العالم نحو ثورة ثقافية جديدة
مطاع صفدي
النظرية القائلة إن نهاية إمبراطوريات التاريخ، وخاصة منها المعاصرة، تعود إلى علَّة العجز عن إيفاء تكاليف العظمة، أو الانتشار العسكري والسياسي اللامحدود، بحيث لا تكفي الأموال المنهوبة من الشعوب الأسيرة أو الخاضعة في تغطية نفقات السيطرة الكونية التي تمارسها الطبقة الحاكمة الممسكة بقمة الإمبراطورية. هذه النظرية قد تقدم تفسيراً لنهاية أكبر إمبراطوريتين سادتا النصف الأول من القرن العشرين، وهما البريطانية والفرنسية.
غير أن تحقق تلك النهاية احتاجَ إلى إطلاق جحيم الحرب العالمية الثانية. فبالرغم من انتصار بعض الغرب على بعضه الآخر تحت عنوان صراع الديمقراطية ضد النازية والفاشية، إلا أن النتائج العملية للحرب أنهت العصر الإمبراطوري التقليدي لأوروبا الغربية، أمام بروز استقطاب دولي ثنائي غير مسبوق بين مشروعي إمبراطوريتين جديدتين حاملتين لمبادئ أيديولوجية متناقضة، ومدَّعية كل منهما خلاصاً شاملاً للإنسانية جمعاء، لن يتأتَّى إلا بطريقة إحداهما ضداً على الأخرى. فكان ذلك هو عصر الذروة في التاريخ المعاصر لسلطة الأيديولوجيا، وانقسام العالم تحت وطأتها إلى قطبي الإشتراكية والرأسمالية.
من هنا القول إن هذا العصر قد انقضى ما أن انسحب أحدُ قطبيْ الاستقطاب وهو الاتحاد السوفييتي، وكان من المنتظر كذلك زوال القطب الثاني، أي الرأسمالية. لكن ادعت الرأسمالية أنها هي الباقية، وهي المنتصرة. لن تذهب إلى متحفيات الماضي، كزميلتها، بل ستقبض على مستقبل الإنسانية لحسابها وحدها، وتعيد صياغته بحسب معاييرها ومصالحها، دون أي منافس. وكانت الصياغة الأولى والجديدة عبارة عن مصطلح لفظوي يبقي على الجذر القديم: الليبرالية، ولكن بإضافة صفة الجديدة عليه. فالرأسمالية لا تحب اسمها الصريح، وتفضل المناداة عليها دائماً باسم الحرية، وكأنها هي عينها. فمن حق الحرية أن تجدد معانيها، وأن تبتكر أنظمتها وأدواتها المتناسبة مع تحولات الواقع المادي والإنساني. لكن التاريخ علمنا أنه قلما انطبقت ألفاظ الأسماء الكبيرة، كالحرية والعدالة والمساواة، على مسمياتها. كان هناك دائماً فراغ فاصل بين الاسم والمسمى، تتسلل منه وإليه استراتيجيات صامتة بل صاخبة، قادرة على توظيف الفوارق الدقيقة بين لفظ الاسم الكبير ومسماه الفعلي، مما يجعلهما غريبين عن بعضهما إلى حدِّ التناقض الواقعي بينهما. فهذه الليبرالية جاءت أصلاً محمولة على عاتق أشرس مشروع إمبراطورية للألفية الثالثة. إنها إمبراطورية الاستبداد المرآوي المطلق الذي لا يهدف أن يحكم العالم مباشرة بالحديد والنار فحسب، بل يعمل على سلب العالم من واقعه الفعلي، وإلحاقه بواقع آخر توهيمي وفوري مفترضاً قيام مجتمعات ومؤسسات وأنظمة أخرى موازية لخارطة الواقع الأصلي التي تصير غائبة ومحجوبة إلى درجة انخداع، أو اقتناع أصحابها فعلاً بزوالها. فلم يكن بالمستطاع اختراع أضاليل الاقتصاد الافتراضي وتسلُّطه على الاقتصاد الحقيقي من دون أن يكون العالم المتحضر قد فقد شخصيته المفهومية، قَبِلَ بالتنازل عن جوهر القيم المنتجة لحضارته، والمتمثلة، في استقلالية عقله النقدي، وقدرته على التمييز بين الصواب والضلال.
