نفاق الغرب: نكوص عن قيم الحداثة
د. برهان غليون
بنيت ثقافة الغرب الحديث بأكملها على أخلاقيات الاستقامة والصراحة والصدق والشفافية، التي يعززها الاعتراف بشرعية اختلاف المصالح بين فئات المجتمع، وشرعية الاختلاف في الاعتقادات والآراء والأفكار ووجهات النظر. وكان لهذه الأخلاقيات الجديدة تأسيس حياة مدنية قائمة على مبادئ والمساواة والعدالة والاحترام المتبادل،
وفي بناء حياة سياسية ديمقراطية قائمة على التنافس النزيه ونبذ التسلط والعنف بين أفراد المجتمع وفئاته المختلفة… وبالتالي نشوء مفهوم السياسة والوحدة الوطنية، بل بروز الوطنية نفسها كمفهوم وممارسة، وتطور مفهوم الدولة ووظائفها، واستقرار المجتمعات. فبفضل هذه الأخلاقيات، لم يعد إنسان المجتمعات الغربية، فرداً كان أم مجموعة، بحاجة إلى اللف والدوران والكذب والغش والخداع، حتى يضمن حقه في الوجود المختلف، ويحفظ مصالحه. وبالعكس، كان علم الحيل والاحتيال في ماضي ما قبل الحداثة، السلاح الوحيد الذي يسمح بتعديل منطق القوة ذي الاتجاه الواحد، وبإدخال عناصر أخرى، من ذكاء ودهاء وحنكة ومناورة، في معادلة العلاقات الاجتماعية والدولية وميزانها.
بيد أن ما كانت ثقافة القرون الوسطى السياسية تختزنه، في كل المجتمعات، من إرث الحيلة والاحتيال، وما سيتخذ في ما بعد -خطأ- اسم “الميكيافيلية” نسبة لذلك المفكر الذي أخرج السياسة من منطق العقيدة وألغى الحاجة إلى الخداع والاحتيال، جاعلاً منهما جزءاً من خطط أكبر للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها… لن يزول من الوجود. إنه سوف ينمو ويتجمع ليتحول إلى مادة أساسية في نظام توجيه الممارسة التي طبعت ولا تزال تطبع علاقة الدول الغربية بالمجتمعات والبلاد الأخرى. فعلى هذا الإرث من القيم سوف تستند الممارسة الاستعمارية التي أوقعت بالشعوب، وأدخلتها في شراكها، وأخضعتها لمصالحها وأهدافها، من دون أن تتخلى لحظة في خطابها، أمام الآخرين أو أمام جمهورها، عن مديح الحرية والمساواة والعدالة الإنسانية. وفي قلب هذه الممارسة القائمة على الخداع وبموازاتها يتحول النفاق إلى ممارسة كاملة، تقول غير ما تفعل، وتعلن غير ما تضمر، وتعد بغير ما تقرر. وهذا وحده ما يفسر كيف أمكن لأصحاب المشروع الاستعماري أن يجمعوا بين خطاب الإنسية وتلك الممارسات الوحشية التي رافقت وضع اليد على أراضي القارات المختلفة، وتحويل شعوبها على مدى عقود طويلة، إلى عبيد أو ما يشبه ذلك، أي أن يجمعوا بين منطق الدفاع عن تحرر الإنسانية وانعتاقها والسقوط في بربرية العنصرية والإبادة الجماعية.
لم أذكر ذلك لأكشف عن أحد مظاهر العطب والنقص الذي لا يزال يميز الحداثة ويفسر موجة الاحتجاج والارتداد العنيفة عليها وعلى قيمها، في مناطق واسعة من المعمورة، وليس في البلاد الإسلامية فحسب، وأعني بهذا العطب استمرار قيام العلاقات الدولية بين المجتمعات على أسس “ميكيافيلية”، تضعف من صدقية قيم الحرية والمساواة والعدالة التي تؤسس جوهر الحداثة فحسب. ولم أذكره أيضاً لأشير إلى المأساة التي نجمت عن انتقال هذا الإرث الاستعماري نفسه إلى النخب المحلية السائدة في البلاد التي استعمرت سابقاً، وتبنيها له ولقيمه بالجملة. إن ما ذكرني به هو ما جرى ويجري في غزة ومن حول مأساتها، والذي يشكل هو نفسه امتداداً لما جرى في المشرق العربي من ممارسات أدخلت الشرق الأوسط بأكمله في متاهة لا مخرج منها، وتهدد بتقويض أسس السلام العالمي نفسه. ولا أقصد هنا الإشارة إلى السياسات الاستعمارية القديمة التي لا تزال هنا راهنة، وإنما إلى الطريقة التي نظر بها الغرب، وأعني هنا بالغرب الحكومات والرأي العام معاً، ولا يزال ينظر بها إلى المسألة الفلسطينية، والتي نشأت من رميه بنتائج سياساته العنصرية تجاه اليهود على العرب، وعلى الفلسطينيين منهم بشكل خاص.
