سوريا وإسرائيل.. تسوية أم دوران في المكان؟
عبد الله الحسن
لا تذهب السياسة إلى أهدافها بطريق مباشرة مستقيمة أبدا، وإنما بطريق ملتوية تنطوي على انحناءات معقدة، تعرف في علوم الإستراتيجية بطريق “الاقتراب غير المباشر” الذي تتناوشه وتتعاقب عليه هبات ساخنة وأخرى باردة، وذلك هو ديدن المسار السوري الإسرائيلي.
الهبة الباردة هي ما باتت تظلله في الآونة الأخيرة، منذ 21/5/2008 لحظة إعلان سوريا وإسرائيل، بتوقيت واحد عن البدء في مفاوضات مباشرة في إسطنبول برعاية تركية.
هذا الأمر منشؤه حالة التوازن القائمة بين الإستراتيجية الإسرائيلية حيال سوريا، والجغرافية السورية، ما يعني أن مروحة المناورة أمام الطرفين تبقى واسعة، بصرف النظر عن ضغوط اللحظة.
سوريا تعرف أن إسرائيل لا تستطيع أن تنقض عليها كما انقضت أميركا على العراق، خوفا من الخروج على ثوابت إستراتيجيتها التي حددها مستشار غولدا مائير العسكري الجنرال أهارون ياريف.
وهذه الثوابت قائمة على “اصطياد سوريا بالشبكة”، وهي نابعة من إدراك إسرائيل مدى خطورة العبث بالجغرافية السورية التي وصفها وزير خارجية دوايت أيزنهاور في الخمسينيات جون فوستر دالاس بـ”الجغرافية الخطرة“.
اللحظة الإقليمية
لا يمكن قراءة الإعلان عن مباشرة المفاوضات السورية الإسرائيلية برعاية تركية، بمعزل عن اللحظة الإقليمية السائدة، التي تطغى عليها سمة تراجع حدة الاستقطاب، وحالة من التهدئة، وربما التوافق بين الأطراف المتصارعة بفعل اكتشافها حدود قدرتها على إعادة صوغ النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط، وبالتالي الحاجة للحفاظ على ما تبقى من الوضع القائم.
وقد بدأت معالم هذه اللحظة الإقليمية ترتسم على الأرض في ساحات الصراع المتأججة في صورة اتفاقات هدنة وتوافق سياسي كما وقع في العراق، والاتفاق على استعادة صيغة “لا غالب ولا مغلوب” بين الأطراف اللبنانية في اتفاق الدوحة، والرعاية المصرية الدائبة لإقرار تهدئة أو هدنة بين حركة حماس وإسرائيل.
كل ذلك يشي بأن المرحلة التي جاءت بالقوة الأميركية المهولة إلى المنطقة عشية سقوط بغداد، ووضعت نصب عينيها تغيير الأنظمة السياسية في ستة بلدان في المنطقة، وفرض ملامح خارطة وشروط سياسية لا تحتملها المنطقة كما ذكر القائد السابق لقوات حلف شمال الأطلسي الجنرال ويزلي كلارك، قد بدأت تتراجع لصالح تسويات لن تتم مباشرة، لكن يجري تمهيد الأرض لها.
والمفاوضات السورية الإسرائيلية تقع في إطار هذا التمهيد، لكن هذه التسوية “الهدنوية”، إذا جاز التعبير، ليست سهلة بدورها، مع أن البحث فيها وعنها يقع في إطار الممكن.
التقديرات
في ضوء ما تقدم لا تبدو أبواب التسوية بين سوريا وإسرائيل مفتوحة على مصاريعها، لكنها أيضا ليست موصدة، لذا فإن مآلها ما زال يحكمه الغموض، إذ تفرضها حاجات مؤقتة لدى الطرفين قابلة للتلاشي بقدر ما هي قابلة إلى التحول إلى إنجاز، وكل ذلك برسم المستقبل.
لعل أهم هذه الحاجات أن العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي يحاول وزير الدفاع الحالي إيهود باراك تكريسها قائمة على أن الجبهة الداخلية التي هي البطن الرخوة لإسرائيل ستتأثر حتما في أي حرب مقبلة، لذلك يجب على إسرائيل القيام بكل ما تستطيعه لمنع أو إجهاض الحرب، حتى تتمكن من تحصين تلك البطن، وربما أيضا السعي إلى امتلاك الفرصة للانتقال بإسرائيل من صيغة “الدولة الفاشلة” إلى صيغة “الدولة الناجحة“.
وليس في ذلك أدنى غرابة، لأن أحد المعايير الأميركية المأخوذ بها في وصف “الدولة الفاشلة” هو عدم نجاحها في فرض إرادتها على “أراضيها” كافة، أو تحقيق السلم والأمن بين سكان الأراضي التي “تزمع” إدماجها في المستقبل.
