الأزمة الماليّة الراهنة: قراءة أولية في الأزمة الاقتصادية العالمية
معتز حيسو
أولاً : أسباب وتجليات الأزمة المالية الراهنة :
تتناقض آراء المحلّلين والخبراء الاقتصاديين بين متفائل بانهيار وشيك للنظام الرأسمالي المعولم، وبين من يختصر الأزمة الراهنة في كونها لا تعدو أن تكون أزمة رهن عقاريّ، وإن امتدّت تأثيراتها أفقياً وعمودياً، مسلّمين بقدرة الرأسمالية بمفاعيلها وقوانينها الذاتية على تجاوز أزماتها وتناقضاتها الدورية والعامة.
ــ بداية وقبل تحليل الأزمة الراهنة نرى من الضروري تقديم عرض موجز لأزمتين تعرّض لهما النظام الرأسمالي: الأولى الأزمة البنيوية بين عامي 1929 ــ 1933. والثانية الأزمة المالية الأسيوية. أوّلاً: تشكّلت أزمة الكساد العظيم التي عاني منها النظام الرأسمالي 1929 ــ 1933 على قاعدة التناقضات البنيوية للنظام الرأسماليّ الصناعيّ التي تجلّت بأزمة فيض إنتاج سلعيّ ارتبط بكساد كبير وركود اقتصاديّ وارتفاع معدلات البطالة، وتمّ توصيف الأزمة آنذاك بأنها أزمة تضخّم ركوديّ. واعتماداً على السياسة الاقتصادية “الكينزية” فإنّ الخروج من الأزمة ارتبط بزيادة دور الدولة في ضبط وتحديد السياسات الاقتصادية العامة وكان هذا الميل يمثل رداً على مفاهيم آدم سميث، واستمر دور الدولة التدخلي حتى عام 1979 لتبدأ مرحلة جديدة من الرأسمالية بسماتها النيوليبرالية بقيادة المنظر النيوليبرالي “ملتون فريدمان” الذي أسّس لكفّ يد الدولة التدخلي وإطلاق الحرية المطلقة لقوانين السوق، وقد جسّد النيوليبرالية بأشكالها الملموسة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيسة الحكومة البريطانية مارغريت تاتشر . ورغم ضخامة وعمق التأثير السلبي لأزمة الكساد الكبير على اقتصاديات الدول المرتبطة بدول المركز الرأسمالي، فمن الصعوبة بمكان مقارنتها بعمق وأفقية انتشار أي أزمة بنيوية يمكن أن تواجه النظام الرأسمالي المعولم في المرحلة الراهنة نتيجة للترابط البنيوي للاقتصاديات العالمية من جهة، ونتيجة لهيمنة رأس المال المالي الذي لا يمكن لأي من الاقتصاديات الرأسمالية الراهنة أن ينجو من تداعيات أزمته سواء منها اقتصاديات الدول الرأسمالية المركزية أو الطرفية المندمجة أو غير المندمجة بالنظام الرأسمالي العالمي . ثانياً : إن جذر الأزمة الأسيوية في تسعينات القرن الماضي تمّثل في اعتماد اقتصاديات النمور الأسيوية في رفع معدلات النمو ( الصناعي، الخدمي، والمالي تحديداً ) على الرساميل الأجنبية دون تحديد ضوابط لحركتها ومجالات توظيفها … مترافقاً مع المضاربات المالية المصرفية والعقارية والثبات في أسعار صرف العملة. وفي لحظة فقدان ثقة المستثمرين في الأسواق المالية والخدمية الأسيوية نتيجة لانفجار الفقاعة المالية التي تأسست عليها كافة الأشكال الاقتصادية الأسيوية، تم سحب الأموال الموظفة في المصارف الأسيوية مما أدى إلى إفلاس مصارفها وانهيار اقتصادياتها بشكل شبه كامل رغم جهود الحكومات الأسيوية في ضخّ مبالغ مالية كبيرة في الأسواق المالية إلا إنها لم تستطع تجاوز أزمتها . واللافت أنّ ماليزيا هي الدولة الوحيدة التي استطاعت الحدّ من تأثير تلك الأزمة لكونها حددت سياساتها الاقتصادية على ضبط حركة الرساميل الأجنبية وفترات ومجالات توظيف واستثمار الرأسمال الأجنبي.
