صفحات ثقافية

الأدب العجائبي والعالم الغرائبي للناقد كمال أبو ديب نموذجا كنوز التراث السردي.. والحاجة إلي تجديد القراءة

null


إدريس الخضراوي

يزخر التراث العربي بمدونة هائلة من النصوص الإبداعية العميقة بمؤشراتها وعناصر الإظهار الذاتي فيها الدالة علي مواضعات الكتابة في عصرها، وهي تشكل ذخيرة ثرّة تتطلب قراءة جديدة ومغايرة تنفتح علي اعتبارات السياق، بالمعني الذي يستفاد من أدبيات نظرية التلقي بهذا الخصوص.
ومن شأن هذا الفعل أن يسهم بقوة في تجديد معايير تلقي هذه الأعمال، وتحريرها من هيمنة الأنساق النقدية المتمركزة والمتدثرة بتأويل انتقاصي لمحددات مقروئيتها، وكذلك الأعمال الأخري التي تقترب منها علي مستويات الاقتراح الجمالي. ومن بين هذه التحققات التراثية كتاب العظمة الذي جمعه وحققه الناقد المميز الأستاذ كمال أبو ديب. أما مخطوطة الكتاب فتوجد بمكتبة البودليان في أوكسفورد، بريطانيا، وهي غير منسوبة ولا يذكر فيها اسم المؤلف أو الناسخ. ويرجح كمال أبو ديب انطلاقا من قراءة العديد من الكتب التي تشترك مع كتاب العظمة إما في العنوان أو علي مستوي المضامين الإدهاشية التي يدور حولها السرد، أن يكون مؤلفه أحد اثنين: ابن أبي الدنيا أو القمي الشيعي من القرن الثالث الهجري. صدر الكتاب عن دار الساقي بلندن في طبعتين مختلفتين. الأولي تتضمن النص المحقق مصحوبا بدراسة مطولة بالعربية والإنكليزية يقدم فيها كمال أبو ديب استقصاء عميقا في هذا النوع من الأدب، أما الثانية فتحوي إضافة إلي ذلك رسومـــــــــات ورموز توضيحية تحاور العوالم الغرائبية والإدهاشية التي يزخر بها التراث العجيب. ونحن في هذه القراءة نعتمد الطبعة الأولي(1). وما نرمي إليه ليس هو إنجاز تقديم للكتاب، وإنما محاورة ما تضمنه في فاتحاته من تصورات وأفكار بالغة الدلالة ليس فقط بالنسبة للاشتغال النقدي علي النصوص الأدبية العربية، وإنما كذلك فيما يتعلق بالتحقيق.

يدرج كمال أبوديب كتاب العظمة ضمن ما يسميه: الأدب العجائبي أو الأدب الخوارقي، وهي تسمية سبق للباحث أن دافع عنها بقوة في دراسة سابقة نشرت بمجلة فصول حملت عنوان: المجلسيات والمقامات والأدب العجائبي(2). وبالنسبة للقارئ المتابع، ففي هذه الدراسة التي تَكرّست لمجلسيات أبي حيان التوحيدي، ذهب أبو ديب إلي أن نظرية الأنواع الأدبية في العربية لا تزال بحاجة إلي الكثير من التمحيص والتدقيق والاشتغال، وذلك لأن التصورات النقدية التي جري سبكها في الماضي ضمن مفهومي الشعر والنثر، هي علي أهميتها، لم يكتب لها الاطراد والتداول الكافي حتي تستقر تصورات مجمع عليها، ويمكن البناء عليها في التأسيس لهذه الأنواع. كما يأخذ كمال أبو ديب علي النقد العربي المعاصر تسرعه في الحكم علي نصوص ثقافية عربية قديمة انطلاقا من مقاييس وأحكام مستمدة من نظرية السرد الغربية، دون التمحيص والتساؤل حول ما إذا كان لذلك من امتدادات في التراث العربي. ونعتقد أن التصور النقدي الذي بلوره هذا الناقد في كتابه هذا، يستند للمعطيات التي سبق وأن شيدها انطلاقا من قراءته للتراث العربي خاصة التوحيدي والهمداني. وإذا استعدنا الإطار الذي وضع كمال أبو ديب ضمنه مجلسيات التوحيدي وهو الأدب المعقلن في مقابل الأدب الجموح، أمكننا أن نستشف من خلال الخيال الطليق الذي يتأسس عليه كتاب العظمة أن قراءة كمال أبو ديب تتميز بالعمق والدقة ورصانة في المنهج. وهي خُلالٌ (بضم الخاء أو كسرها) يحتاجها درسنا النقدي والثقافي اليوم، إذا ما أراد أن يؤسس بقوة لمنظورية مغايرة وذات إضافة بالنسبة لثقافتنا المعاصرة.

