لعبة الأكثريات والأقليات وانسداد الأفق الوطني
حسن شامي
خلال الأيام القليلة الماضية، جرت حوادث أمنية وسياسية، متفاوتة الدلالة والحمولة، في غير بلد عري وشرق أوسطي. القاسم المشترك بين هذه الأحداث يكمن في افصاحه عن نزاع بين جماعات يجري تعريفها، بهوية الانتماء المذهبي أو الاثني، وتقيس موقعها ومكانتها بميزان الحساب العددي بين أكثرية وأقلية ليس داخل فضاء وطني عريض فحسب، بل كذلك في اطار منطقة أو مدينة أو محلة. ففي العراق أولاً، شهدت محافظة الموصل موجة قتل وتهجير استهدفت المسيحيين وأدت خلال اسبوع الى مقتل 15 شخصاً وتهجير نحو 300 عائلة مما استدعى من وزارة المهجرين العراقية، انشاء مخيم مؤقت للعائلات المسيحية النازحة من الموصل. حصول اعمال القتل والتهجير على يد مسلحين ينشطون في وضح النهار ويعتدون على المسيحيين على مرأى العشرات من الشهود، بحسب ما صرّح ممثل الكنيسة الكلدانية لدى الفاتيكان، حمل ممثلي الطوائف المسيحية على القاء المسؤولية على الحكومة والسلطات المحلية في محافظة نينوى. ولئن أصبحت الحالة العراقية، في غضون السنوات الماضية، نموذجاً للاصطفاف السكاني على قاعدة الانتماء المذهبي والاثني وارتسامها هوية ناجزة لعصبيات تتصارع على السلطة، فإن تداخل الخارجي والمحلي في هذه الصراعات المفضية الى انسداد الأفق الوطني، هو ما يستدعي الانتباه أكثر، اذا شئنا العثور على وجهة سياسية للحوادث العراقية المتناسلة.
يستفاد من هذا أن من الصعب أن نفصل بين تفاقم النزاعات بين جماعات محلية منغلقة على نفسها، بالأحرى مدعوة أكثر فأكثر الى الانغلاق على هوية مفترضة وناجزة، وبين النزاع على مسائل عريضة كالاتفاق الأمني بين واشنطن وبغداد والذي يرجح عدد متزايد من المراقبين عدم اقراره، والاختلاف على قانون مجالس المحافظات. هناك، في الأقل، نائب في البرلمان يمثل المسيحيين الكلدو-أشوريين أشار الى هذا. فهو حمّل «الارهاب الدولي الخارجي والخلافات السياسية مسؤولية ما يتعرض له مسيحيو الموصل»، ورأى أن الجدل حول قانون انتخابات مجالس المحافظات انعكس سلباً على الواقع الاجتماعي مما أدى الى الاحتقان في الشارع، وأن هناك أطرافاً خارجية تريد ترحيل المسيحيين.
في مكان آخر، في عكا، وقعت صدامات بين العرب واليهود تواصلت ثلاثة أيام وما يزال التوتر الشديد يخيم على المدينة ذات الغالبية العربية في ظل انتشار مئات من الشرطة والقوات الخاصة الاسرائيلية، ناهيك عن زيارة الرئيس الاسرائيلي بيريز وحضه ممثلي الجماعات على التفاهم، للحيلولة دون انتشار المواجهات في أمكنة أخرى يقطنها ما يعرف بعرب 1948.