ــ أما الأزمة الراهنة فإنّ لحظة تفجرها كانت مع إعلان إفلاس بنك ليمان براد ذرذ الذي انعكست آثاره سلبياً على أسواق المال الأمريكية بشكل كامل. أما بدايات الأزمة فإنها تشكلت من خلال تطور أزمة الرهن العقاري التي يمكن تحديدها بشكل أولي بأن سماسرة العقارات في الولايات المتحدة عملوا على الترويج لشراء البيوت في أوساط أصحاب الدخل الثابت والمحدود من خلال إقناعهم بقدرتهم على شراء مساكن عن طريق الحصول على قروض مصرفية يمكن تغطيتها وسداد أقساطها من مرتباتهم، ولكون الحقيقة هي غير ذلك فإنّ سماسرة العقارات عملوا على تزوير بيانات رواتب الموظفين أضعاف الدخل الحقيقي لإقناع المقرضين أنه في إمكان المقترضين تسديد الدفعات الشهرية، وكانت معدلات فوائد الإقراض البنكي لا تتجاوز 2%، ومما ساهم في تفعيل الأزمة ارتفاع معدلات الفائدة على القروض العقارية، وقد ترتب على هذه الخطوة ارتفاع قيمة الأقساط المترتبة على المقترض، مما أدى إلى إحجام الأغلبية المطلقة عن سداد التزاماتهم المالية للمصارف العقارية وشركات التأمين، وأدى إحجام المقترضين عن تسديد التزاماتهم المالية إلى قيام البنوك بالحجز على المنازل المرهونة ومصادرتها وعرضها للبيع للحصول على السيولة اللازمة، ونتيجة للعرض الكبير للشقق السكنية تراجعت أسعار العقارات، مما شكل ضغطاً مادياً على إدارة البنوك جعلها تبيع القروض على شكل سندات للشركات المالية الكبرى التي أعادت هيكلتها وأصدرتها على شكل سندات رهن عقاري تم عرضها في الأسواق العقارية بأكثر من قيمتها الحقيقية وبالتالي فقدت أسوق العقارات التوازن بين منابع ومصبّات رأس المال السائل، وساهم في ارتفاع عدد المتخلفين عن سداد الديون وتوسّع دائرة الديون الخطرة ارتفاع تكلفة الإقراض لتصل إلى 20% من قيمة القرض، ومن أسباب تزايد تداعيات حدة الأزمة العمل على بيع سلعة مباعة غير مسددة قيمتها … هذه العوامل وغيرها ساهمت في تضخّم الفجوة بين الاقتصاد المالي والاقتصاد الحقيقي. وللتأكيد فإنّ الأزمة الراهنة يمكن أن يكون من أسبابها غير المباشرة تجاوز أسعار النفط عتبة الـ 130 دولار للبرميل مما أدى إلى سحب جزء كبير من السيولة النقدية من الدول الصناعية ـــ التكلفة الباهضة للحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق ــ التباين الحاصل بين الدول الغربية ودول أخرى كالصين والهند وهذا أيضاً أدى إلى سحب مبالغ نقدية كبيرة وتوظيفها في الدول ذات معدلات نمو مرتفعة ــ إضافة إلى الاستثمارات المبالغ بها في القروض عالية المخاطر ــ انخفاض في أسعار صرف الدولار أمام العملات الأخرى ــ تراجع حجم السيولة وارتفاع معدلات التضخم وانخفاض أسعار الفائدة وارتفاع أسعار المواد الغذائية وارتفاع أسعار الجملة بنسبة 9،8% وتراجع الثقة في الاستثمارات العقارية وتحديداً بعد تراجع أسعار العقارات بمعدل 16% مقارنة مع العام السابق، هذه الأمور وغيرها ساهمت في الإسراع بسحب الإيداعات المصرفية وزيادة حدة الأزمة الائتمانية والاقتراضية في أسواق المال ،ونتيجة للسياسة الإقراضية الخاطئة في عامي 2005 ـ 2006 ازدادت الشكوك في تحصيل ديون تقدر بـ 2500 مليار دولار .ونظراً لانتشار وتفاقم الأزمة قامت المؤسسات العقارية بتعليق 50% من الرهون المأزومة وتسويقها والاحتفاظ بها على شكل سندات ـ وجود أكثر من 1250 مليار دولار على شكل أصول متعثرة في القطاع العقاريّ.
