بين حريَّة التعبير وحريَّة التزوير
هوشنك أوسي
من استبدَّ برأيه هلك”. هكذا يخبرنا الإمام علي (ر) عن أولى ركائز آداب الحوار، إن كان سعينا نحو المعرفة والحقيقة. وحين يلجأ المرء إلى المغالطة في تدعيم رأيه بالمعلومة الخاطئة أو الأرقام والإحصائيات غير الدقيقة، أو المفبركة، واجتزاء الأقوال والتصريحات، وتوظيفها في غير سياقها…،
يصبح الحقُّ في التعبير عن الرَّأي، أحد روافع ودعائم التضليل والتشويش على الرَّأي العام، وخلق انطباع عن حدث أو تجربة معيَّنة، معاكس ومناقض لمعطيات حالها. وتالياً، إن الإمعان في ارتكاب الخطأ والتسويق له على أنه حريَّة تعبير، هو خطيئة بحقِّ الذات والآخر. وما أنْ يشعر المرء، بضعف القرينة، وهزال الحجَّة وبطلان المعطيات التي تبنَّاها أو سوَّق لها…، حينذاك، أوَّل ما يتدثَّر به في مواجهة ضدِّه أو نقيضه أو خصمه في الرَّأي، هو التهافت على النفخ في القربة المقطوعة ذاتها، والحديث عن حريَّة التعبير، والتسويق لذاته على أنها: مستهدفة من قبل غلاة الاستبداد وسدنته، لأنه “انتقد” وعبَّر عن رأيه، بما يخالف وجهة نظر البعض، مُوسماً هؤلاء “البعض” بأنهم الأغلبيَّة، ناسياً أو متناسياً مقولة: “إن كنت فعلاً على حق، فأنت الأغلبيَّة“.
حريَّة التعبير، كغيرها من الحقوق المنصوص عنها في المواثيق والعهود الدوليَّة، محكومة بضوابط ومعايير، أقلُّها شأناً الصدقيَّة والمصداقيَّة في تناول شأنٍ أو أمرٍ أو حدثٍ أو فكرة ما…، نقداً أو تحليلاً أو تفسيراً…، بمنأى عن الذاتويَّة المُفرَطة والمُفرِطة. وإلاَّ، لغدا الفلتان في اختلاق حقائق، وتزوير وقائع، والتشهير والقدح والذم ونشر الأباطيل والأضاليل…، نوعاً من حريَّة التعبير عن الرَّأي. دون أن ننسى أن من يتلطَّى وراء التعبير عن الرَّأي، قد يلجأ لنثر كلامٍ حقّ، قاصداً به باطلاً.
حين يتراجع مفهوم الشعب في قاموس المرء، على حساب تورُّم الذات، وقتئذ، ينحصر ” الوعي الجمعي” لديه فقط في القطيعيَّة، ويغدو الحديث عن إرادة الشعوب وقيمها لديه، ضرباً من الإنشاء والرومانس واللاعقانيَّة والانزلاق نحو الماضي. بذا، يغدو ” الآخرون هو الجحيم” بتعبير سارتر، حتى ولو كانوا شعباً بأسره، ويصبح، ليس التشكيك، وبل الطعن في كل قيم وتراث وآداب وفنون وماضي وحاضر الشعب، أمراً مستباحاً ومستساغاً ومستحبَّاً لديه، بداعي حريَّته في التعبير عن رأيه، والخروج عن القطيعيَّة، والسير نحو الفردنة، وتبنِّي “الوعي والسلوك” الديموقراطي!.
يوحي البعض، أن تواجدهم في بلاد الغربة الاختيارية، قد صقَّل تجربتهم، وساهم في تعميق السعة المعرفيَّة لديهم، وباتوا يمتلكون صفاءاً روحيَّاً وفكريَّاً أكثر مما لدى أقارنهم الذين مازالوا رازحين تحت وطأة “الانغلاق والتزَّمت والإلغاء والإقصاء…”، لكونهم لم تسنح لهم بعد فرصة الهرب من “الوطن الغربة”، لينهلوا من مغانم الغرب و”الغربة الوطن”، ما نالوه هم. وبذا، ينبغي على الماكث في الوطن أن ينصت ويذعن لعظات المغترب، برأيهم!. حينئذ، تغدو الكتابة عن المشهد، من خارجه، أكثر صدقيَّة من الكتابة عنه، من داخله، وأيضاً برأيهم!. مثلاً، الكتابة عن المشهد السوري أو الكردي…، من خارجه، تجعل زاوية الرؤية أكثر انفراجاً، وبذا، تغدو الرؤى المستخلصة أقرب إلى نبض المشهد وصُلب الحقيقة، وأيضاً برأيهم!.
باستطاعة المرء أن يقول في النظام السوري مثلاً، ما ملك لسانه ووجدانه، ووعيه وإيمانه، من خارج سورية، في حين أنه لم يكن ينبس ببنت شفه، حين كان في أحضان الوطن السوري، ليس لجهل بمعطيات الحال السوريَّة، بل لخوفٍ أنْ يمسَّهم النظام بسوء، إنْ هم عبَّروا عن رأيهم!. ويستطيع المرء أن يتحدَّث عن فظائع الحرب والصراع الكردي _ التركي الدائر حالياً، ويحمِّل الكرد مسؤوليتها، ويبرِّئ ذمَّة الأتراك منها، في حين إنه لم يخسر قرشاً واحداً في دعم النضال الكردي السلمي أو العنفي في تركيا، ولا في سورية، ولا في العراق…، ولم يمنح دقيقة واحدة من وقته لدعم هذا النضال، حتى يزايد بحساسيَّته “المرهفة”، على حساسيَّة الذين قضواً سنيناً من عمرهم في النضال الكردي سوريَّاً وتركيَّاً، نشطاءاً ومعتقلينَ وثواراً، وخسروا دماً ومالاً وجهداً ووقتاً في دعمه، ولمَّا يزلوا، ليشير إلى عبثيَّة ولاجدوى الحرب، المفروضة على الكرد تركيَّاً وأمريكيَّاً!. إذن، الكتابة بدلالة الأمكنة، كنوع من التعبير عن الرَّأي، هي الفيصل بين الآراء والأفكار ونقائضها وأضدادها. بمعنى، من يكتب في السجون السوريَّة، ليس كمن يكتب من خارجها، ومن يكتب داخل سورية، ليس كمن يكتب من خارجها، بحساب ضرائب الاستبداد على حريَّة التعبير عن الرَّأي وأكلافها الماديَّة والمعنويَّة. وبذا، يغدو من يكتب في جبال كردستان، تحت القصف والموت والبرد القارص، ليس كمن يكتب في دمشق وبروكسل وأوسلو…الخ.
