الربيع الكردي وثقافة رفض الإسكات
جهاد صالح
في ربيع آذار عام 1986 تظاهر مئات المواطنين الكرد أمام القصر الجمهوري بدمشق لأجل السماح لهم بالإحتفال بعيد نوروز القومي. فما كان من حرس حافظ الأسد إلا أن أطلقوا النار عليهم ليقتل سليمان آدي كأوّل شهيد كردي في تاريخ الحركة السياسية الكردية المعارضة في سوريا،
وليصبح شهيداً لنوروز. حينها عمت مظاهرات قامت في دمشق وإمتدت إلى مدينة القامشلي حيث حدثت اصطدامات مع قوات الأمن والبوليس. هذه كانت أول بذرة في أرض الوطن الخصب لأجل بلورة ربيع مستقلبي لسوريا يحلم فيه الكردي السوري بوطن حر ديمقراطي عادل.
أثبت الربيع الكردي استمراريته وزحفه نحو قطف الورد والحياة الكريمة، حينما قام حزب يكيتي الكردي في سوريا بتوزيع منشور في عام 1993 لأجل وضع حد لمأساة المجردين الكرد من الجنسية السورية، وإطلاق الحريات العامة وإشاعة الديمقراطية. وزع المنشور في جميع المحافظات السورية وكان الرد السلطوي عنيفاً، إذ اعتقل نحو ألفي ناشط من حزب يكيتي، وتمخضت الإعتقالات عن محاكمة 24 معتقلاً بمدد ترواحت بين 3 إلى 5 سنوات وإطلاق سراح الباقين.
بعد إستلام بشار الحكم في سوريا، كان هناك ربيع دمشقي آخر يسعى لأن يزحف على تراب الوطن لكنه قُمع في المهد مبكّراً، لكن الربيع الكردي عاد من جديد يوم 10/12/2002 في ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان، حينما تظاهر يكيتي من جديد وحيداً أمام البرلمان السوري كأول مظاهرة يكسر فيها حواجز الخوف ضد آلة الإستبداد والقمع وبشكل منظم ومعلن عنه قبل شهرين من تنفيذ التظاهرة.
حاولت السلطة إبعاد المتظاهرين عن تحركهم والاستعاضة عنه بالحوار، لكن الحزب المذكور رفض مشترطاً لقاء الأسد الأبن وطرح المطالب الكردية أمامه مباشرةً. ماطلت السلطة كعادتها فتظاهر الحشد وجرى توزيع أكثر من ألفي بيان داخل شوارع دمشق، مطالبين بالديمقراطية لسورية ووقف إنتهاكات حقوق الإنسان وحل القضية الكردية في سوريا حلاً ديمقراطياً عادلاً وإطلاق سراح السجناءالسياسيين. نتيجة ذلك اعتقل قياديان من حزب يكيتي وهما (حسن صالح ومروان عثمان) وليحاكما بخمس سنوات سجنا مع تخفيض الحكم إلى سنتين وحرمانهما من جميع حقوقهما.
هذه التظاهرة التاريخية أدخلت المعارضة الكردية في منحى سياسي جديد، دفعت بالقوى السورية المعارضة إلى أن تحذو حذوها ولتنتشر في الوطن “ثقافة التظاهر” وإستمرت الاحتجاجات والتظاهرات بشكل هرمي وديناميكي.
في شباط 2004 تظاهر أكثر من عشرة ألاف كردي في مدينة القامشلي أثناء إستقبالهم لمعتقلي تظاهرة البرلمان، اللذين خرجا من السجن ولتتحول التظاهرة إلى غضب جماهيري حمل بين مدلولاته رسالة إلى السلطة تقول إنه لا يمكن للحق وللحرية أن يظلا قيد الصمت والخنوع. بعدها بأسابيع أثمرت تلك الكرنفالات البرتقالية عن مناخ سياسي ونفسي عبرّت فيه الجماهير الشعبية عن إرادتها بعفوية وقد برزت أسمى تعبيراتها في الانتفاضة الكردية في آذار 2004، في ربيع كردي عارم زحف خلال لحظات إلى حلب ودمشق والرقة، وسجل النظام بالرصاصة في تاريخ الزمن والمكان جرائم وفظائع كانت حصيلتها اعتقال 15000 مواطن وقتل 42 شاباً وإمرأة.