ومما ساهم في ازدياد الأزمة الإقبال الشره لمستثمرين ومؤسسات مالية ذات ثقل ماليّ قويّ في أسواق المال، على سندات الرهن العقاريّ طمعاً في تحقيق نسب ربح مرتفعة، وهذا أعطى ثقة كبيرة للمستثمرين لضخّ المزيد من الأموال مستندين إلى إمكانيات المصارف الكبرى في تحليل وتجاوز المواقف الطارئة، وهذا ما دفع وزارة الخزانة الأمريكية إلى تقديم اقتراح إلى الكونغرس لشراء الأصول المتعثرة، ولا سيما أن التقديرات الأولية لمجموع الخسائر التراكمية منذ شهر آب 2007 تجاوزت / 500 / مليار دولار .. وزادت حالات احتمال الإفلاس في أكثر من 120 شركة. وكانت هذه مقدمات لإفلاس واختفاء كليّ لأكثر من ( 11) بنكا ومنها بنك ( إندي ماك ) الذي يستحوذ على أصول بقيمة / 32/ مليار دولار وودائع تصل إلى / 19/ مليار دولار. وقد اتُهمت الولايات المتحدة بالميل في سياساتها الاقتصادية إلى تبني سياسات اشتراكية بعد أن تدخلت لتأميم إدارة عملاقي الرهن العقاري ( فاني ماي ــ فريدي ماك ) اللذين يستحوذان على نصف الرهون العقارية في الولايات المتحدة والتي يبلغ إجماليها / 12 / تريليون دولار، حيث سارعت الحكومة الأمريكية بضخ / 200 / مليار دولار في خزائنهما ليتمكنا من مواصلة وظيفتهما المتمثلة في توفير الضمانات للقروض العقارية التي تمنحها البنوك، وقد رحبت الصين واليابان باعتبارهما أكبر مشترين لسندات هاتين الشركتين بخطة واشنطن الإنقاذية خوفاً من انتقال الأزمة إلى الأسواق المالية الأوربية. وللعلم فإنّ فاني ماي وفريدي ماك تتعاملان بمبلغ ستة تريليونات دولار وهذا المبلغ يعادل ستة أمثال حجم اقتصاديات الدول العربية مجتمعة، إضافة إلى تدخل وزير مال البنك المركزي الأمريكي لإنقاذ أكبر شركة تأمين في العالم ( أمريكان إنترناشيونال كروب ) ووفر لها البنك المركزي قرضاً بقيمة 85 مليار دولار مقابل الحصول على 80% من أسهم الشركة والتنازل عن مركز المدير العام التنفيذي الذي يتكفل بتعينه وزير المال الأمريكي، وبالتالي تم إنقاذ الشركة ( AIG )لأن إفلاسها يؤثر سلباً على مجمل الاقتصاد الأمريكي في لحظة يقدّر فيها بأن عجز الموازنة الأمريكية لعام / 2009 / يمكن أن يصل إلى / 540 / مليار دولار، وهذا المبلغ يشكل 37% من الناتج الإجمالي المحلي، وللعلم فإن الولايات المتحدة تعاني عجزا سنويّا في ميزانها التجاري يصل لـ 750 مليار دولار، إضافة إلى أنها تعاني من أزمة مديونية تعادل أربعة أمثال مجمل إنتاجها السنويّ. وحجم مديونية الولايات المتحدة للحكومة الصينية بمقدار ألف مليار دولار ومجرد طرح هذا المبلغ للبيع في الأسواق المالية من شأنه أن يشكّل تهديداً لاقتصاد الولايات المتحدة، يضاف إلى هذا أنّ البضائع الصينية تشكل القسم الأعظم من الغطاء للدولار الأميركي ويكفي أن تقرر الحكومة الصينية منع استبدال بضائعها بالدولار ووقف العرب استبدال النفط بالدولار حتى ينكشف كامل الغطاء للدولار الأمريكي وينهار النظام الأميركي برمته . يقول بعض الاقتصاديين أن الكتلة النقدية للولايات المتحدة تصل إلى 200 تريليون دولار، والولايات المتحدة بجميع ولاياتها وما عليها من ثروات لا تعادل أكثر من نصف هذا المبلغ . وكان من تجليات الأزمة الراهنة فقدان أكثر من / 160 ألف / فرصة عمل في الشهر التاسع فقط، إضافة إلى امتناع البنك المركزي الأمريكي عن مدّ يد العون إلى كثير من البنوك والمصارف التي تقف على شفير هاوية الإفلاس والتي تزيد عن /110/ بنك تصل قيمة أصولها إلى 850 مليار دولار، ويصل العدد الإجمالي لمؤسسات المال الواقعة تحت مظلة التأمين الفيدرالي إلى 1800 مؤسسة تستحوذ على ما يقرب من 13 تريليون دولار من الأصول والممتلكات .