صفحات العالم

مشروع “رابطة الدول الديمقراطية”: أسوأ الرهانات !

زكي العايدي
ترجمة: محمد صدّام
إنّ المشروع الذي سطّره المرشّح الجمهوريّ للرّئاسة الأمريكية – ماك كاين- من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، لن ينتج سوى عكس المفعول الذي يسعى إليه.
لم تترك لنا انتهاكات حقوق الإنسان مهلة للراحة. فما كادت أزمة التيبت تخمد مؤقتا حتى اندلعت الكارثة البورمية تحت آثار إعصار مدمّر، بينما لم يكن للاحتجاجات والمساومات المتقاطعة في كلّ من دارفور والزيمبابوي أيّ جدوى. فما العمل إذن أمام هذا السيل من العنف والانتهاكات لحقوق الإنسان؟ كيف يمكن لنا أن نربط  بين تصرّف أخلاقيّ وممارسة فعلية  لهذه الحقوق في عالم تبقى فيه سيادة الدول – مهما كان القول – أساسية لأفضل الأمور كما لأسوئها.
على هذا السؤال الذي سبق لـ”كوفي أنان” أن طرحه في إبانه عند انطلاق أشغال لجنة “مسؤولية حماية المدنيين” في المنظمة الأممية، نرى السيناتور”ماك كاين”، المرشح الجمهوريّ للرئاسة الأمريكية وعِبر “روبار كاغان” الذي كان قد اشتهر أيّام الحرب على العراق بمقارنته بين أمريكا الفحلة (كوكب المريخ) وأوروبا المخنّثة (كوكب الزهرة)، يقدم لنا إجابة سياسية بسيطة تتمثّل في بعث “رابطة للبلدان الديمقراطية”، تكون بمثابة “حلف أطلسي للحريات”، يفترض أن تضمّ كلّ المجتمعات الديمقراطية في العالم للنضال بصورة موحّدة ضدّ انتهاكات حقوق الإنسان وضدّ التغيير المناخيّ وجرائم الإبادة الجماعية. فهلا تكون هناك محاولة لإعادة بناء غرب مشرذم مدعوّ أن  يصمد بطريقة أحسن في وجه بقية العالم، حسب المنطق القائل “الغرب ثم البقية”؟ (the West and the Rest)
يجيب “كاغان” على ذلك بالنفي، فسوف تكون هذه الرابطة مفتوحة للجميع على أساس وحيد هو الانتماء إلى العالم الديمقراطيّ. وبعد كل هذا، ألسنا نرى الاتحاد الأوروبيّ  يطبّق شرطا سياسيّا على الدول التي تلتحق به؟
ولأنّ هذا البرنامج يتوفّر ظاهريا على قدر كبير من الرشد وحسن النية ( فـ”من يستطيع مناهضة الديمقراطية غير الطغاة” ؟) ويستقطب قوى سياسية وإيديولوجية لا يستهان بها، فإننا يجب أن نأخذه على محمل الجد. ولهذا الغرض، وعلى قدر ما تكون نتائج إقراره وتركيزه مضرّة بالديمقراطية، يجب أن نعارضه بشدّة.
الديمقراطية قيمة وليست إيديولوجية. وإذا ما ربطنا انتشارها وترقيتها بمؤسّسة سياسية تهيمن عليها الولايات المتحدة فإنّ ذلك يفضي لا إلى تأليب الدول المعادية للديمقراطية ضدّها فحسب – الأمر الذي قد لا يكون محرجا في حدّ ذاته – بل كذلك كلّ الدول الديمقراطية تقريبا المنتمية للجنوب والتي – من إفريقيا الجنوبية إلى الهند مرورا بالبرازيل – ترى في كل مشروع من هذا القبيل محاولة الغاية منها إضعاف سيادة الدول، هذه السيادة التي تبقى في نظرها المبدأ الأهمّ في النظام العالميّ (الراهن).
