ملحمة غزة… وفلسطينيو «الطرف الثالث»!
تعكس أحداث غزة الأخيرة، أو «المحرقة» كما أسماها الصهاينة، حالة التردي العربية والفلسطينية «الرسمية» في أبشع صورها، وخاصة أن المذبحة التي تُرتكب اليوم بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لا تشكل حرباً فقط ضد حماس أو غزة وحدها، وإنما معركة توجه مدافعها باتجاه «المحور الإيراني- السوري» ككل، وضد كل من يحاول التصدي للمد الإمبريالي الأمريكي الصهيوني في المنطقة.
ففي حين تواصل إسرائيل عدوانها على قطاع غزة دون تحقيق الغاية الرئيسية لهذا العدوان وهي وقف إطلاق الصواريخ على جنوب الدولة العبرية، واستمرار المقاومين في تحدي العدوان وقصف المستوطنات الإسرائيلية بالصواريخ المحلية الصنع، تأتي تصريحات فلسطينية مخزية من حكومة رام الله بعضها محاولة للاصطياد في الماء العكر بتحميل حركة حماس المسؤولية، وأخرى أكثر خزياً تصدر عن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس معتبراً نفسه طرفاً ثالثاً في المعركة بعرضه التوسط بين حماس وإسرائيل لوقف المعركة.
مثل هذه التصريحات تضع المستمع إليها بحيرة حول «هوية» السلطة الفلسطينية الحالية المتمثلة بحكومة فياض وزعامة عباس، وهل هي حقاً حكومة وطنية فلسطينية؟!، وإن كانت كذلك فكيف تطرح نفسها كوسيط بين شعبها -الذي يُذبح على مرأى من العالم- وإسرائيل، دون أن تجرؤ على اتخاذ خطوة جادة تجاه الاحتلال، أو حتى السماح للشعب الفلسطيني بالضفة بالتعبير عن رفضه للمذبحة؟
لا يبدو المشهد الغزاوي ببعيد عما حدث في حرب لبنان في تموز 2006، حيث حاول تيار الموالاة لأمريكا سلب حزب الله والمقاومة انتصاره، ففي الوقت الذي أعلنت إسرائيل هزيمتها الفعلية في لبنان، تقدم تيار 14 آذار بتصريحات تنكر على إسرائيل هزيمتها، وتنكر على شعبها استرداد كرامته، وهذا ما تفعله حكومة عباس في رام الله تماماً، فقد استطاعت المقاومة الفلسطينية في غزة قلب المعادلة رأساً على عقب مع عدوها الصهيوني، وذلك بعد إطلاق «20 صارخ غراد» طويل المدى لأول مرة على المستوطنات وتحقيق إصابات، وتحقيق معادلة توازن الرعب بين الطرفين، بالإضافة لإعلان سرايا القدس امتلاكها أشلاء لجنود إسرائيليين فجرت عبوة ناسفة بهم في مدرسة برفح.
وبطبيعة الحال أيضاً لا يمكن فصل المشهد الغزاوي عن المشهد الشرق أوسطي، فدخول المدمرات «الأمريكية» إلى قبالة الشواطئ السورية اللبنانية ليس إلا استكمالاً لحالة حرب تستعد لها الولايات المتحدة مع القوة الثورية متمثلة بفلسطين بفصائل المقاومة التي قُمعت في الضفة، والمستمرة بمعركتها في غزة، وحزب الله في لبنان، مما يبدو وكأنه إفلاس الولايات المتحدة الأمريكية من حربها السياسية مع سورية وإيران مما استدعاها للتهديد باستخدام القوة، مع ضوء أخضر لإسرائيل بدخول معركة غزة كمقدمة لاستكمال الحرب في جنوب لبنان.
المشهد متشابك تماماً بإحداثياته، لكنه واضح المعالم من ناحية التحالفات، فلم يعد هنالك مناطق في الوسط يمكن الوقوف عليها، فإما أمريكا بكل تحالفاتها والرضوخ لشروطها وتبعيتها وحماية قواعدها من قِبل حلفائها، أو الوقوف في المعسكر الآخر الذي يلقى تأييداً روسياً وصينياً يمكن استثماره بشكل أفضل من السابق.
ولا بد من سؤال واقعي للمنادين بإعادة إحياء منظمة التحرير ضمن المعطيات الحالية، أين يقف اليسار الفلسطيني اليوم مما يجري على أرض المعركة؟. ولماذا لا يجرؤ على تصدير ولو بيان رفض واحد ضد حكومة عباس التي منعت الفلسطينيين حتى من التظاهر ضد ما يجري في غزة، أو ضد قتل المعتقلين السياسيين في السجون؟
وهل إسرائيل التي تزج بقواتها في معركة غزة مطمئنة إلى هذا الحد من طرف عباس وفياض في قمع أية محاولة للثورة داخل الضفة ضد المحتل الذي يضرب غزة بكل أنواع الصواريخ والأسلحة المحرمة دولياً ؟
وهل يدرك أصحاب المبادرات المشبوهة سواء في فلسطين أو لبنان أو غيرها، أن الثورات الشعبية في دولهم لن تكون في اتجاه التصدي للعدوان الخارجي بقدر ما هي ستكون موجهة لتلك المحاور الموالية لأمريكا، وأن لا «كول» ولا أخواتها من مدمرات في البحر المتوسط ستستطيع حمايتهم من انفجار الشارع العربي، وخاصة أن المعطيات تبدو مواتية اليوم أكثر من أي وقت؟
قد تكون معركة غزة قاسية جداً، والذي يجعلها أكثر قسوة حالة تردٍّ «رسمي عربي» لم يجرؤ أي منهم خلالها من إعلان موقف جدي بقطع علاقاته مع «إسرائيل»، من مصر حتى قطر، رغم أن المذبحة حملت رسالة واضحة من الإسرائيليين للقادة العرب القادمين لمؤتمر القمة العربية بدمشق، تقول: إن موازين القوى الكلاسيكية لم تعد تعنيها، وأن إسرائيل لم تعد تعترف بوجود عربي رسمي إلا لكونه أسواقاً لمنتجاتها، بينما تعلن وللمرة الثانية هزيمتها أمام منظمات مسلحة. وأعلنها صراحة وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي «افي ديختر» خلال جلسة الحكومة الأسبوعية قائلاً: إن الجيش الإسرائيلي وبعد خمسة أيام من المعارك لم يتمكن من تحقيق غايته المتمثلة في وقف إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل، ولم نحقق الردع المطلوب. فما الذي تغير علينا في قطاع غزة؟.. ومجمل كلامه يعني اعتراف إسرائيل بهزيمتها في غزة كما أعلنتها من قبل في لبنان وباللهجة ذاتها.