نهاية العلاقات السورية اللبنانية المميزة
حسين العودات
لم تكن العلاقات اللبنانية مع سوريا أمراً تلقائياً أو اتفاقاً تقليدياً كما هي العلاقات بين الدول عادة، وإنما هي صيغة توافقت عليها القوى السياسية والاجتماعية والمذهبية داخل لبنان، والقوى الإقليمية والدولية خارجه، وقد اختط ميثاق 1943 بين القوى اللبنانية هذه الصيغة مباشرة أو مداورة ضمناً أو علناً.
من المعروف أن بلاد الشام (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق الحالية) كانت مجموعة من الولايات تابعة للسلطنة العثمانية حتى عام 1920، حين حل الانتدابان الفرنسي والبريطاني محل العثمانيين وقاما بتقسيم هذه الولايات إلى دول بموجب اتفاقية سايكس ـ بيكو.
وكانت «متصرفية جبل لبنان» زمن العثمانيين تتمتع بحكم ذاتي مراعاة لأغلبية سكانها المسيحيين، وتحت إشراف قناصل الدول الأوروبية، وقد اقتطع الفرنسيون بعد الانتداب أربعة أقضية من سوريا الحالية وضموها إلى لبنان وسموها «دولة لبنان الكبير».
وعندما أشرف لبنان على الاستقلال مطلع أربعينات القرن العشرين واجه صراعاً داخلياً وإقليمياً حول فلسفة دولته وعلاقاته الدولية المحتملة (انتمائه العربي أو اللبناني القطري أو بإقامة علاقات خاصة مع فرنسا) وعلى الأخص علاقاته مع سوريا.
وكذلك حول هيكلية دولته الداخلية وكيف يمكن الحفاظ على وجود الطوائف وحقوقها وامتيازات الكبيرة منها (عددها الآن ثماني عشرة طائفة)، وغيرها من القضايا المهمة التي تحدد هوية لبنان وعلاقاته الإقليمية والدولية.
توصل اللبنانيون والقوى الإقليمية والدولية في ذلك الوقت إلى الصيغة اللبنانية الحالية محلياً وخارجياً، وهي الصيغة التي سماها اللبنانيون فيما بعد صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، ومفادها إعلان استقلال لبنان وإلغاء نتائج المتصرفية القديمة وآثارها إلغاء كلياً.
وقيام الدولة المركزية على كامل أراضي «لبنان الكبير»، والحفاظ على علاقات مميزة مع سوريا تتمثل ببقاء الوحدة الاقتصادية بين البلدين والوحدة الجمركية والعملة الموحدة، وحرية التنقل بين مواطنيهما دون تأشيرة وحرية انتقال رؤوس الأموال وإمكانية العمل وغيرها..
وفي الوقت نفسه احترام العلاقة المميزة مع فرنسا واعتبارها الدولة الأكثر رعاية والأكثر قرباً (الأم الحنون). وفي المجال الداخلي نصت الصيغة على إيجاد توازن بين المذاهب والطوائف الدينية اللبنانية، فتقاسمت الطوائف الثلاث الرئيسية (المارونية والشيعية والسنية) فيما بينها الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية، رئاسة مجلس النواب، رئاسة الحكومة).
ثم تحاصصت مع الطوائف الأخرى مجلس النواب ومجلس الوزراء ووظائف الدرجة الأولى المدنية والعسكرية والأمنية، وبقيت هذه الصيغة قائمة حتى اتفاق الطائف 1990 الذي عدّلها كي تستوعب الظروف المستجدة والتطور الذي تم خلال نصف قرن من الاستقلال.
وكان واضحاً عدم استطاعة هذه الصيغة حفظ أمن لبنان وسلامته، بدليل اشتعال حرب أهلية عام 1958 وأخرى عام 1975، لكنها مع ذلك ربما كانت الصيغة الأفضل، وقد احترمتها القوى الإقليمية والدولية، حتى أن ميثاق جامعة الدول العربية جعل تنفيذ قرارات مجلس الجامعة اختيارياً احتراماً للرأي اللبناني الذي خشي من تأثير الإلزام على وضعه الداخلي.