ونضيف إلى ذلك حاجة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت المتهم في قضايا الفساد، الضعيف شعبيا، إلى التنصل من الاستحقاقات المطلوبة على المسار الفلسطيني كالقدس والحدود النهائية والمستوطنات وحق العودة، وحاجته كذلك إلى الهروب من كابوس صيف العام 2006 عن طريق عقد صفقة مع سوريا تنهي ضمن أشياء أخرى سلاح “حزب الله” خصوصا أن المطلوب من سوريا حين انتهت المفاوضات السابقة (1991-2000) ليس كثيرا ولا هو متعذر.
المصادر السورية المطلعة على ملف المفاوضات تقول إن 85% من عناصر السلام تم التوصل إليها في أعوام التفاوض التسعة مع خمس حكومات إسرائيلية متعاقبة، إضافة إلى أن الجولان لم يعد حاجة أمنية ولا عسكرية بالنسبة لإسرائيل بعد أن أخذت الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى دورها في الحروب في العالم كله، وليس في إسرائيل وحدها.
تقديرات أخرى
أما على المقلب السوري فهناك رغبة سورية جامحة في كسر حالة الحصار، وتجاوز الضغوط الدولية التي تحاول “شيطنتها”، وتلافي رزمة أخرى من العقوبات الأميركية والأوروبية ضدها، لاسيما بعد انكشاف ما تدعوه واشنطن بـ”المشروع النووي السوري” في دير الزور.
كما أن سوريا بحاجة إلى كسب مزيد من الوقت في انتظار اتضاح خريطة ميزان القوى وصورتها من حول دمشق في الفترة المقبلة.
لكن هذه الحاجات الآنية لا تحجب حقيقة أن سوريا شيدت إستراتيجيتها على ضرورة استعادة الجولان إلى الوطن الأم، كهدف راهن غير قابل للإرجاء، وصاغت من أجله سلة من الخيارات بينها اعتماد “السلام خيارا إستراتيجيا“.
ولأن استعادة الجولان هدف وحق سوري غير قابل للمساومة فقد أعلنت المصادر السورية أن مفاوضات إسطنبول غير المباشرة تدور حول “تحديد الجدول” الزمني للانسحاب، وترسيم خط الرابع من حزيران عام 1967، وباقي عناصر السلام، والجدول الزمني الرابط بينها وليس موضوع الانسحاب باعتبار أن الأرض غير قابلة للتفاوض“.
أما تبرع تركيا بالقيام بدور الوسيط، فهو بلا شك ينطلق من رؤية تركيا لدورها المستقبلي في الشرق الأوسط، حيث تسعى تحت قيادة حزب العدالة والتنمية إلى لعب دور أبرز الوكلاء الإقليمين لمشروع الشرق الأوسط الأميركي، ولا ريب في أن نجاح الوساطة وبدء المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، يقرب تركيا أكثر من هدف قيادة المنطقة.
وقد أشار إلى ذلك مستشار رئيس الوزراء التركي الوسيط في المفاوضات أحمد داود أوغلو في مقال عرضته صحيفة ستار التركية، جاء فيه أن قطع تركيا لعلاقات عمرها خمسمائة سنة مع الشرق، واتباعها سياسة غربية خلال خمسين سنة الماضية، كان أحد أسباب عزلها وتراجع دورها.
الصحيفة علقت على كلام أوغلو بأن الوساطة إذا أسفرت عن نتيجة ستزيل وصف تركيا بأنها بلد اتبع سياسات موالية لإسرائيل وأوروبا وأميركا، وستسمح لها بالتحول إلى أحد اللاعبين الأساسيين في الشرق الأوسط، فهذا الدور على ما يبدو لن يكون إلا على حساب إيران.
التقديرات التركية ترى أن المنطق الداخلي للمفاوضات السورية الإسرائيلية سيقود إلى تراجع في أولوية التحالف مع إيران على سلم اهتمامات صانع القرار السوري.
وهذا التراجع في نفوذ أحد الطرفين سيصب في مصلحة الطرف الآخر، وصولا إلى إنهاء التنافس على قيادة المنطقة لمصلحته.
تجدر الإشارة إلى أن تركيا لم تكن غائبة عن المفاوضات السابقة، لكن حضورها كان جزئيا، استدعاه اقتراح الرئيس بيل كلينتون التعامل مع بحيرة طبرية ومصادر المياه في الجولان.
ومثلما تم التعامل مع طابا المصرية، أي أن تكون نسبة 18% من بحيرة طبرية الواقعة ضمن حدود الرابع من حزيران، وكذلك مصادر المياه تحت السيادة السورية، لكن من دون جيش، كما يحق للإسرائيليين دخولها من دون تأشيرات، على أن تقوم تركيا بالتعويض عن كمية المياه المستعملة من قبل إسرائيل بزيادة كمية المياه التي تستعملها سوريا من نهر الفرات.
