تداعيات الضعف المستجدّ للقطب الواحد
محمد سيد رصاص *
عاشت واشنطن، كـ«قطب واحد» إثر انتصارها على السوفيات في الحرب الباردة، زمناً تجاوز عقداً ونصف من النجاحات المتواصلة التي لم تقطعها أية انتكاسة. وقد تصرفت الدول العالمية الكبرى باستسلامية حتى عندما امتدت واشنطن إلى «حدائقها الخلفية» أوالمجاورة (روسيا)، وبحثت أخرى عن مقايضة تكيفها مع الأجندات الأميركية في مناطق عديدة من العالم بمكاسب في مجالي الاقتصاد والتكنولوجيا أو في مواضيع إقليمية تخصها مثل تايوان وميانمار (الصين)، فيما اختارت أخرى سياسة التحاقية بأميركا (بريطانية)، بينما البعض الآخر اختار السياسة الأخيرة مقتدياً بلندن بعد فشل «ممانعاته» ابتداءً من عام 2004 (فرنسا).
كان الشرق الأوسط هو ميدان التركيز الأكبر لجهد القطب الواحد خلال عقد ونصف، هو والبلقان. وقد أوحت العملية العراقية بأنها ستكون شبيهة بمعركة أكتيوم في عام 31ق.م، لمّا انتصر الرومان على المصريين بقيادة أنطونيوس وكليوباترا، مكرّسين بعدها تدشين واستقرار أحادية قطبية عالمية لهم، من خلال السيطرة على الشرق الأوسط، امتدت لقرون لاحقة. ولم يكن هذا انتصاراً عسكرياً محضاً، يحققه غازٍ «ما»، بل كان مربوطاً بثقافة ورؤية للعالم، الشيء الذي حاول تكراره «المحافظون الجدد» خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين لـ«بناء القرن الجديد بما يتفق والمبادئ والمصالح الأميركية».
لم توحِ الثلاث سنوات الأولى من مرحلة ما بعد سقوط بغداد بأن المصاعب الأميركية كبيرة، وإن كانت أعطت إشارات إلى أن الاحتلال كان مساراً أصعب من مرحلتي الغزو والإعداد له. إلا أن آليات القضم والهضم وترتيب بلاد الرافدين، ومحاولة ذلك بالترافق للإقليم المحيط، كانت جارية وفق مسارات كانت غير معيقة بشكل كافٍ لعرقلة أو قلب الطاولة على الأميركي.
خلال تلك السنوات: بدأ المسار التراجعي للقطب الواحد منذ صباح 14 آب 2006 لما انتهت حرب تموز مع فشل تلك القابلة الإسرائيلية التي استدعتها واشنطن لكي تخوض تلك الحرب التي اعتبرتها كوندوليزا رايس «آلام مخاض ضرورية من أجل ولادة شرق أوسط جديد»، الذي بدأ الحبل به في ذلك اليوم الذي سقطت فيه بغداد.
مع فشل ذلك الوكيل الإسرائيلي في مهمته الأميركية تلك، بعد تهميش من واشنطن له، بدأ في حرب1991 لمّا مُنعت تل أبيب أميركياً من الرد على الصواريخ العراقية.
وجاء الأميركي مباشرة للمنطقة لترتيبها بيديه، ثمّ بدأت الولايات المتحدة في الاتجاه نحو سياسة جديدة تخلت فيها عن تهميش حلفائها وعدم مراعاة مصالحهم، كما جرى يوم غزو العراق تجاه الرياض والقاهرة وأنقرة، مكرّسة سياسة أصبحت تقوم على تلخيص المشهد الشرق الأوسطي من خلال عبارة «معتدلين ضد متطرفين»، فيما كانت سياسة واشنطن تقوم عقب 11 أيلول على «نشر الديموقراطية» و«مكافحة الإرهاب» الذي رأت الكثير من الأدبيات الفكرية والسياسية القريبة من الإدارة الأميركية بعد ضرب البرجين أنه ينبع من الديكتاتورية ونوع معين من الثقافة الإسلامية له صلة بالوهابية.