منها من أعلن إفلاسه مثال مؤسسة ميريل لينش ومصرف ليمان براد ذرذ الذي تأسس منذ أكثر من /158/ سنة ويعتبر رابع بنك في الولايات المتحدة، بعد تراجع قيمة أسهمه بقيمة / 95% / وتزايد القيمة الإجمالية لديونه حيث بلغت / 613 / مليار دولار علماً أن أصوله لا تتجاوز / 639/ مليار دولار، وتقدر خسائره التراكمية بحدود / 750 / مليار دولا أي أكثر من نصف الناتج الإجمالي العربي، وفي نهاية شباط / 2008 / كان عدد عماله 28000 سرح منهم 1500 موظف خلال ثلاثة أشهر منذ نيسان مما دفع مالكي الأسهم لبيع أسهمهم وترافق هذا مع تراجع سعر الدولار أمام اليورو وانخفاض سعر برميل النفط. وقد أكدت شركة ميريل لينش بأنها خسرت أكثر من / 51 / مليار دولار مرتبطة بأزمة الرهن العقاري منذ آب 2007 وعجزها عن تأمين 30مليار دولار لمعالجة بعض المشاكل الناجمة عن خسارة غطائها المالي وإعلانها بيع أصولها المتعثرة إلى مصرف بنك أوف أمريكا في صفقة تقدر بنحو 50مليار دولار بتاريخ 14/ 9/ 2008/، إضافة لذلك فإنّ خسارة وول ستريت الاثنين 15/9 / كانت حوالي 600 مليار دولار. ومن الممكن أن تكون الفوضى المالية نتيجة للربط الأمريكي الأنانيّ بعد الحرب العالمية الثانية للدولار بالذهب، والذي استمر العمل على قاعدته حتى آب من عام 1971 وتم إلغاؤها من قبل الرئيس الأمريكي نكسون، ومثلت هذه الخطوة أكبر عملية اختراق للنظام النقدي العالمي وبداية الفوضى التي نشهد تجلياتها في اللحظة الراهنة والتي عبر عنها الآن غريسبان في لقاء له مع شبكة ( أي بي سي ) بأنها الأزمة المالية الأخطر منذ 50 عاماً وعلى الأرجح منذ قرن من الزمن. ويترافق ما أوردناه مع تأكيد العديد من المصادر على تراجع أعداد البروليتاريا في المراكز الصناعية بنسبة تقارب 45% وفي انكلترا قارب في العقود الثلاثة الأخيرة تراجعت أعداد البروليتاريا 33%.
ــ ويمكننا في هذا السياق ولضرورة البحث طرح التساؤل التالي: هل الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد العالمي، والتي كانت بدايتها مركز النظام الرأسمالي العالمي ومن مركزه المالي، هي أزمة دورية أم أنها أزمة بنيوية / هيكلية يمكن أن تتحول في سياق تفاقمها إلى أزمة عامة؟ تكمن خطورة الأزمة الراهنة كونها تشكلت في قلب النظام الرأسمالي العالمي ومن وول ستريت تحديداً أي أنها انطلقت من قمة رأس الهرم المالي ومن قطاع الخدمات الذي سينعكس سريعاً على باقي القطاعات لتشكّل جراء تفاقمها وتوسعها أفقياً على مستوى الاقتصاد الكلي أزمة عامة تنعكس أثارها موضوعياً على أشكال الممارسة السياسية للدول المهيمنة وتحديداً الولايات المتحدة، مما يعني إمكانية تحول مركز صناعة القرار السياسي العالمي من الولايات المتحدة إلى أقطاب سياسية دولية متعددة ( روسيا والدول الحليفة لها، أمريكا اللاتينية، الصين، الاتحاد الأوربي، ..) . وما يدلل على صحة استنتاجنا ويؤكده تحوّل النظام الرأسمالي العالمي من نظام اقتصادي تأسس وتطور على مراكمة فضل القيمة نتيجة توسع وتعمق قاعدته الصناعية التي يتم من خلالها تحقيق معدلات ربح مرتفعة إلى رأس مال مالي، ورأس مال خدمي، وقد تطورت وتعمقت البنية الإنتاجية التحتية أفقياً وعمودياً نتيجة لتغيّر التركيبة العضوية لرأس المال الصناعي لصالح تنامي رأس المال الثابت وتراجع رأس المال المتغير وكان هذا التطور يؤدي بشكل دائم إلى انخفاض أعداد الطبقة العاملة الحية وإعادة هيكلتها بما يتلاءم مع التطورات التقنية .وكان جوهر هذا التحول :
ــ تضخم الكتلة النقدية في الدول الرأسمالية المركزية
ــ زيادة معدلات توظيف واستثمار وتضخّم حجم إيداعات المال النفطي في الدول الرأسمالية الصناعية نتيجةً للفورتين النفطيتين في العقدين السابع والثامن من القرن الماضي
ـــ انخفاض معدل الربح ساهم في انتقال الكثير من التوظيفات والكتل النقدية من الدول الصناعية إلى الدول النامية وتحديداً المندمجة منها ( النمور الأسيوية، بعض من دول أمريكا اللاتينية … )
ـــ تسهيل عمليات الإقراض بشكليها الآجل والقصير إلى معظم الدول الطرفية، مما أسس إلى ربط اقتصاديات الدول الطرفية بالاقتصاد الرأسمالي المركزي وظيفياً وإعادة التقسيم العالمي للعمل. ونتيجة لفيض الإنتاج الذي أسس لأزمة التضخم الركودي في عام 1929، وأيضاً نتيجة لتضخم الكتلة النقدية وانخفاض معدلات الربح في الدول الصناعية وجشع رأس المال ، فإن المضاربات المالية وتسهيل عمليات الإقراض وتحديداً قصير الأجل كانت تمثل أفضل الآليات لتحقيق معدلات ربح مرتفعة ودوران سريع لرأس المال في سياق تحول رأس المال الصناعي إلى رأس مال مالي ورأس مال خدمي.