لم تحافظ الحكومات السورية المتتابعة على العلاقات الخاصة والمميزة بالحال الذي كانت عليه بعيد الاستقلال، فقررت حكومة خالد العظم عام 1951 فرض القطيعة الاقتصادية مع لبنان، لأنها رأت أن الاقتصاد اللبناني المنفتح والحر يؤثر سلباً على الاقتصاد السوري الذي كان يسعى لحماية نفسه من التأثيرات الخارجية واستيراد البضائع الخارجية.
والذي وضع نظام حماية متكاملا على صناعته وفرض الرسوم الجمركية ومنع الاستيراد لحماية المنتجات الوطنية، عكس الاقتصاد اللبناني الذي كان منفتحاً على أوروبا ويتقاضى ضرائب ورسوماً رمزية مما أضر بالسياسة الاقتصادية التي كانت تطبقها سوريا، بسبب سيل البضائع التي يستوردها لبنان من أوروبا ويمررها إلى سوريا بتسهيلات وضعت أصلاً للبضائع اللبنانية.
وقد أصبح لكل من البلدين عملة مستقلة ومصرف مركزي مستقل وسياسة جمركية خاصة، وبدأت العلاقات المميزة تتراجع، بل بدأ الانفصال الحقيقي بين توجه كل من البلدين، حيث أخذ كل منهما يسير في طريق خاصة به ويتبنى سياسة مختلفة داخلية وخارجية.
رغم هذا بقيت سوريا تسعى للتأثير على التطور اللبناني (خوفاً من أن تتأثر به) ولتقوي دورها الإقليمي، فلم تكن حيادية في الواقع، لا في الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1958 (وكانت سوريا إقليمياً شمالياً للجمهورية العربية المتحدة).
ولا في تلك التي اشتعلت عام 1975 وما تبعها من دخول الجيش السوري إلى لبنان (بموافقة عربية ودولية وبعض لبنانية)، وبقيت القوات العسكرية السورية في لبنان حوالي ثلاثين عاماً انحازت خلالها إلى بعض أطراف الصراعات اللبنانية الداخلية، وساعدتها الظروف التي كانت قائمة على فرض آرائها بدون تحفظ، فضلاً عن الاستفادة من لبنان كورقة مهمة بيد سوريا في صراعها مع إسرائيل وفي تعزيز دورها الإقليمي.
تعقدت العلاقات السورية اللبنانية منذ مطلع القرن الحالي، فمن جهة نمت المقاومة اللبنانية ووجدت ضالتها في الدعم السوري العسكري والسياسي وفي التحالف السوري الإيراني، ولأسباب داخلية أو سيادية وجدت قوى لبنانية عديدة نفسها متضررة من الوجود السوري.
وما أن اغتيل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري حتى انفجرت مواقف القوى السياسية اللبنانية وأعلنت بصراحة عن آرائها، فبعضها طالب بالخلاص من الوجود السوري والتدخل السوري العسكري والسياسي، ونادى بحرية لبنان وسيادته ووحدة أراضيه.
وطالب بتبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين وترسيم الحدود وأعطى مفاهيم جديدة للعلاقات المميزة، وبعضها الآخر رغب بدعم سوريا وتمتين علاقاته التحالفية معها، والتصرف على أن البلدين بلد واحد، وأن مصالحهما موحدة يستحيل فصلها بغض النظر عن مفاهيم السيادة والاستقلال. وقد تحولت العلاقات بين البلدين في الواقع رهينة المصالح السياسية للقوى السياسية الحاكمة فيهما، ولم تعد المصالح العليا ذات أولوية.
بعد صدور الصكوك القانونية لتبادل السفراء قبل أيام، فرح بعض «السياديين اللبنانيين» بتبادل التمثيل الدبلوماسي، وأسف حلفاء سوريا الذين ما فتئوا يعارضونه، وحزن التيار القومي وأنصاره في البلدين، فبدلاً من تحقيق خطوات اتحادية أو وحدوية في نظره.
تكرّس الكيان القطري وتعمّد الاعتراف السوري بكيان لبناني مستقل بقرارات ومراسيم، ورأى القوميون أن هذا الإجراء يمثل المسمار الأخير في نعش العلاقات المميزة بين البلدين التي بدأت تحتضر عام 1951 وما لبثت أن توفيت عام 2008.
البيان الاماراتية