أشرنا بأن كمال أبو ديب يدرج كتاب العظمة ضمن الأدب العجائبي أو الأدب الخوارقي، ويحدد مميزات هذا الأدب في الخيال الجموح الذي يخترق حدود المعقول والمنطقي والواقعي والتاريخي. كما أنه يخضع كل ما في الوجود إلي قوة واحدة هي قوة الخيال المبتكر الذي يجوب الوجود بإحساس مطلق الحرية (3). لكن ما يميز كتاب العظمة إضافة إلي هذه المقومات، هو اعتماده علي أساليب التوثيق التي تداولتها الثقافة العربية الإسلامية خاصة في حقلي الحديث النبوي والتاريخ. وهو إذ يستثمر ذلك، فإنما يتقصد إلي إضفاء الحقيقية علي مرويات هي من إبداع الخيال الخلاق الذي قوامه: تفنن في التفتيق والتذويب والتركيب والتجاوز والعجن والصوغ لا يكاد يفوقه نموذج آخر من ابتكارية الإنسان وطاقاته المذهلة علي الرحيل الدائم في عوالم اللامحدود واللامرئي واللامألوف والعجائبي الخوارقي الإدهاشي (4). هذه الصفات المميزة لهذا النص ولنصوص أخري كثيرة في الثقافة العربية الكلاسيكية ألا تقودنا إلي تنسيب الوعي بالتصورات النقدية الغربية بصدد هذا النمط من الأدب، وهي التي تلبس آدابها رداء السبق في اجتراح هذا الشكل من الكتابة أقصد الأدب العجائبي؟ أليس كتاب تودوروف حول الأدب العجائبي إلا التعبير الواضح عن هذا التوجه؟

يذهب كمال أبو ديب، وهو يتقصي عوالم هذا الكتاب، إلي أن الثقافة العربية الكلاسيكية يحق لها أن تفتخر بأنها هي التي أسست لهذا النمط من الكتابة الذي يفعم اليوم الكثير من الممارسات الروائية في الغرب والشرق، وننسبها إلي غابرييل غارسيا ماركيز، دون أن نجرؤ علي ردها إلي فضائها الطبيعي، أقصد الفضاء الإبداعي العربي الذي هي عريقة فيه وتتنفس هواءه المضمخ بعطر اللغة وعبق التاريخ. والحق أن هذه الدعوة إلي معاودة قراءة التراث العربي والإسلامي من منظور جديد يكون علي مسافة مما هو متضمن في التنظيرات الغربية من مقولات تكاد تتحول إلي ثوابت وبدهيات لا تناقش، تتطلب أن نتحرر نوعا ما في استقبالها، ونبتعد عن الأحكام الإيديولوجية التي تكاد تطمس ما فيها من حيوية ودينامية حينما لا تري فيها سوي نوع من الأسلفة التي تتساوق مع نزعة الارتداد نحو الماضي. لقد سبق للعلامة المغربي الأستاذ عبد الله كنون أن أشار إلي ضرورة فك الارتباط بين التأريخ للأدب العربي وما تقدمه النظرية التحقيب الغربية. حيث كشف أن العلائق المتعددة التي تصل بين الآداب العربية: عقديا وثقافيا ولغويا وسياسيا تجعل من غير المنطقي تشييد تحقيب للأدب العربي وفق رؤية تستند إلي التقسيم إلي عصور أو إلي أقطار. وضمن الرؤية ذاتها التي لا يخفي طموحها إلي تفكيك تحيزات نظرية النقد الغربية، ذهب الناقد العراقي الكبير عبد الله إبراهيم في كتابه السردية العربية الحديثة ، إلي أن النقد العربي لم يوفق كثيرا في تقديم تاريخ للرواية العربية متحرر من إكراهات النظرية النقدية الغربية عليه. وأشار إلي أن اعتبار رواية زينب التي صدرت سنة 1912 أول عمل روائي عربي فيه الكثير من الغمط لحقوق كتاب ومبدعين أنجزوا أعمالا هامة وتتوفر فيها العناصر الروائية بما يَردّ علي رواية حسين هيكل، ويعرض أمر ريادتها للشك والطعن والنقض، ومع ذلك لم تكرّس هذه الأعمال في ما يتعلق بالريادة لأنها لا تستجيب للمعايير التي انطلق منها النقد العربي، وهي معايير غربية بالأساس. لقد اعتبر عبد الله إبراهيم هذا النزوع بأنه موروث عن الحقبة الاستعمارية ولا يزال يمارس تأثيره إلي اليوم نتيجة غياب بحث حفري في الأدب العربي، يظهر خصائصه الأسلوبية والبنائية النوعية، الأمر الذي يتطلب تفكيك هذا الخطاب الاستعماري، وفضح ما يعتوره من ضروب الانحياز والتمركز حول وجهة النظر الغربية ومقاييسها حول الفن والأدب.

