خارطة طريق جديدة بين لبنان وسوريا؟
بول شاوول
… وفي 15 تشرين الأول 2008، أعلن رسمياً بدء العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وسوريا كما هي الحال مع كل دول العالم المعترف بحدودها ووجودها ومؤسساتها وسيادتها واستقلالها، نداً لند، وإن كانت العلاقات بين صغرى الدول وكبرها (على الأقل من الجانب النظري او المبدئي). فمن المفترض اذاً ان تبادلاً ديبلوماسياً بين دولتين، خصوصاً بين »شقيقين« مجاورين ومتداخلين في القربى وفي الطبيعة وفي الموارد ولربما في التاريخ (وأحياناً في الأيديولوجيا وإن قسراً) ، يعني قبل كل شيء ان مرحلة استقلالية مضافة الى الانجاز الاستقلالي، قد دُشنّت: قطع شريط تدشينها وزيرا خارجية البلدين، وتقرر التدشين في لقاء رئيسي البلدين ميشال سليمان وبشار الأسد، وعندما نقول ان اضافة استقلالية ترسخّت يعني قبل كل شيء ان حدوداً جغرافية واضحة لا بد ان تترسخ بالترسيم والتحديد. اذ لا يمكن أن تكمل علاقة ديبلوماسية اذا تشوشت الجغراقيا بين البلدين. والجغرافيا تعني الحرب أحياناً، وانتقاص السيادة أحياناً أخرى، وضعف الهوية، وذيوع الخوف، وانتشار التردد، وتردي المشاعر… فكما ان النظام السوري يُفترض انه يحافظ على كل حبة من ترابه الوطني (داخل حدوده المعروفة) بالدم والكفاح، فإن النظام اللبناني بشعبه أيضاَ، يفترض انه يحافظ على كل حبة من ترابه الوطني، بالدم والمقاومة والكفاح، سواء جاء الانتهاك من العدو الصهيوني (مزارع شبعا وإن مشوشة الانتماء القانوني فحسب)، او من أي طرفٍ شقيق سواء كان شقيقاً طبيعياً كما هي الحال بين لبنان وسوريا، ام كان شقيقاً مفترضاً (آنياً) كما هي الحال بين لبنان وايران، او بين لبنان وأي بلد آخر.
وترسيم الحدود ضمن الفضاء السيادي الكلي، يعني أيضاً ترسيم الحدود السياسية الأخرى: التبادل الديبلوماسي يعتبر اعترافاً بالمكونات السياسية والمجتمعية وبطبيعة النظام، وأهله، وطبيعة الديموقراطية وأدواتها ونتائجها ايضاً لا سيما الانتخاب، ضمن المعادلات التي يقررها الشعب أو من ينوب عنه بشرعية التمثيل النيابي أو سواه.
بمعنى آخر وجوب انتفاء التدخل الشقيق أو غير الشقيق في الشؤون الداخلية، وكذلك الكف عن تصوير اللبنانيين وكأنهم مجرد وحوش طائفية ومذهبية تحتاج الى من يرعاها من الخارج، ويمنعها من افتراس بعضها، عبر حروب أهلية، ونزاعات مذهبية وطائفية. وهذا ينسحب الى وجوب الكف عن زرع الفتن وتوزيع الأسلحة واختلاق »أطراف« تُصدّر من هنا وهناك باسم »الأصولية« أو السلفية أو الارهابية، لايجاد ذرائع لتجديد التدخل، والانخراط في لعبة الصراعات المحلية. وعليه، فاذا كان ثمة ما يشير عينياً الى مثل هذه الظواهر الارهابية داخل لبنان، فالمهمة لا تقع مثلاً على عاتق النظام السوري ولا الايراني ولا الاسرائيلي ولا الأميركي: انه شأن لبناني لا أكثر ولا أقل. والدليل انه عندما سادت مراحل عديدة من الاغتيالات طاولت رموزاً لبنانية منذ نهاية التسعينات حتى اليوم وعندما راحت تفخخ السيارات والمركبات وتفجر على الارض اللبنانية وكذلك الفرق الاسلامية ممهورة ببطاقات الجوار، لم يكن لا للجيش اللبناني ولا لقواه الأمنية ان تتمرس على الحدود السورية لتمنع تدفق مثل هذه الظواهر المعروفة التصدير والماركات المزيفة بامتياز!
صحيح ان هناك »فئات« (مرتهنة عموماً) لا ترى مصلحة في التقارب بين البلدين، ولا في إقامة علاقات ديبلوماسية، لأنها قائمة اصلاً على »التناقضات» إما بين البلدين أو بين أطراف لبنانية متعددة والنظام السوري. وكلنا يعرف ان هذه الفئات سواء بأوامر معلومة أو بتلقائية مشوبة أعلنت مراراًَ ان العلاقات الديبلوماسية ضد مصالح البلدين. هكذا وبكل خسّة وبكل انذلال وبكل لا وطنية وها هي اليوم ترحب بالخطوة التاريخية وتحسبها لنفسها وللنظام السوري فحسب.