إن التحول في أشكال رأس المال وآليات اشتغاله يشكّل السبب الأساس في تحول الأزمة المالية إلى أزمة بنيوية تهدد القطاعات الصناعي بـــ: ركود وكساد وانكماش اقتصادي مترافق بانخفاض أسعار النفط وانخفاض معدلات تصديره إلى الدول الصناعية، انخفاض معدلات السيولة النقدية في القطاعات الصناعية نتيجة للأزمة المصرفية وأزمة الائتمان المصرفي وبالتالي زيادة حدة تمركز الرساميل، إضافة إلى إمكانية تحول الأزمة الراهنة إلى أزمة سياسية واجتماعية عامة يمكن أن تفضي إلى تبلور النقيض الاجتماعيّ/والسياسي لكافة المتضررين من تناقضات النظام الرأسمالي المعولم. ويبقى هذا التحول مرهوناً بإمكانية تحوّل النقيض الطبقي للنظام الرأسمالي من قوة كامنة إلى قوة سياسية / اجتماعية فاعلة في سياق تشكًل الظروف الموضوعية المواتية والملائمة. ويرتبط هذا التحول أيضاً مع إمكانية حكومات الدول الرأسمالية المأزومة على إيجاد الآليات المناسبة للخروج من أزمتها الراهنة و قدرتها على إعادة هيكلة وتجديد النظام الرأسمالي وآليات عمله على قاعدة إدارة الأزمة، ومن الممكن في هذه المرحلة أن يتبلور من جديد دور سلطة الدولة الضابطة لحركة رأس المال المالي والصناعي والخدمي بأشكال يمكن أن تكون متقاربة مع السياسة “الكينزية” لكن بأشكال أكثر تطورا. أي إننا أمام تناقض موضوعيّ في طور التبلور بين نظام رأسمالي (يعمل على الخروج من أزمته على قاعدة تجديد ذاتية بعد أن فشلت السياسية الاقتصادية النيوليبرالية. ومن الممكن أن يكون افتعال حروب جديدة أحد أشكال الخروج من الأزمة الراهنة ) وبين نقيض طبقيّ ماركسيّ ديمقراطيّ يثبت سياق التطوّر التاريخيّ أنه ما زال يحمل في منظومته المعرفية / السياسية البديل الموضوعيّ للنظام الرأسماليّ القائم على التناقض واستغلال الإنسان والطبيعة.
ثانياً : انعكاسات الأزمة الراهنة على الاقتصاديات العالمية :
ــ إن درجة تأثير الأزمة المالية الراهنة على الاقتصاد العالمي تتحدد بالقياس تبعاً لدرجة ارتباط اقتصاديات الدول الطرفية المندمجة منها وغير المندمجة باقتصاديات الدول الرأسمالية المركزية وبالدرجة الأولى الولايات المتحدة، وإلى مدى الارتهان السياسيّ للخارج. بداية نرى بأنّ انخفاض أسعار النفط عالمياً سوف ينعكس سلباً على الدول النفطية في حال استمرار تراجع معدلات النمو الاقتصادي الذي يمكن أن يتحول إلى ركود اقتصادي عالميّ يتجلّى بتباطؤ الإنتاج الصناعيّ وإيقاف إنتاج بعض القطاعات الصناعية نتيجة لانعكاس الأزمة المالية على القطاعات الصناعية، وما يؤكد صحة ما نذهب إليه في تحليلنا إعلان شركة جنرال إليكتريك عن توقيف إنتاجها. مما يعني في حال استمرار تفاقم الأزمة المالية المنعكسة بتجلياتها على القطاعات الصناعية انخفاض الصادرات النفطية وتطور الأزمة الاقتصادية في الدول الصناعية والدول التي يشكل فيها النفط المورد الوحيد أو شبه الوحيد.