أساليب الخداع التي اعتمدها المشرفون على مؤسسة الصيرفة الأمريكية لم تكن بعيدة عن أساليب التضليل السياسي المألوفة لدى الدبلوماسية الحكومية المعتمدة دائماً على نظرية تركيب الأزمات المصطنعة في العلاقات الدولية، وتوزيع الاتهامات والإدانات ضد الدول المستضعفة المدافعة عن استقلالها وسيادتها. فالمرحلة الذهبية لنموذج الخداع المعمم والمنظم المقترنة بمشروع الاجتياح الإمبراطوري للسلام العالمي، وإدخال المعمورة في أسوأ حالات التعدي على الحريات الوطنية والشخصية، كان لهذه المرحلة عنوان واحد هو محاربة الإرهاب. لكن هذه المحاربة لم تكافح الإرهاب بقدر ما ضاعفت من قوته وانتشاره، وذلك بمضاعفة أسبابه الحقيقية بدلاً من كشفها ومعالجتها من قبل الهيئات الدولية التي جرى تحييدها، وتحويلها إلى موقع شهود الزور على مآسي العالم.
كان الهم المركزي لمخططي الليبرالية الجديدة ينصبُّ على استلاب إنسانية الألفية الثالثة من جوهر تراثها في المدنية، كما كانت تتصوره عبْر مختلف صراعاتها التاريخية، متحققاً في أولوية السياسة والثقافة معاً. وقد أثمر الهمُّ الليبرالي بانتزاع هذه الأولوية وإعطائها للاقتصاد مختصراً في اصطلاحية الحرية للسوق، لتصبح هي القائدة الإيديولوجية لعالم ما بعد الحرب الباردة. واليوم، بعد فشل مرحلة الاختطاف المرآوي لذلك العالم، وانهيار قمة الخديعة الكبرى، وتبخر الثروات الفلكية، تهبُّ نخبُ المجتمعات في كلا الغربين الأوروبي والأمريكي للمناداة مجدداً على السياسة المنسية. فاجتماع وزراء المال للدول السبع الصناعية في نهاية الأسبوع الفائت، ليس سوى الفرصة الأخيرة قبل تدويل الكارثة، بدلاً عن تدويل الحلول الناجعة وتكاملها المنشود، وإن جاءت مقارِبةً للحظةِ فوات الأوان. بل كان أبرز معالم عودة السياسة أن (لندن) الموصوفة تقليدياً بعاصمة المال دولياً، قد لجأت إلى تأميم معظم بنوكها الكبرى. وأمريكا نفسها سائرة على هذا النهج. وقد تنضمُّ إليه جميع الدول الصناعية الكبرى والناشئة. وسوف تشهد المعمورة منذ اللحظة انطلاق أشمل صراع معاصر بين كل من معسكر الدول ومجتمعاتها المدنية من جهة، وبين عمالقة الرأسمالية المالية بشكل خاص.