واذا كان صحيحاً ان هذه الخطوة التاريخية تُحسب للرئيس الأسد برغم كل شيء باعتبار انها تمت في عهده دون سائر العهود السابقة التي تمتد اكثر من ثلاثة ارباع القرن، فانها تحسب ايضاَ لقوى 14 آذار التي كانت العلاقات الديبلوماسية في صلب أولوياتها ومطالبها. ونظن انه وبعيداً الآن عن احالة هذا الإنجاز الى هذا الطرف او ذاك فإنه يفترض ان يكون »ربحاً« للجميع. فارساء علاقات ديبلوماسية بين لبنان وسوريا لا يجرح لا المشاعر القومية العروبية ولا حتى آفاقها التوحيدية (وكنا من دعاتها) ولا في تكاملاتها، ولا في تناسقها، بقدر ما هي محاولة جديدة لتجديد فكرة العروبة غير الاستبدادية وغير الطغيانية (كلنا رأينا ما حلّ بالعراق بعد غزو صدام حسين للكويت)؛ وارساء العلاقات لا يُدمي العلاقات الانسانية والنسبية والوشائج التارخية والاجتماعية بين الشعبين، باعتبار ان لسوريا علاقات ديبلوماسية مع كل الأنظمة العربية ولم يؤدِ ذلك الى اضعاف تلك الوشائج. ولا نظن ان تكريس هذه العلاقة يُبدّد احتمالات مواجهة العدو الصهيوني سواء في جنوب لبنان ام في الجولان. على العكس: لم ينفع الوصاية السورية على امتداد 30 عاماً في لبنان، في استرجاع الجولان. على العكس: وجوده في لبنان أبعده كثيراً عن استرداد الجولان. وابعده كثيراً عن المواجهة. بل وابعده كثيراً عن تنظيم قوى مقاومة شرعية وعسكرية أو شعبية داخل سوريا، ونقول اكثر: لا نظن ان عدم اعتراف سوريا بدولة لبنان المستقل أفاد الوضع الاقتصادي في سوريا. على العكس فقد أضر به كثيراً، وشكل عاملاً سلبياً في مجالات النمو والانفتاح، برغم ان مئات ألوف العمال السوريين اشتغلوا في لبنان عشرات السنوات. كما ان عدم ارساء العلاقات بين البلدين لم يُبيّض صورة النظام السوري لا في العالم العربي ولا في العالم بمجتمعاته ومؤسساته الشرعية ودساتيره ومفاهيمه.
وفي المقابل، فقد الحقت الوصاية وعبر ذريعة عدم اعترافها بالدولة اللبنانية المستقلة إلا شكلياً أو بروتوكولياً أو فولكلورياً الضرر بلبنان ايضاً، وأدّت الى عشرات الحروب والقلاقل والاضطرابات على ارضه باعتبار ان الوصاية وسائر الوصايات التي تعاقبت استمدت شرعيتها من بعضها، كعملية انتهاك سافرة للبلد الشقيق وصولاً الى العدو الصهيوني الذي ان كان لا يحتاج الى ذرائع لمحاربة لبنان وعدوانه عليه، فقد قدمت اليه الذرائع (بحسابات صغيرة وتافهة) ليشن حروباً دمرت معالم لبنانية والاقتصاد…. سواء في 1979 أو 1982 أو في 9 تموز الأسبق… وصحيح ان النظام السوري ومعه الايراني (استُدرج كوصاية مقابلة ضمن معادلة مذهبية) دعما المقاومة التي حررت مشكورة الجنوب (ولا تزال مقاومة برغم تحرير الأرض!) إلاّ ان الصحيح ايضاَ ان الوصايتين قد صفتا المقاومة الوطنية العلمانية المرتبطة بعرفات او بمنظمة التحرير التي كان لها الباع ايضاَ بارتكاب اخطاء مميتة بحق المجتمع اللبناني والدولة اللبنانية بتدخلها السافر في الشؤون اللبنانية واعتبار لبنان مجرد ورقة… في جيبها او في فوهة مدافعها! وهذا ما فعلته المقاومة الاسلامية لكن ضمن مرجعية مختلفة: ايران وسوريا وضمن خلفية طائفية: اقتصرت على فئة دون سواها. وباتت قرارات الحرب والسلام في الأيدي السورية ـ الايرانية بعد الأيدي العرفاتية وامتداداتها!