ويزداد حجم تأثّر الدول الخليجية بالأزمة الراهنة نتيجة لارتفاع حجم الاستثمارات والكتل النقدية الموظفة في أسواق المال والبنوك والمصارف الأمريكية، ومثال على ذلك: مساهمة هيئة استثمار أبو ظبي بمبلغ 7،5 مليار دولار في بنك سيتي بنك، ومساهمة هيئة الاستثمار الكويتي بــ 2 مليار دولار في بنك ميريل لينش، و3 مليار دولار في سيتي بنك …وحسب بعض المصادر فإن البنوك الإسلامية توظف 30% من ودائعها البالغة 400 مليار دولار في الأسواق الغربية / أسهم بنوك وشركات صناعية .. ومما يضاعف من شدة انعكاس الأزمة الراهنة على الدول الخليجية ارتهانها السياسي للولايات المتحدة.
أما الاقتصاد السوريّ فإنّ درجة تأثّره بالأزمة المالية الراهنة تتحدّد بناءً على درجة ارتباطه بالاقتصاد العالميّ والأمريكي تحديداً، ونرى بأن من الأسباب التي تخفّف من حدة آثار الأزمة الراهنة على الاقتصاد السوريّ ــ عدم وجود أسواق أوراق مالية ــ تنوع السلة النقدية. لكن من يتأثر بشكل مباشر هم المستثمرون السوريون في أسواق المال الغربية والأمريكية تحديداً، ومن حسن الحظ فإنّ الحكومة السورية لا تمتلك توظيفات مالية واستثمارية بشكل مباشر في أسواق المال، ليبقى الخطر المرجح من ارتباط الاقتصاد السوري بالأسواق الأوربية، لكن تأثّر الاقتصاد السوري بالأزمة المالية يكمن في درجة انفتاحه والأسواق المحلية على الخارج والتي تقدر بــ 75 % (حجم انفتاح الأسواق السورية على الخارج تقدر بـ 30 مليار دولار، بينما تقدر نسبة الناتج الإجمالي بحوالي 46مليار دولار). من جانب آخر فإنّ الركود الاقتصاديّ العالميّ سوف ينعكس على انخفاض أسعار النفط وبالضرورة فإن هذا سوف يؤدي إلى انحسار التدفقات المالية الخليجية، إضافة إلى أن انخفاض الصادرات النفطية سوف ينعكس سلباً على الموازنة العامة للدولة وبالتالي على معدلات التوظيف الخدمي والإنتاجي، أما الجانب الآخر فإنه يتمثل بالسياسيات الاقتصادية الانفتاحية التي تعتمد آليات اقتصادية مجزوءة ومشوهة لا تأخذ في حساباتها الآثار السلبية لسياسات السوق الحرة وغير المضبوطة على القطاعات الصناعية الوطنية ومستوى إنتاجها غير الممتلك للقدرة التنافسية في الأسواق الدولية، مما يعني انهيارها أمام القدرة التنافسية العالية للبضائع المستوردة التي يتم إنتاجها وفق تقنيات متطورة تعتمد السرعة والكثافة في الإنتاج، والتي تتضمن قيمة مضافة عالية نتيجة لكثافة رأس المال وانخفاض الكلفة الإنتاجية مقارنة بإنتاجنا السلعي … ويزداد تأثير هذا الجانب نتيجة لتراجع الدور التنموي للدولة أمام التوسع الأفقي والعمودي لرأس المال الخاص والاستثمارات الأجنبية، ومما يزيد من حجم الإشكالية والأزمة بطبيعة الحال هو تغييب المستوى السياسي عن الأشكال الليبرالية المفروضة بقوة وسلطة المال والسياسة، والتي يتم ترسيخها بمفاعيل تتناقض مع الواقع الاجتماعي الذي يتشكل في سياق غياب الحريات السياسية والمدنية واستقلال العمل النقابيّ، إضافة إلى هيمنة أشخاص وفئات محددة على السياسية الاقتصادية وفق آليات اقتصادية وسياسية تعبّر عن مصالحها المتناقضة مع المصالح الاجتماعية ومع دور التنموي للدولة. وكلنا يعلم كيف انعكس ارتفاع أسعار النفط على الواقع الاجتماعي السوري متجلياً من خلال زيادة معدلات التضخم ( ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية للنقد الوطني) ارتفاع التكاليف الإنتاجية في القطاعات الصناعية الخاصة والعامة والقطاع الزراعي والخدمي مما أدى إلى حالات إفلاس، وهجرة العمل الزراعي … وترافق هذا مع تراجع دور الدولة التنموي والاجتماعي والخدمي، مقابل زيادة سيطرة القطاع الخاص وارتفاع نسب التملك للرساميل الخاصة الأجنبية والوطنية لتصل إلى حدود 61% مقابل 39% للدولة، ومن هذا الجانب كنا نؤكد على دور الدولة الوطني التنموي الديمقراطي في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والتنمية البشرية في سياق إطلاق الحريات السياسية والمدنية وترسيخ حقوق المواطنة.
