صفحات سورية

سوريا في أزمة مع الداخل ومع الخارج ؟

null

يواجه النظام السوري تحدياً سياسياً، يعد الأخطر بين التحديات التي مر بها خلال العقود الأربعة الماضية، سواءً على مستوى سياسته الخارجية وعلاقاته العربية والدولية، أو على مستوى الأوضاع الداخلية السياسية والاقتصادية، وتدهور الأحوال الاجتماعية والمعيشية لمعظم الكتلة الشعبية.

-1-

إن إصرار السلطة منذ حزيران عام 2000على مواصلة استبعاد الشعب من المشاركة في صنع القرار السياسي، واستمرار سلوكها تجاه الدولة على أنها هي السلطة بذاتها، أي دوام الدولة مرهون بدوامها(مفهوم الغلبة)؛ وكذلك رغبتها الجامحة باسترجاع النفوذ الإقليمي الذي فقدته في لبنان بأي ثمن، دون الأخذ بعين الاعتبار تغير الظروف السياسية الدولية وموازين القوى التي كانت سائدة في أواخر القرن الماضي؛ هذان العاملان أسهما في صوغ سياسة خارجية لديها، أقل ما يقال عنها أنها متحجرة ، تفتقر للمرونة و القدرة على توفير هامش المناورة في علاقاتها الدولية والعربية.

ومهما أُسْبغ على هذه السياسة من نعوت الممانعة والمقاومة والتصدي للأمبريالية والصهيونية، تبقى قاصرة وغير قادرة على التكيف مع التغيرات العميقة التي طرأت على الوضعين الدولي والإقليمي. وقد بدأت جدياً درامية عدم هذا التكيف في عام 2004 في أوائل أيلول، حينما بذلت كل جهدها من أجل التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود، أملةً في أن يساعدها على التشبث بلبنان. و منذ ذلك التاريخ، وبعد كل خطوة كانت تخطوها, كان يضيق أكثر هامش المناورة لديها.

إن سياسة الهروب إلى الأمام، أدخلت النظام في الدهاليز الضيقة، التي كانت تحرمه من الفسحة للقيام بالتراجعات الضرورية والوصول إلى الحلول الوسط. هذه السياسة كانت سبباً رئيسياً لعزلته السياسية الحالية عربياً ودولياً، وعلى وجه الخصوص عزله عن المثلث العربي التاريخي مع السعودية ومصر، وإدخال الأردن بديلاً منه داخل هذا المثلث. وكذلك الحال تأثرت علاقات سورية التقليدية التاريخية مع باقي دول الخليج التي لم تعد في أحسن أحوالها. وإذا كانت للنظام بعض العلاقات الجيدة مع قطر، فهذه الأخيرة يبقى تأثيرها السياسي متواضعاً ودورها محدوداً ولا يمكنها أن تبتعد شوطاً بعيداً عن الخيمة السعودية. وأيضاً حساب المصالح دفع اليمن، ذات الموقف التاريخي القريب من دمشق، لأن تنأى بنفسها عن السياسات التي تعتبرها الآن متطرفة، وهذا طبيعي بالنسبة إلى دولة تبذل كل جهودها في هذه الأيام لدخول الاتحاد الخليجي،. وكذلك يرى القادة اليمنيون أن تمرد الحوثيين الزيديين، يلقى تأييداً ودعماً من إيران.

وما وسع شقة الخلاف أكثر بين هذه الدول والنظام السوري، تزايد عرى تحالفه الصريح والعلني مع إيران، التي تتعقد علاقاتها يوماً عن يوم مع المجتمع الدولي، بسبب سياستها التي تهدف إلى توسيع نفوذها غرباً باتجاه سواحل البحر الأبيض المتوسط، وبسبب تطوير ملفها النووي وجموحها التسليحي، الذي يمكن أن يشكل خطورة على دول الخليج والعراق ومنابع النفط.

ولقد تم، خلال العام الماضي، إجهاض كل المحاولات التي بذلت في قمة الرياض لمنع تقسيم العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط عموماً إلى حلف للمتطرفين وحلف للمعتدلين، كما كانت ترغب الإدارة الأميركية. وقد كانت هنالك جهود حثيثة من قبل الدول الخليجية وحتى مصر لتحسين العلاقة مع إيران ومباشرة الحوار معها، إدراكاً من هذه الدول، لما تشكله من أخطار على الجميع أية حرب يمكن أن تنشب بين إيران والولايات المتحدة. لكن تطور الأحداث السياسية في المنطقة كان دراماتيكياً، وراح يدفع بعكس نوايا مؤتمر الرياض، باتجاه توتير المنطقة وتفاقم الانقسام العربي . فما جرى في غزة من تقاتلٍ بين الإخوة، وإجهاضٍ لاتفاقية مكة بين فتح وحماس، ومن ثم انقلاب الأخيرة وسيطرتها على القطاع. وكذلك ما جرى في لبنان من تعطيلٍ لكل المحاولات التي تهدف إلى توطيد الاستقرار وبناء الدولة، كل هذا أفسح في المجال لإسرائيل لكي تتنصل من كل وعودها للمجتمع الدولي فيما يتعلق بحل القضية الفلسطينية.

-2-

يزداد اليوم المشهد الشرق الأوسطي اضطراماً، ويعيدنا إلى أيام الحرب الباردة وسياسة حافة الهاوية. والمنطقة يبدو أنها تنحو إلى تشكيل محورين متصارعين طبقاً لما كانت تريد كونداليزا رايس في العام الماضي من القمة العربية في الرياض. فالفراغ الدستوري في لبنان وتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، يهدد بتدمير كيان الدولة اللبنانية من أساسها. ولقد أخذت بعض الاضطرابات تحدث على الأرض، وبدأت الأذهان والنفوس تستعيد ذكريات الحرب الأهلية. وتتفاجأ المنطقة باغتيال القيادي العسكري البارز في حزب الله عماد مغنية في دمشق، ويلمح الأمين العام لحزب الله في الجنازة إلى الحرب المفتوحة مع إسرائيل، وتقرع طبول الحرب أكثر فتتجه البوارج الأميركية باتجاه الشواطئ اللبنانية..

وفي فلسطين ، غزة محاصرة والشعب يعاني من نقص الوقود والكهرباء والطعام ومعظم الحاجات الاستهلاكية، والجيش الإسرائيلي بطيرانه ودباباته يرتكب الجرائم والمجازر بحق المدنيين والأطفال والشيوخ بحجة تدمير منصات الصواريخ الإيرانية التي تطلقها حماس والجهاد الإسلامي على بعض المستعمرات في النقب، وبدأت الصحف الإسرائيلية تتكلم حول صواريخ إيرانية تصل إلى حماس والجهاد. ثم يأتي رد الفعل من القدس الغربية، فيشن الهجوم على المدرسة التلمودية. ويجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر ليدرس حجم الرد …وهكذا.

وتستغل إسرائيل الانقسام الفلسطيني العميق بين فتح وحماس إلى أقصى الحدود، من أجل التنصل من كل الاتفاقات. لا يوجد أدنى شك في أن الاحتلال الإسرائيلي هو المسؤول الأساس عما يحل بالشعب الفلسطيني من كوارث على المستويين الوطني والإنساني. لكن في المقابل تتحمل كل من حماس وفتح مسؤولية كبرى لا تقل شاناً، بسبب تقاعسهما عن إعادة الحوار بينهما، والاتفاق مع كل الفصائل والقوى الفلسطينية الأخرى على استراتيجية سياسية موحدة إزاء إسرائيل ومسألة التحالفات الإقليمية، وتبني أساليب متنوعة للمقاومة تحظى بتأييد ودعم الرأي العام العالمي.

في اعتقادنا، لا يوجد سبيل آخر أمام الفلسطينيين، إلا الحوار والوحدة الوطنية والاتفاق على استراتيجية سياسية موحدة لمواجهة الاحتلال. ويجب أن تستخدم كل طاقات الشعب الفلسطيني المتوفرة لاعتماد اساليب متنوعة وخلاقة للمقاومة من أجل تقرير المصير وتشكيل الدولة.

ما زاد من درامية الوضع المتفجر في المنطقة اقتراب المدمرة كول والبوارج الأميركية من السواحل اللبنانية من أجل (حفظ الاستقرار في الشرق الأوسط كما قال أكثر من مسؤول أميركي). طبعاً إن دبلوماسية البوارج الحربية التي تستخدمها الولايات المتحدة الآن، تخدم بالدرجة الأولى مصالحها ومصلحة إسرائيل، وهذا ما تعترف به الإدارة الأميركية علناً. ولكن أيضاً تخدم موضوعياً حماية مناطق نفوذها، ومصالح حلفائها الآخرين في المنطقة وهم كثر. ويخطئ كثيرا من لا يأخذ هذه الأمور بعين الاعتبار..

إن وضع النظام كل أوراقه مع إيران، التي تشي سياساتها الراهنة في المنطقة بطموحاتها التوسعية الإقليمية ، و سياسة النظامين التوتيرية للساحتين اللبنانية والفلسطينية، أسهمت هذه الأمور في تقسيم المنطقة إلى محورين وتكريس نمط من الحرب الباردة الإقليمية. ولقد وصل الأمر بولي الفقيه(علي خامينئي) لأن يقول علناً أنه سيهزم الشيطان الأكبر(الولايات المتحدة) على الأرض اللبنانية، وبالرئيس الإيراني نجاد لأن يرفع شعاره الأفلاطوني بشطب إسرائيل من الخارطة. وهو يفتخر كل يوم بالتقدم الذي تنجزه إيران في المجال النووي. وبدأت تلوح في الأفق إمكانية إحياء الفتنة الشاملة بين السنة والشيعة لتفتيت المنطقة من باكستان إلى المغرب.

إن تحالف النظام السوري مع إيران وخطابها المتطرف، يدخل سورية في دائرة المغامرة والأخطار التي باتت تهدد المنطقة العربية بأجمعها. وإن وضع البيض كله في السلة الإيرانية أدى إلى عزلة سورية عن محيطها العربي وحتى الإقليمي وجعلها في وضع محرج جداً. وحتى النافذة التركية التي كانت منفتحة نسبياً على النظام، فعلاقاتها التاريخية والجيوسياسية والمستقبلية مع الغرب وحلف الأطلسي والاتحاد الأوربي وعلاقاتها القوية مع إسرائيل لا تسمح لها بفتح الأبواب كثيراً على سوريا.. وكذلك روسيا التي راح أخيراً يراهن عليها بعض القوى اليسارية التقليدية المتحالفة مع النظام للاتكاء عليها، بدأت تتكلم في الفترة الأخيرة بلهجة الامتعاض وحتى التهديد بالنسبة إلى السياسة الإيرانية وإدارتها لملفها النووي. وهنالك جديد جدير بالاهتمام، هوتصريح (مارغيلوف) مسؤول الشؤون الخارجية في مجلس الدوما، حينما حمَّل أخيراً، وفي خضم الكلام عن توجه المدمرة كول نحو الشواطئ اللبنانية، المعارضة اللبنانية مسؤولية تعطيل انتخاب رئيس جديد، و اعتبر هذا التعطيل أنه يهدد الاستقرار في الشرق الأوسط. ثم جاء موقف روسيا والصين، في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن التي أقرت فيها الدفعة الثالثة من العقوبات على إيران، ليؤكد مخاوف هاتين الدولتين من استراتيجية خامينئي ونجاد. ولقد قال أحد المحللين السياسيين الإيرانيين: إن القرار 1803 كان مؤلماً بالنسبة إلى إيران، ولكن موقف موسكو وبكين في جلسة مجلس الأمن الأخيرة كان أكثر إيلاماً”. وعلينا أن نستعيد التاريخ قليلاً فالاتحاد السوفييتي السابق في عام 1979 كان أكثر المتريثين وآخر المعترفين بنظام ما بعد الشاه لما يشكله من عامل عدم استقرار في خاصرته الجنوبية. وكذلك الصين فهي من أكبر مستوردي النفط الخليجي وصار لها مصالح واسعة في المنطقة.هذه هي معادلة المصالح وعوامل الجغرافية السياسية، لا تتحمل الكثير من الحماسة الإيديولوجية، ودائماً هي الأكثر ثباتاً والأقل تغيراً من الإيديولوجيات والأنظمة السياسية والحكومات.

ضمن هذه الإطار، يمكن النظر إلى أحداث اللحظة الراهنة في المنطقة، وضمنها يمكن النظر إلى أي حد يكون شعبنا قادراً على تحمل أوزار وتبعات التحالف مع النظام الإيراني وخطابه المتطرف غير الواقعي وغير العقلاني. ليس نحن فقط الذين نقول ذلك ، فقيادي بارز من أهل البيت (آية الله روحاني) القريب من رفسنجاني، يعلق حول السياسة الخارجية الإيرانية فيقول: ” ما يعبر عنه نجاد ليس سياسة خارجية!!…. و”خطابه ومواقفه تعرض شعبنا وأمتنا للكثير من المخاطر. إن السياسة الخارجية تحتاج إلى المرونة والتوازن والتروي…”. وكذلك خاتمي الرئيس الإيراني السابق يعلق فيقول: ليس كل ما يقوله نجاد آت من عند الآلهة”.. ومن جانب آخر لننظر إلى المفاوضات بين الولايات المتحدة وهذا النظام وفي بغداد بالذات، فهذا الرئيس (المعادي جداً للأميركيين) يزور العراق ويتجول فيه ويصلي في مساجده تحت حماية الجيش الأميركي والحكومة العراقية المتهمة بعمالتها للأميركيين، وهل يا ترى كان يستطيع زيارة العراق قبل استئذانهم ؟؟ يجب ألا نقلل من حجم البراغماتية الإيرانية ومن إمكانية التغيير الداخلي في إيران.

في اعتقادنا لصالح سوريا، بموقعها الجيوسياسي ا في قلب العالم العربي وفي الجنوب من تركيا، أن تبحث دائماً عن مواقف سياسية أكثر اعتدالاً وتوازناً وانسجاماً مع قدراتها الحقيقية والموضوعية. وتبقى المصالحة مع العرب على علاتهم، توفر الكثير من المخاطر على شعبنا السوري في المرحلة الدرامية الراهنة. وفي الواقع يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن مواطننا لم يعد يصدق اسطوانة (الدول الرجعية والدول التقدمية) التي كانت سائدة في القرن الماضي. وهو اليوم لا يرى من صالحه الأخذ بالتصنيف الماضوي الذي كان سائداً أيام الحرب الباردة إما مع.. وإما مع. وليس من صالحه تضييع نصف قرن آخر في أتون حرب باردة إقليمية جديدة. إن المعايير التي تهمه الآن: ما هو حجم حرية الفرد؟ ومدى سيادة القانون؟ وما هي الحريات السياسية والمدنية التي بحوزته؟ وما هي نسبة الفساد ونهب المال العام؟ وكم متوسط دخل الفرد السنوي؟ وكم سرعة وأجر الأنترنت؟ ونسبة المواقع الألكترونية المحجوبة؟ وقدرة الفرد على الاتصال مع العالم من الوطن الذي يعيش فيه؟

-3-

طبعاً لا يمكننا عزل السياسة الخارجية عن واقع السياسة الداخلية، فالمستويان متداخلان. إن عدم إقدام السلطة في سوريا على أي تغيير سياسي داخلي، وإصرارها على مواصلة قمع الشعب ومنعه من المشاركة في ساحة الشأن العام ينعكس جدياً على هذه السياسة، وقد أبعدها كثيراً عن المواقف السياسية الخارجية المتوازنة والعقلانية. إن عدم مشاركة الشعب عبر هيئاته التمثيلية المنتخبة بحرية، هو الذي أوصل السياسة السورية إلى هذا الدرك. وكلنا نعرف أن مجلس الشعب الصوري و(الجبهة الوطنية التقدمية) لا يسهمان في صنع القرارات السياسية، لا الخارجية ولا الداخلية، فهاتان المؤسستان التابعتان تقومان بدور المتلقي والمروِّج الإيديولوجي لقرار الحاكم وليس بدور المشارك في صنع القرار، ومن منا لا يعرف قصة قرار رفع أسعار البنزين؟ فبينما كانت لجنة من أعضاء مجلس الشعب تدرس مسألة المحروقات من أجل التوصل إلى حلول تقترحها على الحكومة وإذ تفاجأ بصدور القرار للتنفيذ الفوري من الإذاعة والتلفزيون!.

إن السلطة السورية يبدو أنها مصرة على أن تمشي على خطى الأنظمة الشمولية السابقة، فهي تلجأ كلما اشتدت عزلتها إلى تضييق الخناق على شعبها والقوى السياسية المعارضة. وهذا ما يجري في الظروف الراهنة الخطيرة التي تمر بها سورية. ففي الوقت الذي هي بأمس الحاجة إلى دعم كل القوى السياسية والمدنية في الداخل نراها منهمكة في حملة اعتقالات على قوى إعلان دمشق التي تدعو إلى التغيير الديموقراطي السلمي، وإلى تأمين عتبة هادئة لانتقال سورية إلى الديموقراطية.

وبالإضافة إلى ما يعانيه شعبنا من قمع واعتقال وكم للأفواه، فهو يكابد من أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة تلقي بأوزارها وأعبائها عليه. فعدا عن سيطرة الفساد على المجتمع بشكل شامل، هناك ارتفاع جنوني في الأسعار، وأزمة بطالة تشمل كل فئات المجتمع، وأزمة سكن خانقة، وأزمة مواصلات ونقل، وقضايا الاستملاك غير العادل لأراضي المواطنين صارت تزكم الأنوف. حيث يدفع لأصحابها أسعاراً زهيدة جداً، ثم يتاجر بها بأسعار فاحشة لجني الملايين والمليارات، وكذلك مشاكل التعدي على الآثار والتراث الوطني، وانهيار مستوى التربية والتعليم، إلى ما هنالك من القضايا والمشاكل والهموم التي يعاني منها شعبنا في مختلف المناطق، وفي المدن والأرياف على السواء. ويبدو أن هنالك ملامح أزمة عامة تطال كل مستويات ومجالات البنية الاجتماعية السورية.

ويبدو انه لم يعد بمقدور السلطة وجهازها الإعلامي والإيديولوجي التعتيم على تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، فقد بدأ يظهر فيضها وتتفجر فضائحها هنا وهناك في صحف السلطة وحواشيها. ويبدو أيضاً أن نضوب الاقتصاد الانتاجي في مؤسسات القطاع العام وخساراته الهائلة، قد انعكست على شرائح المنتفعين بالنظام، سواءً على مستوى حلفائه وأجهزته النقابية البيروقراطية أو حتى على مستوى “حزب البعث الحاكم ذاته”. فقد تقلصت شرائح المنتفعين في محيط السلطة لصالح زيادة الحصص في مركزها. فالثروة المقتطعة من جيوب الشعب، سواء من اقتصاد النفط المتراجع، أو من الضرائب المباشرة وغير المباشرة، فهذه الثروة لم تعد كافية لإرضاء كل حواشي النظام. وربما هذا السبب الذي يزداد تبلوراً يوماً عن يوم، هو الذي يجعل الفساد الصغير والمهن الهامشية أكثر انتشاراً على المستوى الأفقي في المجتمع، و الفساد الكبير الأكثرعمقاً وخطورة على المستوى الشاقولي.

إن محاولة عزل الأزمة الاقتصادية عن الأزمة السياسية ثبت فشلها تماماً، وكذلك الحال إن محاولة النضال الاقتصادي المجرد من عمقه السياسي يبقى قاصراً ولا يحدد مكامن المرض. وقد وصَّف صحافي قريب من السلطة هذه الأزمة بأنها (مجموعة من التحديات الاقتصادية التي تواجهها سورية، يمكن أن تؤثر في الاستقرار الأمني والاجتماعي والسياسي، غير أن بعض هذه التحديات ربما يكون أكثر صعوبة إذا لم يعالج بطريقة شمولية وجوهرية).

في جميع الأحوال، ما تقوله وتروجه الصحافة اليسراوية القريبة من السلطة عن الأزمة الاقتصادية، وتحميلها مسؤولية الأزمة للفريق الاقتصادي، و تهويلها وتصويرها لنفوذ هذا الفريق وكأنه شبح مخيف هابط من السماء (يأكل الأخضر واليابس)، ويتصرف دون إذن الهرم السياسي الحاكم، لا يمكن اعتباره إلا انتهازية سياسية بامتياز. وهذا لا يشذ عن القاعدة، فتاريخ النضال الاقتصادي البحت ينتهي بالانتهازية…..

2008/03/13

(من مواد نشرة الرأي 75 شباط 2008)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى