عشية انتخابات اميركية معولمة
كلوفيس مقصود
بعد يومين يتم انتخاب أحد المرشحين للرئاسة الاميركية جون ماكين او باراك اوباما. وهذا الانتخاب ليس مجرد التزام لوجوب انتخاب رئيس بل لحظة مفصلية كونها تسلط الضوء على معركة هي عالمية الابعاد والنتائج. وعلى رغم مركزية الدور الاميركي في العلاقات الدولية، فأن طبيعة الاخطار التي يعيشها العالم جعلت نتيجة هذا الانتخاب اكثر التصاقاً بمعاناة الشعوب وآمالها ومقتضيات تلبية، او عرقلة، احتمالات السلام والامن الدوليين وتأمين الحقوق للانسان وحاجات المجتمعات الى التسريع في التنمية بكل ابعادها واتخاذ خطوات مدروسة لازالة الفجوات المتكاثرة بين عالمي الشمال والجنوب.
وتعود مفصلية اللحظة الى كون الولايات المتحدة لم تعد قوية بالقدر الذي كانت عليه مالياً واقتصادياً والى حد ما عسكرياً مما يجعل انتخاب ماكين انتخاباً لمدمن انفعال غاضب وتوجه الى تفليت الغرائز بوعي احياناً ولاوعي، مع تبسيط متعمد لما هو معقّد مثل جعل “جو السباك (السمكري) رمزاً انتخابياً لحملته من جهة، فضلاً عن ان اول قرار اتخذه هو تسمية ساره بايلين مرشحته لنيابة الرئاسة اداة للتعبئة وتظهيراً للجيوب العنصرية المتزمتة، مما فاجأ العديد من عقلاء الحزب الجمهوري وفي طليعتهم كولن باول وزير الخارجية وقائد القوات المسلحة سابقاً. كما تميزت حملته باللجوء الى التخويف بدل المنافسة، وجعل الكفاءة العلمية للخصم دليلاً على “نخبوية” متناقضة مع مفهوم “للأمركة” يتميز بالانغلاق والتقوقع ورفض قاطع لما يجمع والاحتفال بما يميز ويفرق، ساعياً الى فرز تنساب من خلاله الجيوب المتبقية لعنصرية كامنة. وعلى رغم ان مثل هذا التشويه كان يعتبر مخالفاً لرصيد ماكين السياسي الذي خسر احترامه حتى من خصومه، اقدمت حملته على استعمال جميع وسائل التشويه والافتراء وحتى لجوء بعض مناصريه الى التزوير الفاضح كما حصل في تعميم على ورقة تبدو “رسمية” لكنها مزورة، تشير الى “الذين سجلوا جمهوريين في ولاية فرجينيا يقترعون يوم الثلثاء، اي في اليوم المحدد للانتخاب، والمسجلين ديموقراطيين ينتخبون الاربعاء، مما ادى الى ملاحقة مرتكبي هذه الجريمة بتهمة تزوير وثائق رسمية لولاية فرجينيا. وهذا قليل من كثير اضافة الى اقتناع راسخ بأن انتخاب ماكين هو استمرار لسياسات الرئيس جورج بوش التي يعمل ماكين على التنصل منها وان كان يعمل على تعزيز شراستها في مواقفه من حرب العراق.
ففي حين يلجأ ماكين الى اسلوب التخويف واتخاذ القرارات الارتجالية، تتميز حملة اوباما بأن اقتراحاته وسياساته مدروسة واكثر قدرة على معالجات حكيمة واحاطة واسعة بمختلف التحديات التي تواجه اكثرية الاميركيين. وبرز الفرق الشاسع بين سلوك كل من المرشحين في طريقة التعامل مع الازمة المالية التي جعلت منهج اوباما يتميز بالتوجه بهدوء الى ما افرزت من تدهور في الاوضاع المالية مما ادى الى تعزيز فرص قدرته على جذب معظم المترددين في تأييد المرشح الديمقراطي. وفي حين عمل ماكين على تفليت آثم لغرائز دفينة معظم الاوقات سعى اوباما الى تصليب ضوابط العقل في معالجة بعض القضايا الساخنة والطارئة. وكان اوباما في مداخلاته الخطابية والحوارية اكثر ميلاً الى الدقة في التحليل والتعبير واكثر معرفة بالحقائق وبضرورة تعميمها، حتى تلك الحقائق المناقضة للشعارات السهلة التي قد تكون اكثر جاذبية كما كان يتوهم خصمه جون ماكين.
يبدو واضحاً انني متحيز لباراك اوباما، وليس هذا الانحياز غريباً خصوصاً ان جميع الاحصاءات تؤكد الاحتضان الشعبي الشامل له والرغية العارمة على المستوى العالمي في ان تؤدي الانتخابات بعد يومين الى فوز اوباما. ويعود هذا التأييد العالمي والتميز الواضح الى اهتمام شديد كون الحملة الرئاسية قد تؤدي الى اختراق واعد فبعد نحو قرن ونصف قرن على تحرير ابراهام لنكولن الافارقة الاميركيين من “قانونية” الرقيق تجد الولايات المتحدة نفسها امام احتمال أن يكون الثلثاء يوم تمكين اميركي – افريقي من ان يصبح رئيساً في البيت الابيض. واذا كان ما اكتبه قبل 48 ساعة غير مضمون فانه مرجح ليشكل حدثاً تاريخياً عميق الاثر وتعبيراً عن انتصار الانفتاح على التقوقع والوجدان على محاولات إلغائه وللمساواة على الاستعلاء، ولشرعية العدالة على ترسبات قوانين التمييز العرقي والطائفي والديني. ان انتخاب اوباما يجيء من هذا المنظور ومن خلاله يكون الناخب الاميركي عبر عن الناخب العالمي المكتفي والمكبوت ايضا.
اجل ان الطمأنينة التي قد يعممها انتخاب اوباما يعود الى ان العدالة المستشرية كادت ان تعولم اللجوء الى عبثية الثأر والارهاب، وكون العولمة التي جعلت القوة آلية للاملاء وبالتالي اذلال الغير مما ادى الى تحويل النقمة العارمة مسلسلاً من ثارات عبثية وقاتلة، وبالتالي استبدال المعالجة الجذرية بمباغتات انتقامية مما كاد ان يجعل العالم يختبر ثنائية فظة تعتمد على فرض ارادة الاقوياء وبالتالي تعميم ممارسات القمع والاحتلال والحرمان واستباحة الحقوق الوطنية والانسانية من جهة، وفي المقابل يتمثل الوجه الآخر لهذه الثنائية الى جانب معالجة النقمة بالانتقام، الغضب بالكره، المقاومة وثقافة الحياة من خلال التحرير والارهاب من خلال تمجيد عمليات الثأر والتفكير بالتحريض على التكفير. وكما في سياسات الاملاء لممارسي شراسة العولمة بعنف القوة كخيار اول، يبرز خيار العنف في المقابل كخيار اوحد.
***
هل ان التحيز لأوباما كما اشرت في مقال سابق هو تعبير عن رغبة عارمة ام حاجة ملحة؟ ثمة اقتناع لدى فئة واسعة بأن انتخابه خصوصا في الظرف الحالي هو حاجة، لكن ذلك لا يعني ان لا حدود للتوقعات الواعدة او فرامل لحماسة التحيز.
***
بعد بلورة دوافع التحيز لا مفر من ادراك ان في الولايات المتحدة ثوابت راسخة مصلحية وقيما مستقيمة وتراثا من التعددية يحمي ثوابت المصالح من ممارسات الاستئثار والانعزالية. فماكين يستنفر دوافع الاستئثار على مقتضيات التعددية، لكن هذا لا يعني ان اوباما يمكن ان يتخلى عن مصالح قد لا تكون مستساغة في ما قد نعتبره نقيضاً لما نعتبره مطالب محقة.
وهذا يجب ان يكون متوقعا. ولكن لا بد من ابداء بعض التحفظات عن بعض مناهج من تعامله مع بعض الافتراءات على الاسلام والعرب، وما هو متعلق بالشأن الفلسطيني، اذ كنا نتوقع أن يكون حاسماً في الرد او ان يفند بعض المضامين الواضحة في كذب هذه الافتراءات وزورها.