إذاً التفكير في ان لبنان المضطرب أرض خصبة لترسيخ الوصاية (أي وصاية) عاد بالضرر على البلدين: سوريا ولبنان! ولا يتبجحن احدٌ من أهل النظام الشقيق، سواء من الحرس القديم او من حراسه الجدد، بأن امجادهم تُبنى بنفوذهم في لبنان. وهو نفوذ عارض. وزائل وافتراضي ولحظوي ولا يتبجحن احد بأن اضعاف لبنان لا ستفراسه يخدم الوصاية ومصالحها، فهي اضعف من لبنان اقتصادياً وديموقراطياً وسياسياً، وأقوى منه فقط عسكرياً ومخابراتياً: ومن قال ان القوة تعزز الحضور او الهيمنة على شعوب أخرى! فكل قوة من دون عقل سياسي استبصاري (لا عقل مخابراتي) واستراتيجي هي قوة وهمية، تعبر عن الضعف أكثر مما تعبّر عن الثقة بالنفس.
على هذا الاساس نتطلع الى الخطوة »التاريخية« هذه كمؤشر (افتراضي على الأقل) بأن زمن الفرض والاملاء بالقوة، وزمن الاطماع التوسعية (والجولان محتل يا للمفارقة. اذ كيف يمكن أن يفكر نظام ما بالتوسع نحو أرض اشقائه والعدو يحتل جزءاً من أرضه: يا للمفارقة التراجيدية!) »وتطييف» المجتمع الشقيق أو الاسهام في تطييفه قبائل ومذاهب وطوائف متناحرة لسبب بسيط ان كل العالم العربي اليوم يطفو فوق بركان طائفي ـ مذهبي ـ قبلي ـ عائلي (أي ميني دويلات غير معلنة) ولن يكون لا النظام السوري (ونعرف معادلاته) ولا اي نظام عربي آخر بمنأى عن التمزقات او التشرذم أو الحروب، ولن يكون له دائماً ان يسيطر على هذه النوازع المضمرة ربما، في التفجر… فلعبة اذكاء الطائفية في لبنان، التي مارسها الاستعمار الفرنسي والانكليزي والعثماني والكيان الصهيوني، والاميركان هي لعبة ترتد على اهلها، اذ لو ان اللعبة الطائفية ستخدم النظام السوري واليوم (أو الايراني..) فانها قد تورطهما في تناقضات مقبلة، لن يكونا دائماً في وضع المسيطر عليها فالقمع لا يغير الشعوب، ولو كان كذلك لغير الشعب الروسي مثلاً، والبولندي والفلسطيني…. واللبناني!
على هذا الأساس نتطلع الى خطوة التبادل الديبلوماسي بين النظامين اللبناني والسوري باعتبارها محطة لمراجعة تاريخ طويل من الحروب والأخطاء والمذلات والمذابح والهيمنات واحلام التوسع (أين!) واعادة النظر جذرية في استراتيجية التعامل مع الشعب اللبناني ونظامه ومكوناته وتعددياته. اي ان تكون الخطوة فاتحة اولاً لاعتبار الأولوية في استرجاع الجولان وليس لبنان وثانياً، باعتبار لبنان حقاًَ هو خاصرة سوريا وينبغي المحافظة على هذه الخاصرة ليس في غرف العناية الفائقة واعتبار ان »الحلم« التاريخي بحق سوري في لبنان ذهب ادراج التواريخ الظالمة، وان استنساب العداوات ضمن شرائح المجتمع لا يتم بين استنساب قوي موالية للوصاية وأخرى معارضة، بل باعتبار ان من حق اي لبناني ان يطالب بسيادته من دون تخوينه أو ترهيبه، تماماً كما ان من حق كل سوري ان يطالب بالا يكون لبنان منصة للاضرار به؟ واعتبار ان الحدود الجغرافية المفترض احترامها وتكريسها، ليست سوى الحدود السياسية الداخلية التي يجب احترامها وصونها وعدم خرقها، او تشويشها واذا كان ثمة من علاقات فليست بين النظام السوري وبعض مكوناته وانما مع الدولة اللبنانية (او ليس هذا هو المعنى الحقيقي لتبادل الديبلوماسية) وان النظرة »الفوقية« (الاستعمارية) والاستعبادية من قبل النظام الوصائي للدولة اللبنانية يجب ان تتحول علاقة ندية كما هي الحال مع سوريا واي نظام عربي او غير عربي (اذ كيف يحق لسوريا ان تتعامل بندية مع اليمن أو الاردن او مصر أو الصومال ولا تتعامل بالمنحى ذاته مع شقيقها »الحبيب« لبنان. وهل كل هذه الشعوب المذكورة تستحق السيادة ولا يستحقها الشعب اللبناني!).
وأخيراً: انها المبادأة الأولى في خطوة الألف ميل… ونتمنى الا تخترق الخطوة الديبلوماسية بهيئات ومجالس ومؤسسات تكون البديلة من الدولة اللبنانية!
النظامان اللبناني والسوري دشًنا خريطة طريق جديدة… فلتكن معبراً لعلاقات صحيحة وقوية وندية.. ومن يتمنى غير ذلك؟
المستقبل