“الإسلام الحركي” لعبد الرحيم بوهاها الكارثة الكبرى
خالد غزال
يشكل الانتشار الواسع للحركات الاصولية الاسلامية والبرنامج الذي تطرحه في سبيل تسلّم السلطة وادارة المجتمع اكبر التحديات التي تواجه المجتمعات العربية. لم تكن هذ الحركات نتيجة مؤامرة خارجية كما تحاول ان تصورها اوساط سياسية، بل هي إنتاج هذه المجتمعات وما تحويه في جوفها من اعطاب بنيوية، كما هي إنتاج ثقافة تستند الى النص الديني وتعتمد قراءة مخصوصة له. من المهم جدا التمعن في اسباب نشأة هذه الحركات وازدهارها من اجل وعي ما تمثل، وهو امر مختلف جذريا عن الرأي في مشروعها السياسي وهل هو مشروع خلاص للمجتمعات العربية ام مشروع انتحار وتدمير لما تبقى من عناصر حداثة او تحديث. يشكل كتاب “الاسلام الحركي” لعبد الرحيم بوهاما عن “رابطة العقلانيين العرب” و”دار الطليعة” في بيروت، مساهمة جادة في قراءة اسلام الحركات الاصولية، نشأة وفكرا وبرنامجا.
كيف نقرأ نشوء الحركات الاصولية وانتشارها وما الاسباب التي حتمت ذلك؟ سؤال يفرض رؤية المشروع الاسلامي على الصعيد السياسي. يشكل المشروع الاصولي في نظر اصحابه البديل من المشاريع السياسية التي عرفتها المنطقة العربية منذ الخمسينات على الصعد القومية والاشتراكية والليبيرالية. في استعادة سريعة لواقع هذا المشروع في مراحل المد القومي او الاشتراكي، فقد كانت الاصولية بمعناها السياسي تقيم في الهامش. أدى فشل مشروع التحديث العربي الذي تبنته انظمة الاستقلال واعتمد برنامجا للتحرير القومي والوطني واقامة مجتمع العدالة والمساواة وتحقيق الديموقراطية، الى خلق فراغ سياسي تقدمت الحركات الاصولية لتملأه ببرنامجها الذي اختصرته بتعبير “الاسلام هو الحل”.
اما العامل الاخر والمرتبط جدليا بالعامل السياسي فهو انحسار الثقافة السياسية لمشروع التحديث لتحل مكانها ثقافة دينية عمادها التفسير والاستخدام السياسي للنص الديني بما يتوافق مع فكر هذه الحركات. وهو امر له اسسه في المجتمعات العربية والاسلامية حيث يشكل الدين واحدا من مقوماتها الرئيسية. اقترن استخدام السلطة السياسية للمؤسسة الدينية بدعم الاسلام الحركي وتوظيف فكره ورمزياته في ضرب حركات الاعتراض السياسي على هذه السلطة من جهة، وفي اضفاء المشروعية الدينية على هذه السلطة من جهة اخرى. لذا يجب التعاطي مع نشوء الاسلام الحركي في المجتمعات العربية بوصفه تعبيرا آخر عن الانهيارات البنيوية التي تعيشها هذه المجتمعات وجزءا عميقا من ازمتها وليس جوابا بديلا من هذا الانهيار. ان الاسلام الحركي هو اعلى تجليات هزيمة مشروع الحداثة والتحديث في العالم العربي والاسلامي. اما في ما يتعلق بالفكر الذي يقدمه الاسلام الحركي والاساليب التي يستخدمها في الوصول الى تحقيق أطروحاته، فيتفاوتان بين حركة واخرى، شدة او اعتدالا، لكن الثابت في فكر جميع الحركات يتلخص في النظرة الشمولية الى الدين بوصفه اطارا للعمل والخلاص في الدنيا والآخرة. اما على الصعيد السياسي، فالثابت في فكر هذه الحركات الدعوة الى اقامة دولة الاسلام، خلافة أكانت ام امامة، او بمعنى آخر الحكومة الاسلامية. يشترك في ذلك جميع الحركات المتناقضة في ولاءاتها المذهبية او المتوافقة على ذلك.