وكما في روايات التاريخ المبسطة التي تعزو حروباً أهلية ومواجهات مسلحة الى خلاف بين أولاد من طوائف مختلفة ومتصارعة، قيل ان الصدامات جرت بسبب الاعتداء على عربي لدى دخوله بسيارته الحي الشرقي من عكا خلال «يوم الغفران» اليهودي. وقد أقدم عدد من المتطرفين اليهود على اضرام النار في منزلين يسكنهما عرب. وتحدث عدد من الأهالي العرب عن استقدام نحو 850 يهودياً متطرفاً من صفد وطبريا للمشاركة في الاعتداء، كما تحدث البعض عن مشاركة حوالى 200 طالب من طلاب المدرسة التوراتية، اضافة الى شكوى الأهالي من وجود نحو ألف مستوطن جرى نقلهم من غزة قبل ثلاث سنوات واسكانهم في أحياء عكا. وقد قام نائب عربي في البرلمان الاسرائيلي، واصل طه، بجولة في عكا التقى خلالها الأهالي والتجار والقيادات المحلية وبعض المتضررين والمعتدى عليهم. وتحدث، بحسب ما نقل موقع «عرب 48» الالكتروني، عن وجود نوايا مسبقة بالاعتداء على العرب استناداً الى العدد الكبير من المعتدين اليهود ونوعيتهم. ورأى أن هذه التصرفات تقف وراءها عقلية دينية عنصرية تريد أن تحول الصراع الحقيقي الى صراع ديني، «فيما هو صراع على الوجود العربي في عكا وعلى هوية أهلنا هناك، على رغم أننا لا ننكر هويتنا القومية العربية وانتماءنا لدياناتنا ومقدساتنا الاسلامية والمسيحية». ودعا النائب المشار اليه السكان العرب الى البقاء وعدم تفريغ المدينة منهم «والحفاظ على هويتنا الحقيقية». لا بد أن القارئ لاحظ استخدام كلمة «هوية» ثلاث مرات في تصريح النائب، اضافة الى تمتع الكلمة هذه بقطبية دلالية قد لا تخلو من الغموض. فهنا أيضاً، يصعب الفصل بين الوجه المحلي للنزاع بين عرب ويهود خاضعين نظرياً لقوانين الدولة العبرية، وبين الوجه الخارجي، الوطني والاقليمي والدولي للنزاع. فليس الخوف وحده من اختلال ميزان القوى الديموغرافي المحلي هو الذي يفسّر اندلاع الصدامات. ذلك أن هذا الخوف يندرج في اطار تفرقة عنصرية يعيشها عرب اسرائيل، ولا تفصل شروط هذه التفرقة عن مآل المسألة الفلسطينية برمتها في ظل الانقسام المعروف بين «حماس» و»فتح» حول تمثيل الشرعية الوطنية الفلسطينية وتعثر التسوية، كي لا نقول موتها، وهو تعثر ناجم عن تواطؤ غربي عموماً، وأميركي خصوصاً، مع التوسعية الاسرائيلية التي تحتاج بالضرورة الى تثبيت عدم التكافؤ بين اسرائيل والفلسطينيين العرب عقيدةً استراتيجية.
في مكان ثالث، هو لبنان، يجري صراع هادئ نسبياً والحمد لله، على ما يسمى بالورقة المسيحية في الانتخابات المقبلة. ففي وقت واحد تقريباً، قام رئيس الجمهورية ميشال سليمان بزيارة رسمية الى الرياض، فيما زار زعيم «التيار الوطني الحر» ميشال عون طهران، مما استدعى ربما زيارة قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع الى مصر وعلى نحو مفاجىء. وتحصل هذه الزيارات «المسيحية» الى عواصم اقليمية في ظل مصالحات داخلية، واقرار سوري باقامة علاقات ديبلوماسية وانشاء سفارات بين البلدين. ما هو مطروح كرهان سياسي وانتخابي، ليس في خلفية هذه الزيارات بل في واجهتها، وهو الموقع المسيحي في لعبة التجاذب بين المعارضة والموالاة، وبين الشيعة والسنّة بلغة أكثر التصاقاً بالارض والحضيض.
وما يجمع بين الحالات الثلاث هو استقرار الصراعات فيها على صورة انقسام ونزاع بين جماعات ناجزة الهوية ومأخوذة بلعبة تحسين أو تعزيز موقعها الاكثري والأقلي. ومثل هذه الصورة تشي للوهلة الأولى بانسداد الأفق الوطني الذي يفترض فيه أن يرتسم نصاباً يتعالى على الهويات الجزئية.
هناك بالطبع ما يفرق بين هذه الحالات، وهو وجه الخصوصية التاريخية لتشكيل هوية هذه الجماعات. على أن التقاط فرص بناء هوية وطنية جامعة في الحالات الثلاث يتطب الالتفاف أكثر الى وجوه التداخل بين المحلي والداخلي وبين الخارجي والاقليمي، وهذا لا يلغي الانقسام والاختلاف، لكنه يسمح بصياغة انقسام أرقى من هويات الانغلاق.
الحياة – 19/10/08