حتى تنهض المعارضة وتحقق التغيير
بدر الدين شنن
كان الانقلاب العسكري الذي قام به الفريق حافظ الأسد في 16 تشرين ثاني 1970 ، هو آخر الانقلابات ، التي شهدتها سوريا ما بعد الاستقلال ، وأكثرها مناعة وا ستدامة . والجواب على السؤال الوارد هنا ، هو أن الانقلابات التي جرت قبل عام 1970 ، باستثناء انقلاب شباط 1954 ،
إلى حد ما ، كانت تتم ضمن إجراءات إعداد القوى العسكرية ، وتوجيه الضربة الكفيلة بإسقاط النظام القائم ، التي كانت تقتصر على السيطرة على مقر قيادة الأركان العامة للجيش والإذاعة والقصر الجمهوري . وفيما يتعلق بالاتصال ببعض الأحزاب والشخصيات السياسية ، للتعاون مع قادة الانقلاب ، لرسم خريطة الحكومة المقبلة والعهد الجديد ، فقد كان ذلك في معظمه يحدث على الأغلب بعد الانقلاب . أما الفريق حافظ الأسد فقد شكل نظامه ، أو معظم نظامه ، ماقبل الانقلاب . فهو ا ستحوذ ، بالإغراءات المالية والسلطوية المتعددة ، على ولاءات كوادر وا سعة من حزبه الحاكم المدنية والعسكرية ، وبنى علاقات وثيقة مع قوى سياسية معارضة أو نصف معارضة ، كانت لها مشاكل سياسية وأمنية مع النظام القائم ، وأقام اتصالات دولية وعربية هامة ، وحصل على دعم كل هذه المستويات ، على خلفية تبنيه مطالب المعارضة بإقامة مناخ سياسي جديد يتضمن نوعاً من الاعتراف بشرعية التعددية الحزبية ، وإقامة جبهة وطنية تقدمية ، وانتخاب مجلس شعب . وكذلك على خلفية تعهده بوضع حد ” للتطرف ” الذي كانت تمارسه وتدعو إليه القيادة السياسية للنظام ، والذي كان يتجلى برفض الاعتراف بهزيمة حزيران 1967 وبقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 ، وتوفير مقومات الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية في مواجهة العدوان الإسرائيلي ، قبل إعلان بلاغ انقلابه رقم واحد .
وعندما أحكم الفريق الإسد قبضته بسهولة ، نتيجة ذلك الإعداد المتكامل قبل الانقلاب ، بادر إلى الاعتراف بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 ، واتجه حثيثاً لوضع أ سس أكثر تماسكاً وأكثر بنيوية لنظامه . وا ستطاع من خلال صفقة سياسية تواطئية مع أحزاب ذات طابع يساري وقومي تم عقدها تحت ظلال وعود بهوامش معينة للنشاط السياسي وللتعددية الحزبية ، ضمن إطار ” الجبهة الوطنية التقدمية ” يحظر بموجب ميثاقها على تلك الأحزاب النشاط السياسي في أوساط الجيش والطلبة ، أن يقيم عقداً اجتماعياً فوقياً في البلاد ، ا ستبدلت فيه الديمقراطية بالتقدمية .. والتعددية بالجبهوية ، وتمحورت فيه قيادة الدولة والمجتمع تحت قيادة حزب البعث الجديد وشخص رئيس الدولة الذي لاحدود لسلطاته المطلقة . وا ستطاع إعادة تشكيل مؤسسات الدولة وفق المعايير المنسجمة مع هذا النمط من العقد الاجتماعي ، وخاصة السلطة التنفيذية وفي مقدمتها القطاع العسكري والأمني . وقد انعكس كل ذلك في متن الد ستور الجديد الراهن وفي ميثاق ” الجبهة الوطنية التقدمية ” الأمر الذي عبد الطريق لإعادة تشكيل البنية الاجتماعية الاقتصادية في البلاد لصالح أهل الحكم ، الذين تحولوا بفترة قياسية من الزمن إلى قاعدة اجتماعية للنظام ، تمنحه بشكل أو بآخر ” الامتداد الشعبي الأفقي والشرعية ” .
ولضمان وحماية النظام وا ستدامته ضد كل الاحتمالات والمعوقات ، دعم الفريق الأسد نظامه ، رغم إ قرار الد ستور الجديد ، بتواصل فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية ، التي تحولت إلى جزء أساسي من السلطة الحاكمة .
ومع هذا النمط من الدولة ومن الجبهة ، تحول الشعب ، بعد انتفاء التعددية موضوعياً وتعسفياً .. وانتفاء الديمقراطية عملياً ومن ثم قمعياً .. وتكرس الاستبداد رسمياً و ” د ستورياً ” تحول إلى موقع الآخر إزاء الحكم وأهل الحكم .. وأصبح الفعل المعارض ضد الد ستور والقانون .
وقد اكتسب الانقلاب .. النظام الجديد .. بتلبيته إملاءات ” الإرادة الدولية ” المتواطئة على ا ستقرار الشرق الأوسط وفق الحدود السياسية وموازين القوى القائمة ، وبفرضه العقد الاجتماعي الجديد ، وتفصيل مؤسسات الدولة حسب رغباته وسلطاته المطلقة ، اكتسب إلى حد كبير ، القوة والبنيوية السلطوية التي أراد ، والتي ازدادت من خلال التصادم العنفي مع القوى الإسلامية السياسية ، منذ أواسط السبعينات إلى أواسط الثمانينات من القرن الماضي ، تماسكاً وقوة .. بل وبلغ ، من خلال منهجية القمع الشاملة المتواصلة ، ذروة الهيمنة والشمولية .
لم تغير الانقسامات التي حدثت في أوائل السبعينات في الأحزاب المنضوية تحت قيادة حزب البعث في ” الجبهة الوطنية التقدمية ” في شيء ذي تأثير هام في المشهد السياسي ، إلاّ بعد مجزرة المدفعية بحلب في حزيران 1979 ، التي د شنت صراعاً دموياً بين الاخوان المسلمين والنظام ، الذي كانت أحداث حماة خلاله عام 1982 الأكثر بشاعة ودموية . حيث تجمعت الأحزاب الجديدة في تحالف ” التجمع الوطني الديمقراطي ” . وأصدرت ميثاق تحالفها بنفس العام . وبذا يطرح لأول مرة في عهد الأسد الأب خطاب سياسي تحالفي معارض ، يتضمن التركيز على الديمقراطية وعلى التغيير الوطني الديمقراطي . ولأول مرة ينشأ إجماع خارج النظام على عدم القبول با ستدامة النظام بشكله ومضمونه القائمين ، بل وينخرط النظام مضطراً في النقاش ، حول إيجاد مخرج للأزمة الخطيرة التي تعصف بالبلاد . حيث شكل النظام في ايلول 1979 لجاناً تمثل ” الجبهة الوطنية التقدمية ” برئاسة قيادات من النسق الأول في الحزب الحاكم ، للقاء مختلف الفعاليات والقوى السياسية خارج النظام . وجرت لقاءات سياسية ونقابية في مختلف المحافظات . بيدأن النتيجة التي تم التوصل إليها هي رفض اللجان المذكورة للديمقراطية مخرجاً يؤمن الحل الصحيح للأزمة واعتبارها فخاً لإسقاط النظام . وفشل الحوار .
ومر نحو ثلاثة عقود شهدت سوريا خلالها ، تصفية سياسية ، تخللتها تصفيات جسدية ، للقوى التي تصدت للنظام أو طالبت بدمقرطته . كما شهدت تمرساً مهنياً وتوسعاً للأجهزة الأمنية كاد أن يتفوق عالمياً بالخبرة والتحقيق المتوحش على مثيلاتها في بلدان أخرى عريقة في هذا المجال اللاإنساني . كما شهدت أيضاً ، ا ستناداً إلى ماتقدم ، تحولات وتمايزات طبقية في البنية الاجتماعية الاقتصادية ، مكنت أهل الحكم من تبوأ قيادة حقل الاقتصاد إضافة إلى حقل السياسة .
بكلام آخر ، أن النظام ، الذي جاء به انقلاب 1970 ، الذي أعاد تشكيل السلطة والدولة والبنية المجتمعية عامة ، وأقام نظاماً شمولياً ، لم يترك في المجال فرصة للتغيير الانقلابي العسكري التقليدي ، أو فرصة لاستبداله بنظام ديمقراطي تعددي بأساليب معارضة تقليدية . ما معناه ، أن تغيير نظام بهذه البنية والتعسف يحتاج إلى بناء معارضة قابلة للتطور إلى مستوى مكافئ لقوة النظام .. وليس إلى مواقف وشعارات معارضة . وهذا البناء له أ سسه الشعبية .. وله هيكليته التنظيمية المرنة القابلة للتجديد والتبديل حسب المستجدات والمهام المطروحة .. وله سياسته المغايرة الشفافة .
وإذا ما ا ستعرضنا سيرورة الحراك المعارض في المراحل السابقة ، باستثناء مرحلة العنف الفاشلة ، فإننا لانجد بناء .. أو بناء جيداً .. للمعارضة على أي مستوى من المستويات . فالمعارضة حتى الآن لم تجد ، وهذا هو الأهم ، السبل التي تؤمن لها التموضع والحركة في المجال الشعبي ، بل لم تحدد علمياً بعد الحامل الاجتماعي لبرنامج التغيير . وما زال رهانها على الطبقة الوسطى المتهالكة أو المفقودة ، وعلى النخب الثقافية والسياسية ، مع احترامنا العميق لجهودها وتضحياتها ، ولم تبن هيكلية تنظيمية مستقرة مطابقة لطبيعة المواجهة الشرسة مع النظام ، وليس لها سياسة واضحة مغايرة لسياسة النظام ، ماعدا مسألة الديمقراطية وتداول السلطة ، لاسيما في مسائل الاقتصاد عامة واقتصاد السوق وآلام اقتصاد السوق خاصة ، وكذلك العلاقات مع الخارج وأميركا تحديداً . ففي الوقت الذي تحمل فيه النظام مسؤولية التدهور الاقتصادي والغلاء والفساد ـ تعيب عليه عدم مصداقيته في لبرلة الاقتصاد ( اقتصاد السوق ) ، وتلزم الصمت إزاء التوجهات والأساليب المتبعة لتصفية القطاع العام الانتاجي والخدمي ، وفي الوقت الذي تستهجن فيه بحث النظام الدؤوب عن إرضاء أميركا عبر صفقات معينة لتأمين مصالحه وديمومته ، لاتخفي ، بل ويحبذ بعض رموزها علناً العلاقة مع مجرمي الحرب في الإدارة الأميركية ، ضمن تحليل التحالف مع الخارج ، وذلك ليس تعويضاً عن النقص في القدرة الذاتية على التغيير الصعب في البلاد فحسب ، وإنما انسجاماً مؤدلجاً من قبل هذا البعض مع موضة العولمة المفخخة بمصالح الاحتكارات العالمية المنتشرة في الوقت الراهن . ما أدى ويؤدي إلى تسويغ الاعتقاد لدى قطاع شعبي متزايد ، أن ما يجري من صراع بين معارضة تحمل هذه العقلية والخطاب وبين النظام ، ليس هو صراع بين حرية وا ستبداد .. بين ظلم وعدالة .. ألخ .. وإنما هو صراع حول تداول للسلطة والمصالح .
وهذا ما يفسر حالة مايشبه الشلل التي تصاب بها المعارضة عندما يتم اعتقال عدد من النشطاء .. وما يفسر ا ستئساد الأجهزة الأمنية على المعارضة والمجتمع برمته .
وتكراراً لما ذكره كاتب هذه السطور في أكثر من مقال سابق ، فإن واقع حال المعارضة يتطلب الانتقال إلى مرحلة جديدة ، تنتفي فيها كل شوائب المراحل السابقة ، إن في مضامين الخطاب السياسي ، الوطنية والديمقراطية والاجتماعية ، أو في أ شكال البناء التحالفي الديمقراطي المطابق ، أو في تحديد الحامل الاجتماعس لبرنامج التغيير .. وعلى الأصح تحديد لمصلحة من سوف يكون التغيير .
وفي هذا السياق لاغنى عن التأكيد ، على أن تاريخية الرموز الكاريزمية لاتغني عن الجماهير وعن دورها .. ولاتحل التصريحات والموافقف الارتجالية الفردية محل الخطط والبرامج التي تقررها الهيئات والمؤتمرات .. وإن خدمت ، ا ستثناء ذات مرة المعارضة وقضاياها المشتركة .. فإنها كقاعدة تلحق وألحقت الأذى بالمعارضة وبقضاياها .
لقد كابدت المعارضة السورية ، بمختلف فصائلها وتحالفاتها ، سنين طويلة من التجارب المريرة والقمع والآلام . وقد آن الأوان أن تستفيد فصائل وتحالفات أيضاً من دروس تلك التجارب ، وأن تقدم على إجراء تغيير نوعي متقدم ، يشتمل على التنظيم والحركة والخطاب السياسي .. حتى تنهض وتتجدد وتشق الطريق لانتصار القضايا العادلة التي تناضل من أجلها .. كل الظروف الموضوضوعية مهيأة لاحتضان هذا التغيير .. في البنية الذاتية وفي البلاد عامة
الحوار المتمدن
2008 / 3 / 14