لن يكون ذلك مجرد تناقض ذاتي داخل النظام الرأسمالي الذي ستمتصه آليه النظام عينه، كما يدَّعي حُماته النظريون حتى الآن. كما لو أنه ليس ثمة بديل عن الرأسمالية. فقد تُغيّرُ أثوابها البالية، لكن الجسد فتي وقادر على تجديد حيويته بعد كل انتكاسة. هذا المنطق لن يتخلى عنه بسهولة أرباب الإعلام المعولم وشبكياته العنكبوتية، رغم أنه يواجه مع الإعصار المالي أخطر انكسار لعموده الفقري. فإنه لا يزال يتملك من أقوى مصادر الفبركة والضخ والتلقين للمعلومة والرأي والشائعة، على مدى القارات الخمس، وقد يبقى متملكاً مما هو أخطر من كل هذا، وهو الهول المتمثل في حجم التخريب العقلي والأخلاقي السلوكي المتحصل عن سيطرة (قيم) الكذب الجماعي والتحايل وتسطيح المعارف، وابتذال كل ما هو ناهض بِمُثُلِ التكافل والتضامن بين العائلات الإنسانية. إنه الخوف من قوة الاختراق لخطوط الممانعة والمقاومة الحضارية لمفاسد الرأسمالية المتوحشة وتفجيرها للغرائز البهيمية. فقد يستعيد الاقتصاد الحقيقي بعض عافيته آجلاً وليس عاجلاً. أما إصلاح ما دمرته موجة الليبرالية الهوجاء، وخاصةً في عالمنا العربي والإسلامي، فسوف يشكل التحدي الأهم لاسترداد العقل الاجتماعي بعض حالته السوية، ليعيد التفكير في أسوأ تجربة انقلاب على أسس المدنية المعاصرة.
إن عودة حكومات الغرب إلى استلام زمام المبادرة في محاولة إيقاف الإعصار المالي وتحوله إلى انهيار اقتصادي شامل، لا تؤذن فقط هذه العودة، المتأخرة دائماً كالعادة، بانتهاء أسطورة الانقياد الأعمى لحرية السوق، وتحديداً لسوق المضاربات الورقية أو الترميزية، بل ربما وضعت حداً لرحلة تحييد كل من السياسة والثقافة من قمة التوجيه للجماعة الإنسانية. وهو الرهان الأعمق لإيديولوجيا النيوليبرالية كما صدرتها إلى العالم حقبةُ الحكم البوشي. فما كان بالمستطاع حقاً تطويع مناعة الشعوب العقلية ضد حملات التزييف والخداع من كل صنف إعلامي وثقافوي معاً، من دون محاولة سلب العقل النقدي لقدِراته في التوعية، وإبعاده عن كل منبر عام. فقد لجأ أخطبوط هذه الإيديولوجيا إلى أحدث وسائل التعبئة والتحشيد الانفعالي وراء أهداف صورية خادعة. كانت كل نظريات السيكولوجيا الاجتماعية للسيطرة على توجهات الجماهير، موضوعة في خدمة ذلك الهدف الأعظم، المتمثل في أمنية إحداث الانقلاب الثقافوي الشامل على ثروة العقل المدني لدى كل مجتمع، من بدهيات العمل العام، وحقائق الحياة الأخلاقية، التي توصلت حضارات المعمورة إلى تثبيت أصولها الفكرية والحقوقية.
إنه انقلاب افتراضي زائف، كان لا بد لمخططي هذه الأدلجة من تحقيقه، للقضاء على آخر معالم الفعل والتأثير لأية سلطة معنوية، كانت تتمتع بها هذه المفاهيم الكلية في الحرية والعدالة والمساواة، والتضامن ضد الاستبداد والفقر والعدوان. فالخداع في قمم الإهرامات المالية، ما كان ليمر كما لو كان نتاج العبقرية الليبرالية، لولا أن العقل الاجتماعي قد دخل في غيبوبة شبه سحرية. فتداعت كل مفاهيم الرقابة العمومية وأجهزتها العريقة حتى في أرقى مجتمعات الغرب. كادت الليبرالية أن تعمم قناعة، حتى لدى معظم النخب، ومنها اليسارية السابقة، أن عصر السياسة والثقافة قد ولّى إلى غير رجعة.
لا يمكننا المجازفة منذ الآن في التأمل مجدداً بأن الإنسانية ستتعافى سريعاً من وباء الاستبداد الافتراضي، كما لو أنها كانت مرضاً عارضاً، وحقبة درامية استثنائية، يتخطاها الوعي لملاقاة مسيرة التاريخ الأصلي للتقدم البشري. لكن الصراع انفجرت حدوده الغائبة عن ساحة العمل العام حتى الآن. وأما من سيكتب له النصر، فذلك من شأن (مكر) التاريخ وحده، الذي لا يقوى عليه أي مكر تحريفي آخر.
القدس العربي