قمة ” المعلقات ” في دمشق إلى أين ؟!.
د.نصر حسن
مرةً أخرى, قمة دورية مثيرة للجدل على تخوم التدهور العام الذي يعيشه العالم العربي , وبإرباك وحيرة النظام العربي الرسمي حول عقدها في دمشق نهاية آذار الحالي , ومصدر حيرته الأساسي هو أنه أي النظام العربي فقد بوصلته أمام مفترق طرق مفصلي بين مرحلتين , مرحلة ماضية شهدت بعض العمل المشترك بين قوى النظام العربي الأساسية مصر والسعودية وسورية ,
مرحلة انتهت لما هو عليه وضع العالم العربي اليوم من احتلال ومحارق وتفكك وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وتخلف وفقر وتطرف ورياح عاتية تعصف بالشعوب العربية بدون استثناء, مرحلة ماضية حددت ملامحها حاجة تلك القوى الأساسية إلى نوع من التضامن ,فرضته قوة المصالح وليس قوة العمل الوحدوي المؤسسي والحقوقي والتنمية العامة .
مرحلة ماضية انتهت , وللمفارقة تركت الشعوب العربية تائهة بدون أن تقدم بدايات واضحة لمرحلة لاحقة سوى الحروب والخراب والتفكك والفقر , والمؤسف فيها أنها اختتمت بفشل وتصدع وخلاف بين مثلث القوى العربية الذي ينفرط عقده وسيفرط معه العمل العربي المشترك برمته إلى ثنائيات ومحاور وهذا ما لا نتمناه , مرحلة ماضية ارتبطت فيها التفاعلات الرئيسية في العالم العربي بالعلاقة الجيدة بين مصر والسعودية وسورية التي أسستها “ميكرو” القمة العربية في مصر بين الدول الثلاث عام 1994 على هدى عاصفة الصحراء ونتائجها وما ترتب عليها , مرحلة ماضية يسدل الستار “الكفن “عليها بعد أن ظلت تلفظ أنفاسها , لتنتهي بفراق خطير بين كل من مصر والسعودية من جهة وسورية من جهة أخرى , والباقي بين بين !.
ما الجديد الذي حصل ؟! وما هي مسببات الانهيار العام الذي نراه اليوم في العالم العربي؟! وما الذي جمع خصوم البارحة,وما الذي فرق جمعهم اليوم ؟! وما هي مسببات الجدل الدائر حول انعقاد قمة دمشق الحالية في نهاية آذار , وما هي خلفياته الحقيقة؟! وما الذي يريده النظام السوري بالضبط من هذا الإرباك؟!.
إن محاولة تلمس الإجابة الصحيحة هي البداية التي توضح علة العلل الكامنة في شكل ومستوى التفاعلات الداخلية في النظام العربي الرسمي اليوم , وانعكاسه على المرحلة الخطيرة التي أصبح على مشارفها , والتي يغطيها اللبس والتناقض والغموض واستمرار التأجيل والتعليق , مرحلة جديدة تشهد خربطة بنيوية سياسية جغرافية شاملة ,هي أشبه بتحلل الموجود في أشكال جديدة هي الأخرى غير واضحة لدى النظام العربي الرسمي وغير عارف بأبعادها, وكل ما يعرفه أنه مشارك فيها ربما برغبة الدور والبقاء, ليوفر للآخرين المساحة المطلوبة والبيئة والظروف المنشودة لإعادة ترتيب وتصفيف أجزاء الصورة العربية الممزقة من جديد على أسس جديدة ,وبناء هياكل جديدة ستكون هي محددات مرحلة قادمة شاء النظام العربي أم أبى في قممه أم بدونها.
والحال كذلك ,إن الإجابة تكمن في فهم بنية النظام العربي الرسمي نفسه ,وعلاقاته وتفاعلاته الداخلية والإقليمية والدولية ,وفي عتلاته النشطة المتحركة التي حملت الشعوب العربية عليها إلى ما هي عليه اليوم , وفي هذا الإطار شكل النظام السوري على امتداد المرحلة الماضية ” داينمو” العتلات الثلاث مصر والسعودية وسورية , وحصرها في فهم طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي وكيفية التعامل مع القضية الفلسطينية في الشكل والمضمون على أساس خياره الاستراتيجي المعروف ” السلام العادل والشامل “, والنظام السوري الذي لعب دوره بعنف ووصل إلى نهايته وسقفه السياسي العربي والإقليمي والدولي , في الذهاب إلى مؤتمر مدريد عام 1990 على خلفية شعاره الاستراتيجي ذاك, والذي ترجمه عملياً في أسس مدريد , كان هو السقف الأعلى الذي وصل إليه النظام السوري والعربي , وكان هو عنوان الصراع العربي الرسمي الداخلي فيما بعد .
هنا حصلت بعض الإزاحة السياسية لإحداثيات القوى العربية الفاعلة في الساحة ليشهد عملية سحب محور الصراع العربي الإسرائيلي من أيدي النظام السوري إلى المستوى الدولي ,ليقذفها هو الآخر بدوره من جديد في فضاء الخلافات العربية والتشقق والفراغ الذي حصل عقب عاصفة الصحراء, لتلتقي مجدداً على بساط المبادرة العربية للسلام التي تبنتها قمة بيروت 2002 التي رفضتها إسرائيل , لتتوغل الخلافات وتتبدد صيغ العمل المشترك بما هو مقدمة لتباعد وافتراق العتلاث الثلاث , الافتراق الذي يضغط حالياً على انعقاد قمة دمشق , ترى ما هي المستجدات في الساحة العربية التي أرخت بمفاعيلها على النظام العربي الرسمي كله؟!.
بتكثيف الأمر , أولها هو ما أوحي أنه إطار جديد لرسم سياسة المنطقة وجغرافيتها على أسس مدريد لم يعمر طويلاً وانهار , ولم يبق منه سوى ذكريات, وبدوره أدى إلى انهيار تماسك النظام العربي الرسمي الذي تشكل بناءً عليها .
وثانيها , وفاة الديكتاتور الأسد الأب مهندس الاستسلام والتسوية وعراب مدريد , الذي لعب دوراً محورياً خطيراً مؤسساً لما نراه اليوم في العالم العربي من انهيار.
وثالثها , الخلل في المعادلة العربية نفسها الذي أحدثه غياب وتناقض دور النظام السوري في عهد الديكتاتور الابن ,والتحول الكبير في سياسة النظام السوري العربية من التعاون إلى البحث عن مصالحه الفردية دون سقف العمل العربي المشترك بل المزعزعة له .
ورابعها , وهو تكويع النظام السوري السريع باتجاه إيران , وخلخلة توازن العلاقات العربية الفارسية , وفتح أبواب سورية ولبنان وفلسطين والعراق لها .
و خامسها , هو انحسار الوجود السوري العسكري المباشر في لبنان , والتدخل في شؤونه الداخلية وتوالي عمليات الاغتيال السياسي ,ودفع لبنان نحو الفراغ والفوضى وتعريب أزمته وتدويلها كما توحي سياق الأحداث.
وسادسها , ركوب القضية الفلسطينية من جديد تحت شعار الإرهاب والممانعة وليس التحرير هذه المرة, في سياسة هادفة إلى إعادة تجميع الأوراق بين يديه للاستمرار في عملية الابتزاز والمساومة .
وسابعها , وأخطرها هو التحول في السياسة الأمريكية من مسار التأثير الخارجي إلى الدخول على خط الأحداث الداخلي , والذي أنتج احتلال العراق ونتائجه الداخلية والإقليمية والعربية المنظورة والمخفية.
وثامنها , هو الفشل على كافة المسارات الإقليمية الذي خيم بنتائجه على النظام العربي الرسمي .
وتاسعها , ما يجري في العراق وفلسطين ولبنان من قتل وتدمير وتطرف وعنف وأحداث خطيرة .
وعاشرها , ومحصلتها هو فرط عقد العمل العربي المشترك, وتحرر النظام السوري من مداره العربي والدوران في مدار الإستراتيجية الإيرانية التي أخذت منحى إمبراطوري مذهبي إقليمياً, وصراع المصالح والنفوذ على المستوى الدولي في الساحة العربية وعلى حساب الدم العربي والمصالح العربية والاستقرار فيها.
وعليه وضمن حالة الجدل والفشل والضجيج الحالي حول قمة دمشق يفرض السؤال نفسه , من بدء بفرط سلسلة العمل العربي المشترك ؟! وما هي الرؤى الجديدة التي تعمل فيها آلية العمل العربي اليوم ؟!ولماذا اتخذ النظام السوري مسار الشقاق والطلاق مع العمل العربي ومع توأميه مصر والسعودية , وقرر التحليق والتغريد خارج السرب العربي؟! هل هو الدور أم هي المصالح الذاتية لكل نظام عربي ؟! أم هي رغبة الهروب من المسؤولية ؟! أم هي حاجة التمايز والابتعاد عن عبء العمل العربي المشترك , الذي أصبح التأثير الدولي غالباً عليه في كل تجلياته ؟! أم هو العجز المشترك البنيوي السياسي الوطني القومي التنموي الذي ميز النظام العربي كله في نهاية هذه المرحلة؟! وبالتالي إلى أين تسير قمة دمشق القادمة بعد أيام ؟!.
خلاصة القول ومباشرته : هو أن القمة العربية كإطار تنسيق في بنيتها وآلياتها وبرامجها وتوقيتها مفصلة تماماً على قياس أزمة النظام العربي والعلاقة بين أنظمة الحكم العربية المفتقرة إلى بعدها الشعبي والقانوني والمشروعية السياسية , وتعكس حاجتها إلى احتواء الشعوب العربية وحصرها في سياساتها البعيدة عن الهم العربي الشعبي , وعن المصالح العربية والأمن العربي القومي والوطني ,وبالتالي هي منهجية أنظمة حكم كلها غير ديمقراطية وغير شرعية , وليس للشعوب أي رأي سواءً في استمرارها في الحكم أو المشاركة وحتى الجزئية في رسم مستقبلها ولا في صناعة القرار السياسي في العالم العربي , وعليه إنها أي القمة تعمل بآلية تجيير الوضع العربي بكل الطرق غير المشروعة والممنوعة في الاتجاه الخاطئ على المستوى القطري والقومي والدولي , ولا تملك أي رؤى تكتيكية أو إستراتيجية سوى ما يخص تشبثها وبقائها في السلطة , تتقاطع بشكل كامل مع البرامج والإستراتيجيات الخارجية التي تعبث بالمنطقة بدون رادع ولا منافس ولا مشارك , وهي أقرب إلى كونها أدوات تنفيذية لمخططاتها بشكل مباشر عن طريق الارتباط الذي يوفر لها الحماية والبقاء في السلطة , أو بشكل غير مباشر عن طريق الانكفاء الذاتي والعجز والفشل في تمثيل الحد الأدنى من تطلعات الشعوب العربية , وبالتالي حصر المنطقة كلها في دائرة التبعية والتخلف والتفكك, واستمرار تعليق الاستحقاقات على جداول القمم العربية التي لم ينفذ منها شيء يذكر , وأبرز دليل على ذلك هو تعليق كافة مشاريعها في القضية الفلسطينية وبعدها العراقية وضمنها اللبنانية مروراً بفشلها في تطوير حد أدنى من التكامل والتعاون العربيين, وأكثر منه خطورةً فشلها في تأسيس أي مشروع تنموي اقتصادي أو تجاري أو اجتماعي أو أمني أو ثقافي , ناهيك عن فشل كل خطوات الوحدة وإفراز أسوأ العلاقات فيما بينها , والتي انعكست على الأهداف الإستراتيجية للشعوب العربية بالمزيد من السلبية وتعميق المفاهيم العصبية والتباعد ,عبر إجراءات عديدة لعرقلة عملية التواصل والتنقل والعمل والعلاقات الثقافية والإنسانية البينية .
والحال كذلك فإن قمة دمشق والجدل حولها هو ليس في الزمان والمكان والعنوان , ولا النحيب على غزة والعراق , ولا تعطيل الحياة السياسية في لبنان وتغييب الرئيس , ولا جهل البؤر المتوترة من السودان إلى الصومال إلى الخليج , ولا مستوى التمثيل والتطبيل لدور هذا النظام العربي أو ذلك , بل في منهجية القمة نفسها وطبيعة أدائها ,التي تعمل بآلية التسويف والتأجيل والتعليق على حبال خارجية ,وغياب الإرادة والقدرة العربية على الحسم في كافة شؤون العالم العربي الداخلية والخارجية , فقضية فلسطين معلقة منذ أكثر من نصف قرن والوضع في العراق معلق ينقله النظام العربي من حبل إلى حبل , ولبنان وانتخاب الرئيس معلق على أكثر من حبل ,والوضع في الخليج معلق على نية إيران وصراعها مع المجتمع الدولي , والتنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والحرية والتقدم والتطوير ووضع حقوق الإنسان ومعها كل المشاريع المطروحة لحل أزمات المنطقة, كلها معلقة على شماعة النظام العربي الرسمي لعقود , أي إن الحياة العربية ومستقبلها كلها لازالت في مرحلة تعليق بتعليق !.
فهل ستكون قمة دمشق , هي قمة الحسم والقرار العربي الجريء , قمة الشفافية والمصارحة والمسؤولية , وتصحيح العلاقات العربية والدولية , والمبادرة ضمن الممكنات لفتح أفق جديد؟! أم ستكون محصلة سابقاتها ؟! قمة في التفريط والتنظير والتصفير , قمة في التلفيق والتعليق أو قمة ” أنصاف الرجال ” على حد قول ” ممانع العرب ” بشار أسد !.
أم ستكون قمة مأتم إسدال الستار ” الكفن ” على نهاية مرحلة , ودخول مرحلة جديدة وجد خطيرة من التمزق والفرط والتفريط ؟!.
سابقاتها بما هي مقدماتها واضحة في الصوت والصورة بشلالات الدماء العربية التي أصبحت أرخص من النفط والماء , وبهول الخراب واليباب والعذاب , فالأمور تقاس بخواتمها أي بما بعدها , وحدها النتائج العملية التي تخص الشعوب وحقوقهم وحريتهم وكرامتهم ومستقبلهم , تقرر أي قمة سوف تكون قمة “المعلقات ” التي لا صلة لها ولا شبه البتة مع معلقات (أبي سلمى)… بل هي على النقيض بكل دلالاته العربية !.
خاص – صفحات سورية –