أما فيما يخص آثار الأزمة الراهنة على الاقتصاد الصيني ومن ثم ارتدادها على الاقتصاد الأمريكي يبدو كبيراً نتيجة لضخامة الأسواق الصينية التي يسيل لها لعاب المستثمرين الأمريكان لأسباب متعددة، إضافة إلى حجم التبادل السلعي الكبير بينهما وتحديداً من جهة الصين التي تغزو سلعها الأسواق الأمريكية. ووفق بعض المصادر فإن الولايات المتحدة مدينة للحكومة الصينية بمقدار تريليون دولار، ومجرد طرح مثل هذا المبلغ للبيع في الأسواق المالية من شأنه أن يقوّض اقتصاد الولايات المتحدة ويتركها عرضة للانهيار، إضافة إلى أن البضائع الصينية تشكل غطاءً نسبياً للدولار الأميركي ويكفي أن تقرر الحكومة الصينية منع استبدال بضائعها بالدولار حتى يتأزم النظام المالي الأمريكي، ويصبح الانهيار محتماً فيما لو تزامن القرار الصيني مع قرار عربيّ بوقف استبدال النفط بالدولار. ومما يزيد من حدة وشدة تداعيات الأزمة المالية الراهنة ويجعلها أكثر خطورة على الاقتصاد العالمي هو حجم الترابط الاقتصادي العالميّ، وسوف ينعكس هذا من خلال تراجع حجم مبيعات الصين والهند والبرازيل في الأسواق الدولية وتحديداً المتطورة التي تشكل اقتصادياتها أكثر من 70% من حجم الاقتصاد العالمي، مما يعني بأن تراجع حجم المبيعات في الأسواق الدولية سوف ينعكس بأشكال سلبية على الاقتصاديات الداخلية وعلى مستوى معيشة أكثر من 40% من سكان العالم وخاصة الصين التي أكد مصرفها المركزي للحد من الآثار السلبية للأزمة عن تخفيض معدل الفائدة وتغيير أسعار الصرف ولا سيما بعد أن كونت احتياطي نقدي من العملة الأمريكية يتجاوز 1،5تريليون دولار. أما خسائر بعض الدول العربية سوف تكون كبيرة الحجم نتيجة لحجم الاستثمارات الكبير في المؤسسات الأمريكية، ومن المرجح انعكاس الآثار السلبية على بعض الصناديق السيادية لبعض الدول ( سنغافورة – السعودية – تايون – قطر – الإمارات …) لذلك فإن عليها أن تربط بين حجم إقراضها ورأسمالها، وهذا ما دفع بعض الدول لعدم التدخل لإنقاذ المصارف المتعثرة وتفضيلها الاستثمار المحلي ودعم البورصات المحلية لمواجهة الانهيارات المالية العالمية.
ويبقى علينا أن نؤكد بأن حجم الآثار السلبية للأزمة الراهنة على مجموع الدول الأوربية يبدو عميقاً وسوف يطال الكثير من القطاعات المصرفية والصناعية ،نتيجة للتوظيف الاستثماري وامتلاكها سندات مالية في قطاع المال والخدمات المالية الأمريكية ويمكن أن يطال تأثيرها المستوى الاجتماعي والسياسي نتيجة للترابط والتبعية المتبادلة للاقتصاديات الأوربية والأمريكية.
إن ما أوردناه لا يدع مجالاً للشك بأن الدول التي حافظت على استقلال اقتصادياتها النسبي ولم تندمج بالاقتصاد الرأسمالي المعولم، وحققت في سياق استقلاليتها النسبية تنميتها الداخلية بمفاعيلها الذاتية نسبياً، وحافظت أيضاً على استقلالية قرارها السياسي، سوف تبقى آثار انعكاس الأزمة الراهنة على اقتصادياتها وقراراتها السياسية أخف وطأة وأقل حدة فيما لو كانت تابعة في سياساتها الاقتصادية للدول الرأسمالية المركزية ولوصفات صندوق النقد الدولي وللبنك الدولي.