إلا أنّ الموارد الوطنية تبقى، أحببنا أم كرهنا، ذات فاعلية كبيرة في بلدان الجنوب، وهي طبيعيا موضوع استعمالات وتلاعبات متعدّدة. غير أنّ هذا الاستعمال لا يفسّر كلّ شيء، فردود فعل الطلبة الصينيين بالولايات المتحدة تجاه أحداث التيبت تبيّن بوضوح أنّ الأمور ليست بتلك البساطة الظاهرية.
فحتى تجاه بورما التي أخلّ حكامها بكلّ واجباتهم، لم يجد “مبدأ مسؤولية حماية المدنيين” – لتبرير تدخّل إنسانيّ خارجيّ ضدّ المحور الذي تمثّله الحكومة  البورمية – إلا قبولا متحفـِّظا جدا، بما في ذلك من قِبل الوزير الأسبق الأستراليّ ” غارات إيفانس” المدافع الأساسيّ على هذا المعيار.
جدير بنا بالطبع أن نقوم بجميع المحاولات (الممكنة) كي نخفّض من إطلاقية السيادة الوطنية (لتنسيبها). غير أنه يجب أن نفعل ذلك بكامل الحذر وبواسطة الأدلّة والبراهين وليس عن طريق بعث رابطة للبلدان الديمقراطية. من هذا المنظور تشكّل مسؤولية حماية المدنيين خطوة حقيقية إلى الأمام في اتجاه تنسيب قيمة السيادة. ولأنها تبقى مكسبا هشّا فإنه يتعيّن استعمالها بكل احتراس وحذر، سيما أنها بالرغم من توافق إجماعيّ حولها، كانت في الواقع محلّ رفض العديد من الدول. وتتمثّل قوّتها في وجودها بالذات وفي كونها انبثقت سويّا من تفكير ممثّلي  بلدان الشمال والجنوب وأفضت إلى بروز ظروف  مضبوطة للاستعمال. أن نعتقد مع ذلك أنّ العالم ينقسم إلى بلدان ديمقراطية وبلدان تسلطية،  ليس إلا كلاما فارغا أكّدت المأساة العراقية مع الأسف حقيقة وجوده.
فلو كانت الديمقراطية تعني تلك الأطروحة المضادّة للاستبداد لا غير، لما كنّا فهمنا (لماذا) لا تزدهر فوق الميادين المدمَّرة والمتروكة من طرف الطغاة المستبدّين. فإذا لم يكن الأمر كذلك، فليس لأنّ شعوبا كانت مبرمجة جينيّا كي تكون ديمقراطية وأخرى لا، بل لأنّ الديمقراطية تفترض وئاما داخليا حول المعطى الوطنيّ، حول حقيقته وحدوده ومحتواه وحركياته. فهل ستكون “حماس” في واقع الأمر، لائقة للانضمام إلى رابطة البلدان الديمقراطية، لمجرد أنها انتـُخبت بأغلبية مريحة في غزّة؟
ولأنّ هذا المشروع إيديولوجيّ بحت، فإنه لا يمكن أن يكون له محتوى عمليّ. إن الاعتقاد بأنه يمكن التمييز بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة المستبدّة مثلما نميّز بين الإناث والذكور ليس اعتقادا رشيدا. فعلى أيٍّ من المعايير سوف نعتمد؟ هل سنختار الأعضاء بانتقاء أم سنكتفي بمجرد إعلان مبدئيّ ذاتيّ (لتبنِّي الديمقراطية)؟ فضلا عن وجود منطقة رمادية واسعة بين الدول التي لا يشكّ أحد في طبيعتها الديمقراطية وبين الدول التي تحكمها أنظمة مستبدّة.