كيف تعلن الحكومات الأوروبية تأييدها للحقوق الفلسطينية، دون أن تعاقب إسرائيل، بل تحتفي بها وتجعلها ضيف الشرف في المناسبات الدولية؟!
فكيف نفسر، من دون هذا النفاق، نجاح إسرائيل التي ما كان من الممكن أن تقوم ولا أن تبقى، باعتراف قادتها أنفسهم، من دون احتضان الغرب ودعمه السياسي والأخلاقي والعسكري، في المراوغة المستمرة وتحدي “إرادة” الغرب الذي يدعي الالتزام بالسلام والتسوية العادلة للقضية الفلسطينية؟ وكيف تعلن الحكومات الأوروبية تأييدها للحقوق الفلسطينية، كما تقول، دون أن تتخذ أي عقوبات ضد الدولة العبرية، بل على العكس من ذلك، تحتفي بها في المناسبات الدولية وتجعلها، كما هو الحال هذا الشهر في فرنسا، ضيف الشرف على معرض الكتاب العالمي، رغم ممارساتها اللاإنسانية، حسب عبارة منظمات حقوق الإنسان الدولية، في غزة وغيرها من المناطق الفلسطينية؟ كيف نصدق أنه، لا الولايات المتحدة ولا أوروبا ولا روسيا ولا غيرها من الدول الكبرى الصديقة والقريبة لاسرائيل، وكلها تدعي الإخلاص لقيم الحرية والعدالة والمساواة، والصداقة للعرب والمسلمين أيضاً، لا تملك أن تتخذ أي إجراء لثني إسرائيل عن ممارساتها العنصرية وحثها على الدخول في منطق السلام والتسوية السياسية؟
ما الذي يمكن أن نحسه غير الإحباط، أو أن نراه في هذه المواقف غير النفاق؟ وعود تتكرر ولا تنفذ منذ قرن، ومبادرات سلام، أميركية أو أوروبية، تتوالى دورياً دون جدوى، ومؤتمرات دولية تعقد وتموت دون أن تكترث إسرائيل لقراراتها، وموائد حوار تنظم من دون ثمرة ولا إنجاز، ومشاورات عالمية لا تتوقف، ومباحثات تعددية أو ثنائية يقوم بها مبعوثون للشرق الأوسط لا تثير حتى فضول الصحافة المحلية، ومفاوضات لا تنتج غير البيانات المنمقة التي لا تهدف إلا إلى خداع العرب وتسكين غضب الرأي العام! إلى متى سيحتمل العرب مهزلة السلام الموعود، الذي أخذ الغرب ثمنه سلفاً بدمج الدول العربية في الحرب ضد الإرهاب، ولهاث حكوماتهم وراء سراب حلول ومبادرات، يعرف الجميع أن هدفها الفعلي ليس هدفها المعلن، وهي لا تفيد إلا في إعطاء إسرائيل مزيداً من الوقت لتحقيق أهدافها، مع مراعاة مصالح النظم العربية وحفظ ماء وجهها، وتصبير الفلسطينيين على جراحهم وآلامهم، بانتظار أن تتحقق الغاية، ويصبح لا مناص لهم من الاعتراف بعدم وجود أية إمكانية لإقامة دولة فلسطينية بالمعنى الحقيقي للكلمة، والقبول نتيجة ذلك بما قسم لهم، أي بمجموعة من المعازل المقطوعة والمعدمة داخل “إسرائيل الكبرى”، حتى لو أطلق على هذه المعازل اسم دولة، وربما جماهيرية عظمى.
ثم ما الفائدة من ترديدنا التحليلات نفسها، والتذكير بالمسؤوليات، والتحذير من النتائج، مادامت سياسة الخداع والكذب والغش مستمرة، وطالما لم تدرك الحكومات ورأيها العام، في الغرب والدول الصناعية الكبرى والعالم أجمع، أن قيم الحداثة الإنسانية ليست نهائية ولكنها قابلة للارتداد، وأن خيانتها المستمرة، على أي مستوى من مستويات العلاقات الاجتماعية والدولية، ومن قبل أي طرف كان، تقود لا محالة إلى النكوص الجماعي عنها، بما يعنيه ذلك من تعميم مشاعر الشك والخوف وقيم العنصرية والعدوان، والتهديد بتوسيع دائرة حرب عالمية بدأ فتيلها يشتعل بالفعل، منذ الآن، في أكثر من بقعة من بقاع المعمورة.