بدورها، أدت نتائج حرب تموز إلى تنامي دور الدول الإقليمية المصادمة أو الممانعة للمشروع الأميركي، مثل طهران ودمشق، بعدما كانت العاصمة السورية في حالة دفاعية تراجعية بين عامي2003والنصف الأول من 2006، وإلى إضعاف أجندات قوى داخلية كانت صاعدة بالخريطة السياسية لبلدان عربية عديدة بين سقوط بغداد والخسارة الإسرائيلية في لبنان، ليفتح المشهد الشرق الأوسطي على وضع تراجعي لواشنطن في المنطقة، كانت أولى ترجماته في 14حزيران 2007 بغزة مع انقلاب «حماس»، ثم في أيار 2008 بلبنان، لينشأ من خلال ذلك كله وضع جديد في المنطقة انفكت من خلاله عزلة السلطة السورية على الصعيد الدولي، وتعثرت عبره مسارات الولايات المتحدة نحو تفكيك المشروع النووي الإيراني أو ضربه.
هذا الوضع الجديد في الشرق الأوسط عَكس نفسه في ميل التوازنات لغير مصلحة واشنطن خلال النصف الثاني من 2008، إلى درجة أنها لم تستطع تثمير تحسن الوضع الأمني ـــ السياسي بالنسبة لها في العراق بعام 2008، فيما كانت تستطيع استيعاب عواصفه لما كان الوضع الإقليمي لمصلحتها بين عامي 2004 و2006.
بالمقابل، فإن تعثر واشنطن في المنطقة، قد عكس نفسه على مجمل اللوحة الدولية: أصبحت حركة الدول العالمية الكبرى أكثر حرية تجاه القطب الواحد، وإلا بدون هذا فلا يمكن تفسير حرية الحركة الفرنسية باتجاه دمشق، مع أن تلك الحركة تحوي الكثير من التنسيق والتمثيل لواشنطن. كما طرح فكرة الاتحاد المتوسطي من جانب الفرنسيين في الفترة نفسها، وبدون ذلك أيضاً لا يمكن تفسير تشجيع الصين الخفي لكوريا الشمالية في صيف 2008 على نقض أو الحيدان عن اتفاقاتها مع الولايات المتحدة لتفكيك منشآتها النووية، ما ولّد رداً قوياً من الأميركيين تمثل في صفقات أسلحة كبرى لتايوان وفي اتفاقية تعاون نووي ذات طابع استراتيجي بين واشنطن ونيودلهي.
كما أنّ هذا الوضع الأميركي التراجعي بالشرق الأوسط، هو الذي سمح بالذات لروسيا لكي تقوم بحركة غير مسبوقة في جورجيا في آب الماضي على الصعيد العسكري، في حرب كان واضحاً أن تبليسي تخوضها بالوكالة عن واشنطن ضد موسكو، فيما رأينا سابقاً استسلاماً روسياً أمام «الأقدار» حتى عندما ضمت دول البلطيق للحلف الأطلسي، وهي التي لا تبعد إحداها (إستونيا) سوى عشرات الكيلومترات عن سانت بطرسبورغ.
أيضاً، بدون هذا، لا يمكن فهم أبعاد واقع أن (القرار 1835)، الصادر عن مجلس الأمن بخصوص الملف النووي الإيراني، لا يحوي مكاسب أميركية جديدة بخلاف سابقيه.
هنا، حصل، وبعد شهر من الحرب الجورجية ـــ الروسية، بداية تفجر للأزمة المالية الأميركية، ما انعكس في وضع جديد أتاح لوزير المالية الألماني لكي يقول في أيلول الماضي أمام البوندستاغ إن «القطب الواحد الاقتصادي للعالم ربما هو على وشك الأفول»، من دون أن ينبس ببنت شفة عن «القطب الواحد» في المجالين السياسي والعسكري.
هل وصل «القطب الواحد للعالم» إلى حالة الأزمة، أم إن الأمر أمامه لا يعدو مجرد مصاعب وتعثرات هنا أو هناك؟ ثم، إذا كان الوضع هو وضع أزمة فعلاً عند واشنطن تجاه محاولتها قيادة العالم أو «إعادة صياغته»، فهل هذا سيؤدي إلى لوحة دولية جديدة تتسم بتعدد الأقطاب عبر دفع بعض الدول العالمية الكبرى للأوضاع نحو مسارات تجبر الأميركي على التسليم بذلك أو الانكفاء، أم إن واشنطن ستلجأ ـــ سواء أتى أوباما أو ماكاين ـــ من أجل منع حصول ذلك إلى افتعال أزمات، ربما تقود إلى حروب هنا أو هناك بالوكالة أو بالأصالة منها، لقلب التوازنات العالمية من جديد لمصلحتها، وخاصة بعد الأزمة المالية الأميركية التي من المحتمل أن تتحول إلى أزمة اقتصادية كبرى؟
* كاتب سوري