وهذا، لا يعني البتَّة إن الغربة والاحتكاك بالثقافة الأوروبيَّة، توسِّع آفاق ومدارك المغترب، لكن، ألاَّ تجعله يتعالى على قومه وشعبه، طاعناً في تاريخه وتراثه وآدابه فلكلوره…، ناظراً إليه كقطعان من “الهمج والجهلة”، وفي أفضل الأحوال، كحملانٍ تقاد للمذابح والمسالخ…!، كما لا ينفكُّ أحدهم عن القيام بذلك. وعلى أقل تقدير، أن يكون حقَّه في التعبير عن رأيه منسجماً مع مبدأ الشافعي: “رأيي صائب يقبل الخطأ، ورأيك خاطئ يقبل الصواب”، لا أنْ يتحجَّر ويستبدَّ برأيه لأكثر من 17 عام، أو أكثر، حيال تجربة سياسيَّة معيَّنة، أو حيال شخص معيَّن، مهما كان شأنه!. في حين، انقلبت مواقفه من تجارب أخرى رأساً على عقب، لمجرد أن أصحاب هذه التجارب بدأوا يغدقون عليه من كرم أخلاق تجاربهم!.
قبل سنين قليلة، كان أحدهم يشهر سيفه يميناً وشمالاً، قياماً وعقوداً، في وجه “قادة كردستان العراق، لاحتضانهم رمزاً كرديَّاً سوريَّاً، مشتبه بعلاقته مع النظام العراقي السابق، وكيف أن هذا الرمز يتحف قادة كردستان العراق بمدائحه”!. وبعد فترة، اختفى السيف الخشبي ذاك، “فجأةً”، وتغيّرت لهجة صاحبنا، لتحلَّ محلَّها لهجة جديدة، تتماهى ولهجة ذلك القيادي الكردي السوري المُنتَقد. والحال هذه، لا ينطبق على صاحبنا، إلا قول الشاعر العربي: “لا تنهَ عن خلقٍ وتأتِ بمثله / عارٌ عليك، وإن فعلتَ عظيمُ“.
قبل سنين، غيَّر أحدهم دينه من الإيزيديَّة إلى الإسلام، وهذا حقَّه الطبيعي، حين يكتشف ” تخلَّف دينه ومدى ابتعاده عن الحقيقة، واقترابه من الخرافة”، (مع احترامي الشديد لأخوّة والأصدقاء الإيزيديين)، ويؤمن بأن الإسلام، “هو الخلاص، ودين التسامح والتعدديَّة، والحقيقة التي لا قبلها ولا بعدها…”. لكن، لم يكن الأمر ذلك مع صاحبنا. وبعدها، وجَّه انتقاداً لتحويل الأمير جلادت بدرخان الأبجديَّة الكرديَّة إلى اللاتينيَّة، ذاكراً: إن الأحرف العربيَّة هي الأنسب للغة الكرديَّة. طبعاً، هكذا رأي، يَفترض أن صاحبه، متعمِّق في فقه اللغة الكرديَّة، وضليع في اللسانيات وعلم اللغات، ويكون رأيه ذاك، خلاصة بحوث ودراسات وتحرِّي وتدقيق وتمحيص عملي منهجي دءوب. لكنه عزى اختيار جلادت بدرخان للأبجدية اللاتينيَّة، تماهياً مع الأتاتوركيَّة التي اختارت الأحرف اللاتينيَّة للغة التركيَّة. واعتبر: إن مسلك جلادت بدرخان، هو من مفرزات الكماليزم (نسبة إلى كمال أتاتورك)!، وفي هذا المسعى البدرخاني، ثمَّة تواطؤ وتآمر على اللغة الكرديَّة، التي لم يكتب بها صاحب الرَّأي، ولو مقالة أو قصَّة أو قصيدة، لا بالكرديَّة ذات الحروف العربيَّة، ولا بالكرديَّة اللاتينيَّة!.
قصارى القول: من حقِّ المرء أن يتنقَّل ما شاء، بين الأفكار والمواقف ونقائضها، سعياً وراء الحقيقة، لكن، أن يتَّسم الوعي والسلوك بالانتقائيَّة والزئبقيَّة والتأرجح والضَّدِّيَّة، تهافتاً وراء منفعة شخصيَّة، افتضح مآلها، أو وفق مبدأ: “خالف تُعرف”، حينئذ، خير ما ينطبق على هذا المسلك، المثل الإنكليزي المعروف: “لو كان الكلام من فضَّة، فإن الصمت من ذهب”. وليس في هذا، تعدٍّ على حقٌّه في التعبير، بقدر ما هو محاسبة له، على “حقِّه” في التحوير والتزوير، واستغفال واستجهال للبشر.
هوشنك أوسي