صراع السلالات «المقدسة»: العراق وغيره
فالح عبد الجبار
كنت أتوهم أن الصين وحدها تعبد الاسلاف حنى اتضح أن ايديولوجيا النسب هي الاخرى ضرب من عبادة الاسلاف. تجد ايديولوجيا النسب اقوى صور التعبير عنها في القبائل، التي تحفظ شجرات عوائلها، وتشترط على كل جيل أن يحفظ «سبعة» اجيال من اجداده.
كان من الشتائم المتداولة عند العراقيين او عند جيرانهم انزال اللعنة على المرء او المرأة «الى سابع ظهر». مرة انعم كاتب فلسطيني على العراقيين بخفض عدد اللعنات الى «خامس ظهر»، والظهر هو النسل مقسماً الى اجيال.
وكانت ايديولوجيا النسب قوية ايضاً وسط البيوتات الشريفة في المدن: الاشراف، او السادة، المتحدرون من قبيلة الرسول الكريم، قريش. وكان هؤلاء يحملون سجلات سلالتهم على ظهور الحمير، كلما انتقلوا من مدينة الى اخرى، او من بلد الى آخر.
النسب في العرف القبلي يعني نظافة الاصل، نقاوة الدم، والنسب عند عوائل الاشراف والسادة يعني ايضا «قدسية» هذا الاصل، الذي يكتسب في الموروث الشعبي، قدرات سحرية هائلة.
كادت الانساب ان تختفي في العراق بعد انهيار مكانة القبائل، وتهاوي سلطة الشيوخ، وتدهور مكانة السادة. وقد اسهم حزب البعث الحاكم (1968-2003) باقصاء الالقاب العشائرية والمناطقية عن الاستعمال، وذلك خلال المرحلة الاولى من حكمه، التي اتسمت بالنزعة العلمانية والاندفاع التنموي. وبانقلاب الحزب الحاكم على تراثه بالذات، عادت الانساب القبلية، والعائلية الى الحياة بقوة اكبر، مدعمة بمطالب دولة تخلت عن كل ماضيها الحداثي المزعوم خلال عقد التسعينات من القرن الماضي.
لعل اكثر المهن ازدهاراً في هذه الفترة هي مهنة «النسابين» اي العارفين بأنساب القبائل والبيوتات. وازدهر ادب جديد هو ادب تواريخ القبائل والعشائر، الى درجة أن احد الضباط العاملين في وزارة الداخلية عكف على اصدار «موسوعة العشائر العراقية» بعشرة مجلدات، اعتمد على نهب مدونات السابقين (مثل المحامي عباس العزاوي صاحب مجلدات عشائر العراق- او المؤرخ عبد الرزاق الحسيني صاحب موسوعة: تاريخ الوزارات، والعراق قديما وحديثاً)، وتزوير التواريخ خدمة لاولياء النعمة.
صار «النسابة» يبيعون السلالات لمن يدفع. واعاد الحضر، المصعوقون من هذا التحول في سياسة الدولة، اكتشاف نظم قرابية عفى عليها الزمن، او اختلاق وشائج قربى لسلالات اشراف وسادة، طلباً للجاه. وتجلى هذا الهوس لدى الحكام، بابتكار شجرة نسب عائلي تربط رئيس الجمهورية بالعترة العلوية.
مفهوم أن هذا الانقلاب في الخيارات يشي بانهيار الشرعية الثورية السابقة، ووجوب استبدالها بل ترميمها بايديولوجيا النسب المقدس. بل ان نظرية النسب حلت محل نظريات ساطع الحصري وميشيل عفلق في مفهوم القومية وتحديد معنى العروبة. فأصالة انساب القبائل صارت تفسر على انها اصالة الانتساب الى الامة العربية.
واليوم تستشري ايديولوجيا النسب في العراق مخترقة النظام السياسي- الحزبي الى اقصاه، متغلغلة حتى في النسيج الاداري، والديبلوماسي، والديني.
والمقارنة الغرائبية أن المرجعيات الدينية في العالم الشيعي مثلاً، رغم اعتزازها بالنسب الحسيني، لا تقوم على الميراث، بل هي ميدان مفتوح للصعود، لحمته العلوم الدينية، وسداه مبدأ الاعلمية. كما ان المرجعيات الدينية السنية، تربأ بمبدأ التوارث، وتقوم هي الاخرى على الدرس والتحصيل في علوم الفقه، والحديث، والتفسير، وما شاكل. بالمقابل نجد ان الاحزاب الحديثة، التي يفترض ان تقوم على مبدأ المصالح الاجتماعية- الاقتصادية، والاختيار الحر للزعامات من داخل القيادات، تجنح الى نظام القرابة.