ما نستفيده من هذه التقصيات المغايرة في الأدب العربي، يتمثل في ضرورة بناء شعرية داخلية تعيد تصور التاريخ الأدبي العربي من داخله، وتبتعد عن الظلال التي يلقي بها التاريخ الرسمي العربي أو نظريات التحقيب الغربية. إذ من خلال هذا الترحال في العوالم الداخلية لهذا التراث الثقافي يمكن إذا توافرت الجهود وتسلحت بالمعرفة الدقيقة، التوصل إلي بناء أطر معرفية قمينة بأن تنتظم ضمنها الكثير من التحققات الجمالية التي تبدو اليوم غير معترف بإضافاتها، أو متروكة ضمن دائرة تتنكر، بتأثير من عقدة النقص إزاء الغرب، لما فيها من ضروب التخييل والجمال. وهذا بالتحديد ما يتبدي من دراسة أبو ديب لكتاب العظمة. إنه لأمر ذو مغزي أن يتجه الدرس العلمي اليوم إلي تصحيح مفاهيمنا حول التحققات الجمالية في الثقافة العربية الكلاسيكية، وسماتها الرئيسة المحركة والضابطة لهويتها الكتابية. وأكثر ما تتجلي أهمية هذه التصحيحات في الضوء الذي يمكن أن تسلطه علي التاريخ الثقافي العربي، وعلي الإلغاء الذي مورس، حول بعض حقبه، مثل عصر الانحطاط، مع ما ميز هذا العصر من خيال خلاق، عكس ثراء النزعة الإنسانية العربية وابتكاريتها كما يقول أبو ديب. فمن شأن الاقتراب من التحولات التي مست الأدب العربي عبر تاريخه، وخاصة في المراحل التي شهدت فيها السلطة السياسية نوعا من التفكك وانتقال مركزها إلي مواقع أخري، أن يقود إلي فهم النتوءات الجمالية المرفوضة، والتي كانت بحق عنوان كتابة جديدة تتخلق من رحم الهوامش الاجتماعية، وتستجيب في مواضعاتها، لانتظارات هذا الهامش وانشغالاته. هذا الأدب الرافض لمظلة السلطة، والذي يأبي أن يدور ضمن محورها، هو الذي يستدعي قراءة جديدة تصحح علاقتنا بالتراث، وتفند الكثير من أحكامنا الحاجبة لما يحتشد فيه من معاني وتخييلات وغرائبية علي درجة عالية من التوتر والقدرة علي التشويق. وتُعدّ لذلك تمثيلات إغوائية، ساخرة، لما يمور في الأوساط الشعبية، ويمكن تأويلها علي أنها معارضة تهكمية للأطر الخطية الفاعلة في الثقافة العربية والإسلامية، وتفسيراتها المغلقة. وبسبب ذلك وصمت بالدونية، تلك الدونية التي تحرص عليها المجتمعات التقليدية في تقسيمها الناس إلي عامة وخاصة، وتحرص أكثر في تكريس الثنائية نفسها في الفكر والآداب والفنون (5).

إن القيمة التي يمكن استخلاصها من هذا التحقيق الذي أنجزه الناقد كمال أبو ديب لكتاب العظمة، ويقدم عليه حقا الكثير من الفعاليات الفكرية العربية ذات الرؤية الواضحة والرصينة بصدد منجز الثقافة العربية في عصورها السابقة، تكمن في الوعي بنسبية تلقياتنا للخطابات الجمالية والثقافية، ارتباطا أيضا بزمنية المعايير التي نعتمدها في ذلك التلقي، ونستجيب في ضوئها لما هو متضمن في هذه الأعمال. لذلك لا مناص من وضع هذه المعايير علي محك المستجدات التي تطاول أنظمة المعرفة، لأن بذلك تنزاح الكثير من الحجب التي تحول دون رؤية جوانب ما في عصر ما. وأتصور أن الانطلاق من حفريات جديدة في تاريخنا الأدبي والثقافي، قمينة ليس فقط بتحقيق ذلك الانتقال من تلقي يتسم بالرفض والاستبعاد لهذه الحساسية الكتابية التي تنتعش علي هامش السلطة وبعيدا عن مظلتها، إلي آخر يحضنها ويعلي من شأن مواضعاتها الكتابية، وإنما يضيء كذلك الكثير من مظاهر التحول التي عرفها الأدب العربي، ويستنبت معايير جديدة يمكن أن تشكل أساسا لاستقبال هذه النصوص.

ناقد من المغرب

elkhadraouidri@yahoo.fr

هـــــوامش:

1 ـ كمال أبو ديب: الأدب العجائبي والعالم الغرائبي في كتاب العظمة وفن السرد العربي، الطبعة الأولي، دار الساقي ودار أوركس للنشر، لندن2007.

2 ـ كمال أبو ديب: المجلسيات والمقامات من الخيال المعقلن إلي الخيال الجموح، دراسة في أطر السرد وتقنياته في النثر العربي، مجلة فصول، المجلد الرابع عشر، العدد الرابع، شتاء 1996، ص:210.

3 ـ كمال أبو ديب، ص:8.

4 ـ نفسه، ص: 9.

5 ـ عبد الله إبراهيم: الجاحظ وانهيار مكانة القصاص في أيامه، جريدة الحياة، ملحق تراث، السبت 01 مارس2008 الموقع الإلكتروني للصحيفة.

www.alhayat.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى