لا سبيل إلى استعادة الإجماع حول الدولة إلا بإعادة تعريفها
صالح بشير
لعلّة ما، يتعين سبرها، اتخذ الارتداد على الدولة، وهو ارتداد لم تكن الليبرالية المغالية غير وجه من وجوهه وتجل من تجلياته، هيئة المنحى التحرري واكتسب من ذلك فضيلة في نظر المقبلين عليه أو دعاته، من رأسماليين درجوا على الاشتباه بالدولة يرونها عقبة في وجه حرية السوق، ومن نخب «كونية» ما بعد وطنية أو ما بعد قومية، تحسب الدولة عامل انغلاق وقوّة تقوقع، ومن صادرين عن هويات صغرى وتكوينية يعتبرون الدولة حائلا دون انعتاقهم.
حصل ذلك أو تفاقم على الأصح بعد نهاية الحرب الباردة، كأنما النهاية تلك أطلقت مكبوتا أو أنها أيقظت نَفَسا «فوضويا» كان كامنا، ربما منذ أن أفل نجم الحركات الفوضوية التي ازدهرت بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكانت تمجّ كل سلطة قائمة وتناصبها عداءً جذريا. إن صح ذلك، فإن نهاية الحرب الباردة اكتسبت سمة قيامية يبدو أنه لم يتم التنبه إليها في إبانها، ربما لأن ذلك الارتداد على الدولة لم يُلحظ في شموليته، كعنصر موحّد مشترك بين ظواهر هي، في ما عدا ذلك، بالغة التباين متأتية من مصادر ثقافية متنافرة أشد التنافر، حالَ ملمحٌ من الملامح الفارقة لزمن العولمة هذا، هو المتمثل في غيرنة الآخر والإمعان فيها، دون تبيّن أي قاسم مشترك يمكن أن ينشأ بين أولئك المتنافرين واستبعد ذلك استبعادا تاما.
هو إذن مُسبَق من طبيعة إيديولوجية وليس عائقا معرفيا ما استوى حاجزا دون تبيّن ذلك المُشترَك، والحال أن الدولة شهدت تألبا ضدها ضلعت فيه كل تلك القوى، وهذه متنافرة فعلا من حيث مصادرها الثقافية والإيديولوجية والسوسيولوجية، ولكن آصرة خفيّة تجمع بينها، هي برمها بالحداثة الكلاسيكية، تلك التنويرية إن شئنا، وضيقها بها وإشباعها نقدا وتجريحا، سواء من موقع التجاوز لها، باسم ما وُصف بـ«ما بعد الحداثة» أو من موقع النكوص عنها إلى هويات اعتبرت، ادعاء وافتعالا في الغالب، موروثة، أي تعود إلى ما قبل الحداثة.
ولا غرو أن المنحى ذاك قد وجد في الدولة ضالته ومناط تجسيده. إذ ليس ما يرمز إلى الحداثة أكثر من تلك الدولة، فهي هيئة مفارِقة، سلطة غير مشخصنة في إمبراطور أو ملك أو سواهما، ضرب من «عقل» محض، تدل عليه مختلف تمظهراته دون أن تستوفيه. ليس أكثر دلالة على ذلك من صعوبة تعريف الدولة وتحديد ماهيتها، شأنها في ذلك شأن كل المفاهيم الكبرى والأساسية. لو كان للحداثة من لاهوت، لعُدّت الدولة من آياته الأجلى، وربما آيته الأجلى. ألم يذهب البعض إلى أن الدولة، في صيغتها الحديثة، إنما هي علمنة لفكرة الله، حلت محلها واستوت عنها بديلا؟ فهي كلية الحضور، تتغلغل، بواسطة أجهزتها وبيروقراطيتها، في كافة ثنايا المجتمع، لا تترك تفصيلا من تفاصيل حياة الفرد، منذ لحظة الولادة، من تعليم وتربية وطبابة وزواج وإنجاب وعمل وما إليها، دون أن يكون شأنا من شؤونها، تحصيه وتشرف عليه، وهي لذلك تكتسب، أو تنتحل في نظر خصومها، صفة أخرى من صفات الربوبية، هي كلية المعرفة، «تحيط بكل شيء علما»، أو تسعى إلى ذلك وتمتلك أدواته، خصوصا مع ما بلغته تكنولوجيا المعلومات من تطور، وهذه تمكّن، على سبيل المثال وفي أية لحظة، من معرفة كم أنفق هذا الفرد أو ذاك من ماله وفيمَ، مكان وجوده في هذه اللحظة أو تلك، مع من تواصل، على نحو مباشر أو افتراضي، وفيمَ خاض؟..
لم يقيّض لدولة أخرى في التاريخ أن حظيت بسلطات وبكفاءات كتلك التي من نصيب الدولة الحديثة، ومن هنا حدة الاعتراض عليها واتساعه كما تبديا على نحو خاص عقب الحرب الباردة، كأنما زوال الخطر التوتاليتاري قد أفضى إلى انتهاء التسامح حيال الدولة الديموقراطية، وإلى مساءلتها بوصفها دولة أولا وأخيرا، بصرف النظر عن أية صفة إضافية قد تكون لها. وهكذا، انبرى منتقدو عقلانية التنوير، في تسعينات القرن الماضي، إلى النظر إلى الدولة الحديثة على أنها حاملة لبذور التسلط والتوتاليتارية في جيناتها إن صحت العبارة، وذهبوا، من جراء ذلك، إلى القول بأن الأنظمة التوتاليتارية التي عرفها القرن العشرون، لم تنجم عن شذوذ أو تشوّه طرآ على فكرة الدولة الحديثة مفهوما أو تطبيقا، بل هي مؤدى لها حتمي، بلغ مداه الأقصى. ألم يزعم ساسة ومثقفون محافظون أو ما «بعد حداثيين» أن انهيار الدولة السوفياتية قد أنهى مسارا بدأ مع الثورة الفرنسية؟
أما من سعوا إلى دحض الدولة الحديثة من منطلقات أصولية دينية، على ما هي حال الإسلامويين، فقد فعلوا ذلك باسم مبدأ «الحاكمية»، إي «إلحادا» بالدولة الحديثة إن صح القول، وسعيا إلى نزع سمات الربوبية عنها، وهي السمات التي سبقت الإشارة إلى بعضها، وإعادتها إلى من هو بها أجدر، أي الذات الإلهية. وقس على ذلك المنتمين إلى الهويات الصغرى والتكوينية، استشعروا في الدولة الحديثة أخطارا على تمايزهم أو ما يعتبرونه تمايزهم لم يعهدوها من الدول ما قبل الحداثية، تلك التي كانت في الغالب إمبراطوريات نائية المركز، تقنع من رعاياها بانصياعٍ شكلي رمزي، أو بانصياع الحد الأدنى، يتوقف عند استحصال الضرائب أو عند تجنيد من كان قادرا على حمل السلاح لدى نشوب الحروب، وتتركهم يتدبرون باقي مناحي حياتهم بوسائلهم الخاصة، بما في ذلك، بل خصوصا على صعيد التشريع في ما يتعلق بأحوالهم الشخصية على سبيل المثال.
ما يمكن استخلاصه من كل ما سبق، أن تلك الاعتراضات على الدولة الحديثة ليست عدميّة كلها ولا عديمة الوجاهة، وهي لذلك مما يجب أخذه بعين الاعتبار، وقد تبيّن، على ضوء تجارب عدة، من الأزمة المالية الراهنة إلى تفكك الأوطان، أن تلاشي الدولة أفدح من حضورها، ما جعل من إعادة الاعتبار إليها أمرا ملحا.
وبديهي أن لا سبيل إلى استعادة الإجماع حول الدولة إلا بإعادة تعريفها على أسس جديدة، خصوصا وأنه قد ظهر جليا بأن ديموقراطيتها، حتى ديموقراطيتها، لا تحصنها من الشطط.
الحياة – 19/10/08