غير أنّ الفاعلين الدوليين في العالم الواقعيّ لا يستندون إلى المبادئ وحدها لإنجاز أفعالهم، فهم لا يرون إلا ما ترتاح أنفسهم إلى رؤيته. فعلى الصعيد الفرنسيّ مثلا استطعنا أن نشاهد في الزمن الحقيقيّ ذلك التغيير المدهش الذي طرأ على مسار خطاب حقوق الإنسان خلال عام واحد: ابتدأ هذا التغيير يوم 6 ماي 2007 بباريس بقاعة “فغرام” بتصريح وهّاج من شأنه أن يُرجف خوفا كلّ أعداء الديمقراطية، لينتهي بتونس عاما بعد ذلك في شكل تصريح أخرق، نادم وعديم الفائدة حول موضوع :”نحن لا نعطي دروسا لأحد”. ربّما كان ذلك (صحيحا)! لكن هل كان من المجدي أن يصدر ذلك التصريح في تونس بالذات؟
يحتمل كثيرا  أن تشهد “رابطة الدول الديمقراطية” (في صورة بعثها) نفس المصير المحزن، علاوة عن تكاليف إضافية باهضة بقدر ما هي غير متوقعة: تماهي الديمقراطية في بلدان الجنوب مع  إيديولوجية تسعى لإضعاف السيادات الوطنية وتكفـّل الممارسات الدبلوماسية بتكذيب  المبادئ المُعلنة وتدعيم الحكّام المستبدّين واستعمال (شعار) الديمقراطية كل مرّة يكون طرحه مفيدا لإضعاف الخصم.
فمن الذي يحدّد اتجاه السير داخل هذه “الرابطة”؟ ومن الذي يخطر بباله أنّ الهند أو حتى اليابان سوف يُقدِمان على رفع سلاح الديمقراطية من أجل احتواء الصين؟ ومن الذي يفكّر بأنّ مثل تلك الرابطة تستطيع، وبأيّ شكل من الأشكال، أن تغير المسار المستبدّ لروسيا، حيث أننا لم نستطع حتى أمام السودان أن نطبق مبدأ “المسؤولية من أجل حماية المدنيين” ؟
هناك أخيرا غرض ثالث يحملنا على رفض مقدّمات هذا المشروع، ويتمثّل في الغايات التي يعلنها وهي الدفاع عن حقوق الإنسان ومقاومة الارتفاع الحراريّ والنضال ضدّ جرائم الإبادة الجماعية. لماذا نراه يرفع هذه الرهانات وليس غيرها؟ ما الذي يربط بينها؟ ما هي علاقة التغيير المناخيّ بالديمقراطية؟ زيادة على ذلك توجد بالنسبة لهذه المواضيع الثلاثة جملة من الأدوات القانونية مهيأة أو جاهزة بعد، في انتظار أن نضمن المزيد من فاعليتها. فماذا تستطيع أن تفعله” رابطة ٌ للديمقراطيات ” أكثر وأحسن مما فعلته قرارات الأمم المتحدة وبروتوكول “كيوتو” وإعلان 1948 حول الإبادة الجماعية والإعلان حول المسؤولية من أجل حماية المدنيين أو المحكمة الجنائية الدولية ؟
وبقطع النظر عن كلّ ذلك، ما هي  المصداقية التي تستطيع الولايات المتحدة أن تعطيها لهذا التمشّي عندما نعلم أنها لم توقـّع لا على بروتوكول “كيوتو” ولا على معاهدة روما المتعلقة بالمحكمة الجنائية الدولية ؟ فكيف يمكن لها أن تدافع على تنسيب القيمة السياسية للسيادة في حين أنها تلجأ دائما لهذه السيادة كي تبرّر رفضها الالتزام ببعض التعهّدات الدولية ؟
يشكّل مشروع “رابطة البلدان الديمقراطية” إذن أسْوَأ وسيلة لدفع قضية الديمقراطية ويمثل أحسن دليل لإثبات سخرية (وصفاقة) أولائك القائلين منذ أقدم العصور: كلما تذرّع أحدهم (بالدفاع عن قيم) الإنسانية كانت لديه نيّة الغشّ.
زكي العايدي : أستاذ العلوم السياسية بمركز الدراسات الأوروبية
آخر مؤلفاته:

•  EU Foreign Policy in a Globalized World. Normative power and social preferences، Routledge، 2008
•  Sortir du pessimisme social. Essai sur l’identité de la gauche، Hachette Litteratures / Presses de Sciences Po، coll. Télos، 2007 (with Gérard Grunberg)
•  La norme sans la force. L’énigme de la puissance européenne، Presses de Sciences Po 2005
صدر المقال بصحيفة ” لومند ” بتاريخ  08 – 07 – 2008
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى