الحشود السورية على الحدود اللبنانية وتداعياتها السياسية
خالد غزال
لا تزال الحشود العسكرية السورية على الحدود اللبنانية تثير نقاشا وجدلا في الحياة السياسية اللبنانية، تنخرط فيهما القوى الموالية لسورية او المعارضة لها، ويتمحور النقاش حول إمكانات الدخول العسكري السوري مجددا الى لبنان،او استحالة استعادة ذلك الماضي، وهو نقاش تحكمه هواجس متبادلة. وزاد من وتيرة الجدل التصريحات الرسمية السورية نفسها التي اعتبرت ان الشمال اللبناني بات مأوى للحركات الارهابية المتطرفة، الأمر الذي يهدد الأمن السوري، وهي تصريحات لا تدعو الى الاطمئنان لبنانيا. لكن السؤال اللبناني أخذ يدور اليوم حول الممكن وغير الممكن من الكلام السوري، وما إذا كان يندرج في إطار الخطة السورية تجاه لبنان على غرار ما شهدته السبعينيات من القرن الماضي.
هناك ما يشبه السياسة السورية الثابتة تجاه لبنان، تتصل بالرغبة الدائمة في ان يكون لسوريا موقع متميز في لبنان، يبدأ من السياسة ويطاول جميع الميادين الأخرى، كما أن سورية قد نظرت الى لبنان كورقة إقليمية في الصراع العربي الصهيوني، يمكن توظيفها في إطار إدارة المفاوضات، واعتبرت سورية دوما أن لبنان يشكل «المدى الحيوي» لها بكل ما يعنيه هذا التعبير على الصعيد الإستراتجي. قد لا تعود هذه التوجهات الى الحكم السوري الحالي، بل هي متجذرة في الرؤية السورية تجاه لبنان منذ الاستقلالات في الأربعينيات من القرن الماضي، وهو ما عنى دوما مطالب سورية من لبنان، وتدخلا في حياته السياسية، وسعيا الى تشكيل حكم موال لسورية، ومنع استخدام الساحة اللبنانية مصدرا للتهديد الامني للاراضي السورية.
ويستعيد كثير من اللبنانيين اليوم وقائع الدخول السوري عبر قوات الردع العربية العام 1975 ويبنون عليها تصورات عن سيناريوهات مشابهة. من حق اللبنانيين التوجس خلالها، خصوصا أن الكلام متشابه بين الماضي واليوم عن المخاطر التي تهدد سورية، لكن استعادة السياق الذي جرى فيه التدخل سابقا، مقارنة بالحاضر، يمكن لها أن توضح بعض نقاط المفارقات وتضع الامور في نصابها. فقد اتى التدخل السوري العام 1975-1976 في سياق دولي إقليمي كانت المفاوضات العربية الاسرائيلية سائرة حثيثا لإنهاء هذا الصراع وتوقيع اتفاقات سلام بين العرب وإسرائيل. وكان لبنان يشكل يومها احد مواقع الاعتراض الناجم عن تمركز الثورة الفلسطينية التي كانت تشكل عمليا قوة اعتراض فعلية، ما كان يعني يومها ضرورة إنهاء هذا الحاجز. ولم تكن الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت آنذاك سوى أحد السبل لتحقيق إنهاء هذا الاعتراض. يومها تقاطعت الطموحات السورية تجاه لبنان مع المعسكر الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في تنفيذ هذه المهمة، فكان الدخول السوري مشرعا عربيا ودوليا، سبقه طلبات لبنانية بالتدخل لوضع حد للحرب الاهلية القائمة. وظل التفويض الدولي لسورية يتجدد في كل مرحلة، وعلى الرغم من أن الاجتياح الاسرائيلي العام 1982 قد أخرج سورية من معظم الأراضي اللبنانية، إلا أن التفويض الدولي كان يتجدد في كل فترة تفرض فيها التطورات الحاجة الى دور سوري. اهم التفويضات التي نالتها سورية كانت العام 1989 عند توقيع اتفاق الطائف وانهاء الحرب الأهلية بصيغتها الساخنة، وهو تفويض استمر مغطى دوليا وإقليميا حتى العام 2004 عندما صدر القرار رقم 1559 والذي أنهى عمليا التفويض الدولي لسورية وطالب بانسحابها. مع الإشارة الى ان الوجود السوري في لبنان كانت له تغطيته اللبنانية ايضا، حيث يمكن القول إن جميع أطراف الصراع اللبناني، يمينا ويسارا وسلطة رسمية، استعانت بسورية لإعانتها في حربها ضد بعضها البعض،وقلب ميزان القوى لمصلحتها بما يمكنها من الهيمنة الفئوية على البلد.
تبدو هذه الاستعادة التاريخية ضرورية ليمكن من خلالها الإضاءة على الوضع الراهن. صحيح ان سورية اخرجت من لبنان العام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن قرار الاخراج كان قد تكرس دوليا بالقرار 1559، وهو قرار أتى في سياق متغيرات دولية في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط والحد من تكليف القوى الإقليمية بمناطق باتت الإدارة الاميركية ترى ضرورة إشرافها المباشر عليها، خصوصا بعد حرب العراق. لا يعني ذلك ولا ينفي الجزم المطلق بعدم استخدام الورقة السورية في بعض الملفات الاقليمية، اذا ما رأت الإدارة الأميركية حاجة الى ذلك. لا يبدو الوضع اللبناني، على رغم كل تعقيداته، مشابها لفترة السبعينيات، ولا تشكل الاضطرابات الراهنة مصدر قلق دولي وعربي يهدد المنطقة، على الرغم من الإصرار السوري على ذلك، وهو ما يعني اختلاف الظروف بشكل واسع عما سبق، وهو أمر يمكن من خلاله القول إن سورية لا تحظى بغطاء دولي واقليمي، ولا بطلبات لبنانية رسمية تدعوها الى التدخل وإنقاذ البلد من حرب أهلية داخلية قد تمتد شراراتها لتصيب المنطقة ككل.
لا يخفى على الحكم في سورية وجود مثل هذه المعطيات الدولية والإقليمية، لكن سورية تجد نفسها اليوم في حالة انفراج دولي نسبي من حولها، بعد حصار استمر ثلاث سنوات، وهي تدير مفاوضات مع إسرائيل تحتاج خلالها الى أوراق قوة بيديها، ومنها لبنان، كما تعتبر أن الوضع الدولي لم يعد يعير الساحة اللبنانية الاهتمام نفسه الذي ناله في السنوات الاخيرة، وهي معطيات تشجع الحكم السوري على استعادة تصورات بامكان تجديد الوصاية على لبنان.
اربكت التوجهات السورية جميع القوى اللبنانية، رأى فيها أخصام سورية احتمالا فعليا لعودة عسكرية ما الى لبنان، وقرأوا فيها مقدمة لتغيير ميزان القوى السياسي عشية الانتخابات النيابية، وإمكانا لفرض حالة من الترهيب تتيح لحلفاء سورية تحقيق فوز في الانتخابات. اما حلفاء سورية فتذرعوا بحق سورية في اتخاذ الاحتياطات الضرورية التي تمنع المس بالأمن السوري، لكن أحدا من هذه القوى لم يتقدم حتى الآن بدعوات إلى عودة عسكرية إلى لبنان. صحيح أن القوى الموالية لسورية أصابها بعض الارتباك في مرحلة أولى في شأن الموقف الواجب اتخاذه تجاه التصريحات والتهديدات السورية، إلا أن الأيام الاخيرة عرفت تصريحات من قبل هؤلاء تؤكد أن لا عودة عسكرية سورية الى لبنان.
تشكل الاشهر المقبلة في الحياة السياسية اللبنانية أشهرا مفصلية تطال مصير لبنان، في هذه الأشهر، ستشهر جميع الأسلحة الشرعية منها وغير الشرعية لتغيير موازين القوى وتحديد طبيعة الحكم. في هذا السياق يجب أن تقرأ التوجهات السورية الداعية صراحة إلى تغيير الحكم الحالي والإتيان من خلال الانتخابات النيابية بحكم موال لها. تندرج الحشود والتصريحات السورية في هذا الهدف، وإذا كان بعضها يحمل من التهويل الشيء الكثير، إلا أن التعاطي معها يجب أن يكون فعليا. لا تشكل الحشود العسكرية بذاتها مصدر القوة السورية في لبنان، لأن هذه القوة تستمد فعلها من خلال القنوات اللبنانية، والتي تضم قوى أساسية في السياسة والأمن توالي سورية، وتسعى من خلال هذه القنوات الى إنجاح خطتها في استعادة النفوذ والوصاية، كما تعودت سورية عليها وكما اعتاد اللبنانيون على التعاطي معها.
اذا كانت حدة التصريحات والتهويل قد بردت مؤخرا تجاه إمكان العودة السورية العسكرية، إلا أن مفاعيل ما جرى قد بدأ بترك تداعياته في الحياة السياسية اللبنانية، وأهمها مراجعة قوى سياسية لتحالفاتها وإمكان الدخول في صفقات عشية الانتخابات النيابية، آخذة في الاعتبار إمكانية عودة الوصاية السورية مجددا.
كاتب من لبنان