إن الأزمة الراهنة لا يمكن توصيفها بكونها أزمة رهن عقاري فقط، أو أنها فقاعة لأزمة مالية، بل هي أزمة بنيوية / هيكلية تمس جوهر النظام الرأسمالي وخاصة الأمريكي الذي ينتمي إلى الاقتصاد الاستهلاكي أكثر منه إلى الاقتصاد الإنتاجيّ، حيث تراجعت قيم ومبادئ المنظومة الإنتاجية ليحل محلها الاعتماد على الخدمات بدليل أن القسم الأكبر من موارد الدخل الأمريكي يأتي من قطاع الخدمات ( يساهم القطاع العقاري بحدود 20% من الدخل الأمريكي ) وحسب تقرير صندوق النقد الدولي فإن معدل النمو الاقتصادي العالمي لعام 2007 بلغ 5،2 وسطياً، وتراوحت هذه المعدلات بين دولة وأخرى فكانت في الصين بحدود 11،5% ، والهند أكثر من 9% وروسيا بحدود 7،57%، وفي الولايات المتحدة 2،5% ويتوقع أن يتراجع في عام 2008 إلى 1،9%. ورغم تجلي الأزمة الراهنة في القطاع المالي والعقاري لكنها موضوعياً ترتبط بالوضع الاقتصادي الأمريكي العام ( تخفيض معدلات الفائدة، ازدياد عجز الموازنة، ارتفاع معدلات التضخم، ازدياد مؤشرات الركود الاقتصادي، انخفاض مؤشر ثقة المستهلك، انخفاض معدل النمو الاقتصادي، تراجع أسعار صرف الدولار….) ومن المتوقع مع تفاقم الأزمة الراهنة أن يعاني الاقتصاد العالمي من انخفاض معدلات النمو الاقتصادي والتوظيف الاستثماري مما يؤدي إلى ركود اقتصادي وكساد وازدياد معدلات البطالة وانكماش اقتصاديّ، أي دخول الاقتصاد العالمي بأزمة بنيوية(ركود تضخمي ) شبيه بالأزمة الأسيوية لكنها أزمة عامة للنظام الرأسمالي العالمي. وهذا يدلل على أن الأزمة الراهنة سوف تترافق وتتجلى عيانياً من خلال تزايد أزمات اجتماعية يمكن أن تتحول إلى أزمات سياسية ( أزمة عامة ومركبة ).
أخيراً: من الممكن أن نطرح في نهاية البحث بعض النقاط التي يمكن أن تساعد في الحد من تداعيات الأزمة بشكل خاص على الدول الطرفية :
ــ التركيز على القطاعات الإنتاجية ودعم الإنتاج المادي من خلال إعادة هيكلة الشركات ورفع الكفاءة الإدارية والعمل وفق أنظمة إدارية مؤسساتية، التعاون والتكامل والاندماج، تطوير وتحسين القدرات التنافسية من خلال تحسين الكفاءة الإنتاجية، تعزيز مستوى التقانة، رفع مستويات الجودة والنوعية والعمل وفق أنظمة ضبط وضمان الجودة والاستثمار في المجالات الإستراتيجية ذات القدرات التنافسية ورفع القدرة التسويقية، إعادة هيكلة القوى العاملة ووسائل الإنتاج، رعاية الإبداع وتشجيع المبادرات والابتكارات والبحث العلمي، ربط معدل الإصدار النقدي مع معدلات النمو الاقتصادي، تدخل المصرف المركزي في ضبط السيولة النقدية .
ــ إعادة النظر بمبادئ إدارة الاقتصاد وإرشادات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الحرة .. وخاصة بما يتعلق بتحرير الاقتصاد وفق مبادئ اقتصاد السوق الحرة. وبالتالي إعادة الاعتبار لدور الدولة الاقتصادي من خلال المراقبة والإشراف والتنظيم(الأسواق القوية تنشأ في أحضان دولة قومية قوية تقوم على المشاركة السياسية وترسيخ مبادئ الموطنة والحريات السياسية والربط بين المستويين الاقتصادي والسياسي)
ــ ضرورة التركيز على دور المصارف المركزية والتعامل مع معدلات الفائدة بما يتناسب مع التطورات الاقتصادية وليس مع عشوائية السوق، العمل على نظام ضريبي تصاعدي، زيادة الاهتمام بالمؤشرات الاقتصادية الأساسية ( مؤشر عجز الموازنة الحساب الجاري ومعدل النمو والتضخم والبطالة .. ومراقبة الأسواق المالية من قبل لجان مختصة يشترك فيها القطاع الحكومي والفعاليات الخاصة ) .
المراجع :
– الاقتصادية : العدد : 362
– الاقتصادية : العدد :363
– فؤاد النمري : الحور المتمدن العدد 2350
معتز حيسو: كاتب من سوريا(Motaz1123@gmail.com
موقع الآوان