وها نحن ازاء مفارقة حيث الجماعات التقليدية تنظم نفسها على اسس حديثة، وجماعات حديثة تنظم زعاماتها على اسس تقليدية. خذوا المرجعيات الدينية: في ايران لم يرث احمد الخميني والده، في منصب «الفقيه الولي» كما لم يورث السيد الخوئي موقعه كمرجع اعلى الى اسرته، بل اوصى بالسيد السيستاني، وحصل هذا من قبل في مرجعية السيد البروجردي الذي خلفه السيد محسن الحكيم، وهلمجرا.
وبسبب عودة ايديولوجيا القرابة، نجد اليوم الحركة الصدرية، والمجلس الاعلى، تقومان حصراً، على النسب العائلي، فيما يحتفظ حزب الدعوة بطابعه الحديث.
وعلى الجبهة الحداثية، العلمانية نجد امثلة اخرى على هذين النمطين من الزعامات الاسرية، وبخاصة وسط الاحزاب الكردية.
اعلم ان هذه الظاهرة ليست عراقية محضة، بل ليست عربية صرفة، وليست اسلامية صرفة. فالعوائل السياسية وفيرة، من كيم ايل سونغ وابنه جونغ ايل، الى اسرة انديرا غاندي، الى اسرة بي نظير بوتو. تغتذي هذه العوائل على قوة الموروث الاجتماعي، وهيبة السلطة، وجبروت الثروة، وهي عوامل تعزز القدرة على الاستمرار، مثلما تنمي الرغبة في هذا الاستمرار والتشبث به. من هنا تحول الاحزاب الحديثة، ورئاسات الجمهوريات الى اكتساب طابع شبه وراثي. كلما ازداد ضعف الاسس القانونية للدولة او للاحزاب الحديثة، التي تقوم على حسن الادارة وحكمة الاداء وسداد الرأي، والقدرة على الانجاز وتجنب الازمات، وكسب الشرعية القائمة على رضى وقبول الاكثرية (عبر الانتخابات) ضعفت هذه الاسس وغيرها، زاد التشبث بفكرة السلالة، وقوي التمسك بايديولوجيا النسب، أداة لتسويغ البقاء في قمة دولة او حزب.
ويشي هذا المنحى بالرغبة في الافلات من قيود الاسس القانونية، وترسيخ السيطرة بلا منازع، مؤكداً القانون الخلدوني القائل «الرياسة أهل العصبية». لكن لابن خلدون وجهه الآخر القائل بان التصارع على الملك يودي بالعصبية. وان جشع التمسك بالسلطة، حتى من وراء القبر، يطلق عنان التماسك القرابي، هو ذاته المفكك الاكبر لهذا التماسك. ومن سوء أو حسن حظنا ان الحضارة العربية- الاسلامية، لم تطور منظومة واضحة للتوارث، خلافاً لأوروبا.ففي اوروبا يكون البكر هو المرشح الاول، سيان إن كان ذكرا او انثى، يليه بكره وبقية ابنائه وبناته، ثم يليهم الاخ الاصغر والاخت الاصغر للوريث البكر وهلمجرا. بناء عليه، يعرف ابناء وبنات العائلة المالكة في بريطانيا، مثلاً، تسلسلهم المحدد في شجرة الميراث، ولا مجال لخلاف او صراع.
اما في حضارتنا فان للابناء، بل للاخوة والاعمام، حقاً متساوياً في وراثة المواقع. فالوارث هو الاسرة لا الفرد. ولقد رأينا مثالاً على ذلك في الاردن والعراق.
الوراثة هنا تقوم على خط افقي، من العاهل الى اشقائه، او على خط عمودي، من العاهل الى ابنائه. وثمة صراع حصل في الماضي، وسيحصل في المستقبل، داخل الخط العمودي، ثم داخل الخط الافقي، ثم بين هذين الخطين. وكلما زاد عدد القاطنين في كل خط، قويت امكانات الصراع الخفي والمعلن. ورأينا في العراق، في العقدين الاخيرين من حكم البعث داخل عشيرة البو ناصر، المتسيّدة على الحزب والدولة، مثل هذه المنافسات على المواقع، والمصاهرات، والزيجات، وبالتالي الصراع على وراثة الموقع الاول. ليس في هذا الواقع ما يسلي، بل هي مبعث شجن وأسى، فهو شاهد جديد على تدهور حضارتنا.
الحياة – 16/03/08