سورية واللائحة الامريكية لحقوق الانسان
سحبت الولايات المتحدة الامريكية الصين عن لائحتها السوداء لاسوأ منتهكي حقوق الانسان، واضافت اليها سورية والسودان واوزبكستان، وفق التقرير السنوي حول حقوق الانسان الذي نشرته وزارة الخارجية الامريكية، الامر الذي يؤكد شكوك الكثيرين بان الادارة الامريكية تسيس هذه المسألة، وتستخدمها كورقة ضغط علي الدول التي تعترض علي سياساتها.
سجل سورية في مجالات انتهاكات حقوق الانسان لا يمكن الدفاع عنه، فالسلطات السورية تعتقل المعارضين السياسيين بصورة شبه يومية، وتزج بهم في السجون لاشهر واعوام دون تهم حقيقية، وبعضهم ينتقل الي الرفيق الاعلي دون ان يحظي بمحاكمة او يعرف التهم الموجهة اليه، ولكن سجل الولايات المتحدة الامريكية نفسها اسوأ بكثير من نظيره السوري، ليس فقط لان الولايات المتحدة دولة ديمقراطية تتزعم العالم الحر، وانما لان هذا السجل حافل بالانتهاكات المخجلة والمثبتة عالميا.
فالتعذيب الذي تعرض له السجناء العراقيون في سجن ابو غريب، والطرق البشعة التي استخدمت في اذلال هؤلاء وكسر آدميتهم موثقة بالصور، اما عن معتقل غوانتانامو في كوبا وما يتعرض فيه المعتقلون من اهانات وتعذيب علي مدي السنوات السبع الماضية فحدث ولا حرج.
التقرير الامريكي السنوي حول حقوق الانسان بات مثالا علي النفاق وازدواجية المعايير، فتصنيف الدول علي سلم هذا التقرير ارتفاعا او انخفاضا، يعتمد علي مدي قرب الدولة المعنية من السياسات الامريكية او ابتعادها. فالدول الصديقة للولايات المتحدة المنخرطة في مشاريعها الاحتلالية يذكر اسمها علي استحياء شديد في ذيل التقرير، اما تلك المعارضة لها وسياساتها في احتلال العراق وافغانستان ودعم العدوان الاسرائيلي فتتصدر القائمة.
اسم سورية جري حذفه من قائمة الدول الارهابية عندما ايدت وجود نصف مليون جندي امريكي في الجزيرة العربية تحت عنوان تحرير الكويت، وجري حذفه مرة اخري من لوائح انتهاك حقوق الانسان، او جري ذكره بخفر شديد، عندما تعاونت بالكامل في الحرب الامريكية علي الارهاب.
الآن تغيرت الصورة، واصبحت سورية الدولة الاسوأ انتهاكا لحقوق الانسان لانها رفضت انتخاب رئيس للبنان وفق الشروط والمواصفات الامريكية، ودعمت حركات المقاومة الاسلامية في كل من فلسطين ولبنان (حماس والجهاد وحزب الله) وعارضت الضغوط الامريكية للقتال الي جانب القوات الامريكية ضد جماعات المقاومة العراقية.
القائمة الامريكية السنوية حول حقوق الانسان باتت نكتة سمجة لا تضحك احدا، خاصة بعد الاحتلال الامريكي للعراق وما سببه من كوارث لاكثر من سبعة وعشرين مليون عراقي، فقتل مليون عراقي وتشريد خمسة ملايين علي الاقل، واشعال نار الفتنة الطائفية والحرب الاهلية، والتستر علي جرائم التطهير العرقي هي اسوأ جرائم حقوق الانسان في التاريخ الحديث.
وانتقادنا للولايات المتحدة وسجلها المخجل في هذا الصدد لا يعني اننا ندافع عن الانتهاكات التي تمارسها الحكومات العربية، فمن اسباب تخلفنا كعرب ومسلمين، وضياع ثرواتنا، واستهتار الامم بنا هي اهدار آدمية المواطن، ونزع انسانيته وحرمانه من ابسط حقوقه في العيش الكريم.
القدس العربي
12/03/2008