يورد الكاتب افكارا لاهم ممثلي الاسلام الحركي الذين شكلت مقولاتهم اساسا في برامج هذه الحركات. يعتبر ابو علي المودودي، الباكستاني الاصل، الاب الروحي لهذه الحركات، فهو تبنّى مبكرا الدعوة الى اقامة حكومة اسلامية واقامة حد الدين وتنفيذ الشريعة والجهاد في سبيل الله. يقول في هذا الصدد: “ان المطالبة بالحكومة الاسلامية والدستور الاسلامي تنبع من الشعور الاكيد بأن المسلم اذا لم يتبع قانون الله، فإن ادعاءه للاسلام باطل لا معنى له”. اما حسن البنا الذي اسس “حركة الاخوان المسلمين” في مصر، وهي الحركة الام لعدد كبير من الحركات الاصولية، فرفع منذ البداية شعار “الاسلام هو الحل”، ودعا الى انشاء دولة اسلامية يتولى فيها شؤون الدولة المسلمون السائرون على هدي القرآن وما يقول به الرسول من احكام. واكد شمولية الاسلام واعتبار ما اتى به التراث الديني بمنوعاته صالحا لزمننا كما كان صالحا في ازمان سابقة.
اما سيد قطب، ابن “حركة الاخوان المسلمين” والتلميذ النجيب لابي علي المودودي، فذهب بعيدا في احكامه، فتبنى نظرية الحاكمية والجاهلية. تقوم فكرة الحاكمية لدى قطب على اعتبار ان الله هو الخالق الفعلي والوحيد للكون، وانه يملك حق التصرف المطلق فيه وتسييره وفق ارادته، فيما تقيم الحكومات والمجتمعات الراهنة في الجاهلية، وهو امر وصل به الى تكفير المجتمع. في المقابل حاول راشد الغنوجي تلطيف نظريات سيد قطب والحد من غلوائها، لكنه التقى معه على مسألة ان الاسلام عقيدة وسياسة في الوقت نفسه، وان “الدولة في الاسلام يجب ان تكون خادمة للدين وقائمة على حراسته وتنفيذ امره ورفع كلمته في الدنيا”.
بما ان الاسلام الحركي ينظر الى الدين بشكل شمولي، كان لا بد له من ابداء الرأي في كل ما يتناول شؤون الحياة. “فالاسلام منهج حياة وبديل حضاري”، وان مشكلات العالم العربي والاسلامي تعود الى الابتعاد عن الدين. في ما خص المرأة، يلتقي الاسلام الحركي على دونيتها قياسا الى الرجل، بل هي مصدر الفساد البشري وعامل في الاثارة والفتنة، مما يقتضي فرض الحجاب عليها ومنعها من العمل والبقاء اسيرة المنزل. اما التعليم فيجب ان يتركز على دراسة القرآن والسنّة واحكام الشريعة، ونبذ ما يقول به الغرب او يبثه في مجتمعاتنا. في العلاقة مع الغرب وحداثته، يتخذ الاسلام الحركي موقف المعاداة المتطرفة ضد الحضارة الغربية. في ما يخص العلمنة، يرفضها الاسلاميون لانها تفصل صعيدي المؤسسات السياسية والدينية، فيما جوهر الدعوة الاسلامية قائم على الوصول الى مجتمع اسلامي تحكمه العقيدة الاسلامية. كما يرفض الاسلام الحركي الديموقراطية لانها تقول بالتعدد الفكري والسياسي وايضا بحق المساواة بين المواطنين وحق الاختلاف في الرأي.
اذا كان من المهم فهم اسباب نشوء الاسلام الحركي والعوامل الموضوعية التي ساعدت في انتشاره، فلا يعني ذلك الموافقة على برنامجه. الاسلام الحركي ليس جوابا عن ازمة المجتمعات العربية، إنما هو احد تعبيرات هذه الازمة، وتالياً ليس هو الحل. التدقيق في برنامج عمل الاسلام الحركي وأساليبه تؤشر الى ان وصوله الى السلطة سيشكل كارثة على هذه المجتمعات ويعيدها الى قرون غابرة من الظلامية. ان اسلام “طالبان” في افغانستان ومعه اسلام بن لادن سيكونان نموذجا لنمط الحكم لهذه الحركات. في كل حال، تقدم نماذج محدودة عن وصول هذه الحركات او بعضها الى مواقع السلطة عينات عن الارهاب والديكتاتورية وقمع الحريات ونبذ الآخر.
ان انفجار الاسلام الحركي عنفا وارهابا بدأ يطرح أسئلة حول اساليب العمل وتعديلها بعدما اعطت نتائج مدمرة على الحركات نفسها وعلى المجتمعات. لكن معضلة المجتمعات العربية مع الاسلام الحركي ستظل مرهونة بولادة القوى المتناقضة في فكرها ومشروعها مع هذا الاسلام. انها عملية نضالية طويلة وشاقة لا مفر من ان تلج المجتمعات العربية بابها لمواكبة ما يجري في العصر.