الدوران في المكان
الصيغ الإسرائيلية المطروحة للتسوية والمتداولة في وسائل الإعلام تهدف كما يبدو إلى التحايل على المطلب السوري في استعادة الجولان كاملا حتى خطوط الرابع من حزيران، الأمر الذي يعني أن مآل المفاوضات لن يفضي إلى عقد تسوية إستراتيجية بين الطرفين، بل سيجعل المفاوضات ضربا من الدوران في حلقة مفرغة أو الدوران في المكان.
ويمكن في هذا الصدد التوقف عند أبرز الصيغ المتداولة إسرائيليا، فالصيغة الأولى طرحتها صحيفة هآرتس التي كانت أول من أشار في تقرير لها في يناير/كانون الثاني عام 2007 إلى مفاوضات سرية غير رسمية بين شخصيات إسرائيلية وأخرى سورية.
جاء في نص صيغة الصحيفة أن سوريا إذا قطعت اتصالاتها مع حزب الله وحماس وأبعدت نفسها عن إيران ستسحب إسرائيل قواتها إلى غاية بحيرة طبرية، لكنها ستبقي قبضتها على مياهها، وسيتم تحويل جزء كبير من هضبة الجولان إلى حديقة لفائدة كل من الطرفين على حد سواء، في حين يتم إخلاء الحدود على الجانبين من الجيش.
بدوره المدير العام السابق للخارجية الإسرائيلية المفاوض غير الرسمي مع الشخصيات السورية غير الرسمية آلون ليئيل أشار إلى صيغة أخرى للتسوية قريبة من الأولى، خلال مقابلة أجرتها معه صحيفة “الجريدة” الكويتية يوم 11/4/2008.
وقد لخص ليئيل صيغته كالآتي: “إقامة مجمع سياحي وصناعي على ثلث هضبة الجولان إلى الشرق من بحيرة طبرية، يكون دخول السوريين والإسرائيليين إليه دون تأشيرات، وتكون السيادة عليه والسلطة لسوريا.
أما المناطق الباقية التي ستخليها إسرائيل فتبقى خالية من السكان، وتقام فيها مرافق سياحية وترفيهية، وإسرائيل تتعهد بعدم هدم القرى والمدن التي تخليها لجعلها أرضية للمتنزهات والفنادق، أما الثلث المتبقي فيبقى منزوع السلاح. وبالطبع كل الجولان سيعود إلى السيادة السورية تدريجيا“.
وأوضح ليئيل دواعي هذه الصيغة بقوله “لإزالة القلق لدى الإسرائيليين من جهة وإعادة السيادة لسوريا من دون إحراج على الجولان“.
وزير الإسكان الإسرائيلي الحالي المقرب من أولمرت رأى أن الحل في الجولان لا يكون بالانسحاب منه، بل ثمة فكرة بتحويل الجولان إلى هونغ كونغ الشرق الأوسط، أي لنوع من الاستئجار والضمان لفترة طويلة الأمد، تتيح لإسرائيل فحص مدة صدقية التصريحات السورية حول السلام.
وأضاف “أنه لا معنى لوقف البناء في مستوطنات الجولان الآن، ولا خلال المفاوضات مع سوريا“.
تضاف إلى ذلك مسارعة عدد من أعضاء حزب كاديما للتوافق على الالتفاف على أي محاولة من جانب أولمرت للتوصل إلى اتفاق مع سوريا عن طريق التوقيع على مشروع قانون لتحصين “السيادة” الإسرائيلية في الهضبة يقضي بعدم شرعية أي انسحاب من الجولان ما لم يوافق عليه في استفتاء شعبي.
وفي الكنيست الحالي غالبية واضحة ضد أي انسحاب من الجولان، بل إن أكثر من ستين نائبا وقعوا هذا العام على تعهد بالتصويت ضد أي انسحاب من الجولان، ناهيك عن أن استطلاعات الرأي تقول بأن ثلثي الإسرائيليين ضد إعادة الجولان إلى سوريا.
لذلك يتوقع العديد من المراقبين أن مصير أولمرت لن يختلف عن مصير إسحاق رابين الذي اغتيل فيزيائيا بطلقات إيغال عامير، أما أولمرت فسيتم اغتياله أخلاقيا وسياسيا.
لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن الجولان جزء من سوريا اغتصب عنوة في عدوان حزيران، وأن مآله العودة إلى أحضان الوطن الأم.
وسوريا ستبقى في بؤرة المشهد الإقليمي ذاتا فاعلة لا موضوعا لصراع أو تنافس بين الأقطاب الإقليمية والدولية كما كان عليه الأمر في الخمسينيات، وبالتالي فهي تعمل وفق سلة خياراتها الوطنية.
__________________
كاتب سوري
الجزيرة نت