثية كانت قد انهارت عام 1967 قبل ان ينهار معسكرها العالمي عام 1989. انهيار وصل اليها تباعا؛ وتباعا أيضا كان المجتمع يحتضن الايديولوجيا الدينية، تسانده من غير قصد السلطة الحاكمة المزايدة دينيا خوفا على نفسها من السقوط. فكان دين معارضة ودين سلطة، الاول أقوى من الثاني، لأنه لم يجرَّب، يغرف كل حجة كرهه للسلطة من أجل تعزيز عصبيته الدينية على التجنيد والتعبئة. فتنفجر كل هذه الطاقة في لحظة سقوط الاستبداد، ويكون البديل عنه صراع الطوائف على ما ورثته من سقوط قادة هذا الاستبداد ورموزه. انها آلية منطقية، لا نستطيع تصور غيرها، تردع الكثيرين عن إزاحة الاستبداد القائم خوفا من التذرّر الدموي الآتي مع الحكم “الواعد” الجديد. او هكذا يفترض. فالواقع ان العصبيات لم تعد نائمة كما كانت بعيد الاستقلالات، ولا مسالمة، وحجتها أقوى من حجة الاستبداد.
الامر الطبيعي، عندما تصعد العصبيات الواقعة تحت خط الدولة إلى ما فوقها، ان تحتاج إلى أطر وبنى وتنظيرات تختلف عن تلك المعمول بها في الدولة الساقطة، حتى التسلطية منها. بنى الدولة “الموروثة” هذه لا تلائمها، لذلك فهي في حالة صراع معها، أو تنافر شديد. خذ المثل العراقي: حتى الانتخابات الآخذة الطوائف بعين الاعتبار لم تستطع ان تترجم الديناميكيات الواقعية لهذه الطوائف. لو كانت هذه الديناميكات أكثر خيالا من الانتخابات نفسها، لكانت اخترعت بنى جديدة. لكنها تبدو على نفس درجة عجز الدولة المرذولة من اقتحام المعضلة. لذلك، قد يحتاج العراق إلى وقت طويل لتتطابق بنى الدولة مع بنى الطوائف المسيّرة لها، وهي طائفية صحيح، كما كانت الدولة الساقطة، ولكنها ليست موحِّدة مثلها؛ بل طوائف ذات انفجارات عنقودية، لم تجد، حتى الآن، سبيلا بعد إلى الصياغة النهائية او الملائمة لقوتها، ذاتية كانت هذه القوة، أو خارجية.
الآن مسألة النموذج الحداثي المهيمن، بدوره، تعبره الطوائف وتعصف بأسسه الجمهورية الزمنية العلمانية: الصراع السياسي الاميركي الداخلي على بناء مركز اسلامي بالقرب من الغراوند زيرو، أنقاض عملية 11 سبتمبر الارهابية، مخاض أوروبا مع كل مظاهر الأسلمة في مجتمعاتها: بناء المآذن، تطبيق الشريعة الاسلامية أو بنود منها، السماح بالحجاب أو منعه في البداية، ثم من بعده النقاب، الانتشار السريع لمأكولات “الحلال” ولكافة أشكال التعبير الديني العام… كلها وغيرها من مظاهر الانقسام الاجتماعي على أسس الدين او الانتماء اليه، التي يحفل بها الغرب الاوروبي والاميركي، أضعفت النموذج الحداثي وأفرغته من عدوانيته الايجابية. الا اذا كانت العيوب التي ألحقها الزمن بهذا النموذج هي التي سمحت للطوائف بالنشأة ثم بالبروز بحيوية غير مسبوقة.
ان الجديد الذي تواجهه اليوم مسألة الدولة، هو ما يقع تحتها من أطر ومستويات وديناميكيات، أي الشعوب، أو “المكونات”، أو “الشارع”، أو “الجماهير”… التقليد السائد في تفكير مسائل الدولة كان يقضي في السابق بإحتكار علماء السياسة البحث بها؛ على أساس ان الدولة عملية فوقية، نخبوية، سياسية. الواقع الآن ان الذي سوف يساهم في المستقبل القريب، إن لم يسهم لتوه، في بناء الدولة أو عرقلتها هي “مكونات” المجتمع لا ساسته: الذين هم “تحت” لا الذين هم “فوق”. ويتطلّب الفهم الأعمق لهذه “المكونات” كسر احتكار علماء السياسة للبحث بها لصالح علماء تقاليد المجتمع وبناه، او ما يقع تحت الدولة، أي علماء الانثروبولوجيا؛ فمن دونهم سوف نبقى في حال دائم من ذم الاثنين، الدولة والمجتمع، من دون معرفتهما ومعرفة آلياتهما الدقيقة.