مثلا ان يقول انه مسيحي، فهذا صحيح لكونه تربى عند جديه المسيحيين الأبيضين منذ طفولته بعد طلاق والدته من حسين اوباما، وما لم يقله قاله كولن باول، فبعد تأكيد ان اوباما مسيحي تساءل: “الا يحق لأميركي مسلم ان يكون رئيسا لبلاده؟”. هذا الرد كان يجب ان يقوله اوباما عندما اكد مسيحيته، لكنه لم يفعل مما زاد قلق المسلمين وجاءت مقولة باول لتساهم في ازالة قلقهم وتدفعهم الى تأييد أوباما من خلال شجاعة باول عندما ايد باراك اوباما. ويبدو ان الحذر الذي ابداه اوباما في هذا الشأن كان استباقا لمزيد من فرص التزوير والتشهير التي قامت بها حملة ماكين. هل كانت الشجاعة في اتخاذ موقف مماثل لباول انتقاصا من فرص نجاحه
وفي الاسبوع الماضي لجأت حملة ماكين الى ابراز علاقة اوباما عندما كان استاذاً في جامعة شيكاغو برشيد الخالدي مدير مركز العلاقات الدولية في الجامعة نفسها، ولكونه اميركيا – فلسطينياً اتهم أوباما بممالأته منظمة التحرير الفلسطينية، وفي ذلك دليل على “سهولة علاقاته بالارهابيين”، مما دفع جريدة “واشنطن بوست” في عددها امس (31 تشرين الاول) الى وصف حملة ماكين على مقارنة الخالدي بـ”النازية الجديدة” بأنها “لطخة تافهة وحقيرة”.
الاغرب في هذا الموضوع ان حملة ماكين رددت باشكال مختلفة هذا التوصيف دليلا على جهل مطلق وتبن كامل لسياسة اسرائيل من دون اي مساءلة. لكن المأساة المضحكة هي استمرار اتهام منظمة التحرير بـ”الارهاب”، في حين تقوم قيادة المنظمة برعاية اميركية متواصلة بمحادثات مع اسرائيل يرافقها وزيرة خارجية الولايات المتحدة كوندوليزا رايس بزيارة الى “المنطقة”. ماكين المرشح للرئاسة متحيز لاسرائيل لكن جهله لحقائق بديهية واضحة يشير الى خطورة انتهازيته الفاقعة وحساسيته المفرطة حيال الحقيقة والحقائق وادمانه التزوير والتشويه، وبالتالي على ما يقوله بعض مناصريه المستغربين تصرفاته، “انه يلغي إرثه”!.
ولكن في الوقت نفسه كان صمت باراك أوباما عن هذا الموضوع مدويا. فالتعليق الوحيد في رد رشيد الخالدي هو “سأبقى على موقفي بأن اترك لهذا الربح الأبله ان ينطفىء”. هل وصل جهل ماكين الى عدم معرفته بوجود حوار غير متقطع منذ اواخر 1989 بين الادارة الاميركية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهو يدعي انه الاعرف والاعرق بالسياسات الدولية والاقدر تالياً على ان يكون قائد القوات المسلحة؟.
يبقى ان أوباما يظل عند موقفه من غزو العراق وأنه الأكثر اهلية لاستيعاب تعقيدات العلاقات الدولية وما هو شرعي وغير شرعي.
واذا انتخب الثلثاء فعلى العرب التخلي عن ممارسة سياسات التذمر وان يحققوا تنسيقا كاملا وقا بلا للتصديق وبالتالي قابلا للاقناع والاحترام والفعل… فأوباما على رغم انتهازية او حتى اقتناع يدفعه الى التحيز لاسرائيل يبقى فضولياً محباً للاستطلاع وللحوار لكونه مفكراً وبالتالي قد يقرب رشيد الخالدي بعد ا ستبعاده خلال الحملة، علماً ان الحملتين حاولتا بنسب متفاوتة تجاهل العرب والمسلمين، احداهما لدوافع عنصرية واستعلائية والاخرى لانتهازية نرجو ان تكون موقتة. وفي كلا الحالتين حان الوقت ليكون الحضور العربي أكثر جدية وألا تستمر استباحة حقوقنا ومصالحنا بدون ردع وانقساماتنا مدخلا الى تهميشنا.