لم تستطع لغة العنف والقمع أن تقف في وجه ثقافة التظاهر الديمقراطي السلمي لتظل الانتفاضة مشتعلة لمدة أسبوع انتهت بطلب السلطة الحوار مع الأحزاب الكردية، التي طالبت بإنهاء مأساة الأكراد وحل قضيتهم داخل حدود الوطن وفق القوانين ومواثيق حقوق الإنسان، ووعدت السلطة بتحقيق ذلك لكنها حتى اللحظة، لم تنفذ أي شيء.
الربيع الكردي في القامشلي ظل مستمراً رغم سياسات التنكيل والقمع والقتل والاغتيال.
في حزيران 2005 اغتيل الشيخ معشوق الخزنوي بعد خطفه من قبل المخابرات السورية وتصفيته داخل الأقبية المظلمة، ولينتشي الربيع من جديد عارماً حيث تظاهر أكثر من مليون كردي في شوراع القامشلي، يسيرون في جنازة شيخهم بشجاعة ويهتفون بالرفض للموت وللذل وللقهر، ولتستمر الحياة هكذا مابين زحف الربيع الجماهيري ومحاولات وأد الربيع قبل أوانه من قبل النظام وأجهزته البوليسية.
بعدها بأيام قامت تظاهرة في القامشلي (5 حزيران 2005) قادها حزبا “آزادي ويكيتيي” طالبا فيها بتحقيق عادل ومحَايد في قضية خطف وإغتيال الخزنوي، وقمعت التظاهرة بشدة وضرب الأطفال والنسوة، واعتقل 62 شاباً مازالوا يحاكمون أمام القضاء العسكري، ويستمر زحف الربيع وتتعالى الأصوات المنتفضة يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر حتى رسو سفينة الحرية على شواطئ الوطن سوريا.
إن الانتفاضة الكردية حملت معها الكثير من المعاني والقيم الاجتماعية والسياسية، ووصل المواطن الكردي في سوريا إلى قناعة أن النظام بأدواته الأمنية والقمعية أغلق جميع الأبواب والحلول لقضيته داخل سوريا ولملف الإصلاحات والتغيير الديمقراطي الوطني فيها، وهذا ماشكّل داخل الشارع الكردي حالة من عدم الصمت أمام سياسات الإرهاب والصمت في وضح النهار، ومن ثم ليلتقي الربيعان معاً ربيع دمشق وربيع قامشلي في تظاهرات دمشقية ضد قانون الطوارئ وضد انتهاكات حقوق الإنسان ولأجل إشاعة الديمقراطية والحريات داخل الدولة. وما ساعد في تنامي ثقافة الرفض وإستمرارية الاحتجاج وصرخات الحرية في مختلف أرجاء سوريا هو إستمرارية نهج النظام التوتاليتاري الفردي، وأيضاً زيادة حدة القمع والبطش في حق المواطنين السوريين في جميع مناحي الحياة. وقد شهدنا صرخات جماهيرية ترفض الظلم وخاصة في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، والتي جاءت كتظاهرات احتجاجية ضد عمليات التزوير والإملاءات المخابراتية وكبت حرية التصويت والإقتراع وذلك في محافظات الحسكة ودير الزور والرقة وحمص ودمشق واللاذقية.
أثبتت ثقافة الحرية ورفض الظلم شجاعتها وأن الربيع مازال حياً لم يمت. ظهر ذلك في مسألة رئاسة الجمهورية، حين رفض الشعب السير وراء الوريث بهذه الصورة التبعية البعيدة عن الحرية الديمقراطية وإرادة الشعب في اختيار ممثليه، فكانت نسبة المصوتين 5% من عدد سكان سوريا البالغ 20 مليون نسمة؟!
مابين الربيعين حكاية وطن وشعب وقضية حرية، ولا يمكن لكل سياسات الوأد والموت والاغتيال والاعتقال بحق النشطاء من قوى إعلان دمشق والنشطاء الكرد، أن تحطم وتقتلع جذور الورد أو تقطفه من تراب الوطن، مادام ذلك الربيع وذلك الورد قد سقي بدماء أبناء الوطن وحريتهم بعربه وكرده وكلدانه وأشورييه وجميع من يقدس الوطن ويعشق ترابه.
الربيع يزحف بهدوء وصمت جميل وجموح غاضب، والريح تحمل عبر الحدود وماوراء القضبان كرنفالات لوطن اسمه سوريا. وطن ديمقراطي تعددي ومستقل وكلنا أمل ان نشهد ربيعا سوريا دائما في آذارنا القادم.
المستقبل – الاحد 16 آذار 2008