استفزاز امريكي ‘ملغوم’ لسورية
عبد الباري عطوان
تتصف تصرفات ادارة الرئيس الامريكي جورج بوش هذه الايام بالرعونة والارتباك، خاصة في منطقة الشرق الاوسط، وتأتي عملية الانزال الاخيرة للقوات الامريكية في منطقة البوكمال داخل الحدود السورية، التي اسفرت عن استشهاد ثمانية مدنيين سوريين، كدليل ابرز في هذا الصدد.
هذه الغارة الجوية غير المسبوقة اثارت العديد من علامات الاستفهام حول توقيتها، ودوافعها، والنتائج المراد انجازها من ورائها، واخيرا التبعات التي يمكن ان تترتب عليها، ليس فقط على صعيد العلاقات السورية ـ الامريكية، وانما داخل العراق والمنطقة العربية برمتها.
ومن المفارقة ان المتحدثين الرسميين الامريكيين التزموا الصمت المطلق، وكانوا مقترين في تصريحاتهم، على غير عادتهم، بينما شاهدنا ‘شفافية’ ‘غير مسبوقة’ من قبل السياسيين واجهزة الاعلام السورية، من حيث تقديم الصور والمعلومات حول الغارة، والسماح للصحافيين بالوصول الى البيت المستهدف والالتقاء بالمواطنين بكل حرية.
الامريكيون قالوا ان المنطقة المستهدفة من قبل المروحيات الامريكية كانت مسرحا لأنشطة خلايا تابعة لتنظيم ‘القاعدة’، وهو امر لا توجد اي دلائل ملموسة تؤكد صحته، وحتى لو كانت الرواية الامريكية صحيحة، فان معالجة هذه المسألة يمكن ان تتم من خلال قنوات التنسيق الامني النشطة، سواء بين القيادة الامريكية في العراق ونظيرتها السورية، او بين الحكومة العراقية نفسها ونظيرتها السورية، فهناك سوابق عديدة تؤكد هذا التنسيق الامني في حوادث مماثلة.
وحتى لو افترضنا ان هناك خلايا لتنظيم ‘القاعدة’ في المنطقة المذكورة، فان هذا لا يعطي الولايات المتحدة وقواتها الحق في الإغارة على اراضي دولة ذات سيادة وارتكاب مجزرة في حق مدنيين ابرياء. فهذا عمل ارهابي واضح يؤكد ان الادارة الامريكية لا تعير اي اهتمام للمعاهدات والمواثيق الدولية التي تدعي حرصها عليها، وتعاقب الآخرين بالحصارات والعزل اذا ما اقدموا على انتهاكها.
المسألة في تقديرنا ابعد بكثير من وجود خلايا للقاعدة، او منسق كبير يتولى تهريب المتطوعين الجدد في صفوفها الى العمق العراقي. فليس من قبيل الصدفة ان تتزامن هذه الغارة مع تراجع الآمال الامريكية في توقيع الاتفاقية الامنية مع حكومة ‘العراق الجديد’، وهي الاتفاقية التي من المفترض ان يتم اقرارها من قبل البرلمان قبل نهاية هذا العام لاضفاء ‘شرعية’ على وجود اكثر من مئة وخمسين الف جندي امريكي على ارض العراق.
فلم يعد خافيا على احد ان جيران العراق، ايران وسورية على وجه الخصوص، يعارضون اي وجود امريكي عسكري في قواعد دائمة على ارض العراق، تشكل تهديدا امنيا استراتيجيا لهم، فالاتفاقية الامنية في صورتها الاخيرة، والبنود التي تضمنتها، تضع العراق حرفيا تحت انتداب امريكي يمتد لعقود قادمة. وتجعل الولايات المتحدة دولة اصيلة في المنطقة.
الايرانيون لم يترددوا لحظة واحدة في معارضة هذه الاتفاقية علنا، واستصدار فتاوى دينية من مرجعيات شيعية عليا ‘تحرّم’ توقيعها، والايعاز لحلفائهم في العراق، وهم كثر، بالوقوف ضدها، حتى ان الحكومة العراقية الحالية بزعامة نوري المالكي رفضت اقرارها، وتلكأت في تقديمها الى البرلمان، وطالبت الادارة الامريكية بادخال تعديلات على بنود سبق ان وافقت عليها، خوفا من إغضاب ايران، وهو غضب يمكن ان تترتب عليه عواقب وخيمة.
السوريون يعارضون هذه الاتفاقية على طريقتهم الخاصة، أي من تحت الطاولة، بينما يعطون في العلن اشارات تفيد برغبتهم في التعاون مع الحكومة العراقية والمشروع الامريكي في العراق من خلال فتح سفارة لهم في بغداد بعد قطيعة استمرت لأكثر من عشرين عاماً، واستقبال الزعماء العراقيين بحفاوة ملحوظة.
الادارة الامريكية التي خسرت حتى الآن 4200 جندي امريكي، وسبعمائة مليار دولار في العراق، تتصرف حالياً مثل الثور الجريح وهي ترى حلفاءها الذين أتت بهم الى السلطة يرفضون قبول اتفاقية تنظم وجود قواتها، رغم تهديداتها المتواصلة لهم بالعواقب الوخيمة اذا استمروا في موقفهم هذا، ولهذا بدأت تتخبط في قراراتها وتحركاتها.
بمعنى آخر، لا تستطيع هذه الادارة ارسال مروحياتها لضرب اهداف للحرس الثوري الايراني داخل الاراضي الايرانية تحت ذريعة تدريبه وتسليحه لميليشيات معارضة للوجود الامريكي، لأنها تدرك جيدا ان ايران سترد بشكل مؤلم على اي عدوان كهذا، من خلال تحريك خلاياها النائمة والصاحية داخل العراق. كما انها، أي الادارة الامريكية لا تستطيع عزل حكومة المالكي لأنها تدرك ان هذه الخطوة قد تكون مكلفة جداً، ليس فقط لانعدام البدائل للمالكي، وانما ايضاً لأن الأزمات الاقتصادية والهزائم العسكرية والانهيارات المالية تحاصرها من كل جانب.
الهجوم على سورية هو اقل الخيارات كلفة بالنسبة للرئيس جورج بوش الابن وقيادته العسكرية في العراق، لأن سورية اصبحت الحلقة الأضعف في اعين هؤلاء. فقد تعرضت لغارات جوية اسرائيلية عديدة، ابرزها تلك التي استهدفت التجهيزات النووية المزعومة في منطقة دير الزور في الشمال الشرقي، كما اقدمت المخابرات الاسرائيلية على ترتيب عمليات اغتيال استفزازية لشخصيات سورية ولبنانية، مثل اللواء محمد سليمان، والحاج عماد مغنية زعيم الجناح العسكري لحزب الله اللبناني. وكان القاسم المشترك ازاء كل هذه العمليات والغارات هو غياب الرد السوري، والتزام القيادة السورية بأعلى درجات ضبط النفس، وعدم الوقوع في مصيدة الاستفزازات الاسرائيلية المدعومة امريكياً.
الغارة الامريكية على البوكمال تؤكد على تطور جديد في السياسات الامريكية المرتبكة هذه، وهو ان القيادة العسكرية الامريكية قررت القيام بنفسها بالانتقام من سورية والعمل على استتفزازها للاقدام على ردود انتقامية، بدلاً من الاعتماد على الاسرائيليين، مثلما كان عليه الحال في السابق، الأمر الذي قد يؤشر الى مخطط امريكي جديد لاستهداف سورية، يمهد لاستهداف ايران وحزب الله وحماس، اضلاع مربع ‘محور الشر’ بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الامريكية.
القيادة السورية اغلقت المركز الثقافي والمدرسة الامريكية في دمشق كرد فعل اولي على الغارة، وأجلت اجتماعاً للجنة السورية العراقية المشتركة كان مقرراً ان يعقد في دمشق بعد ايام معدودة، وطلبت توضيحات من الحكومتين الامريكية والعراقية حول الغارة، ولكن من الواضح ان الرد السوري لن يخرج عن الاطار الاحتجاجي السلمي في الوقت الراهن.
هناك اوراق عديدة في يد الحكومة السورية، يمكن ان تؤدي الى نتائج كارثية على المشروع الامريكي في العراق اذا قررت استخدامها، منفردة او مجتمعة، ويكفي ان تخفف تعاونها لضبط الحدود العراقية السورية، وغض النظر عن عمليات التهريب للمقاتلين والأسلحة، في الوقت نفسه، وايقاف التنسيق الأمني مع القيادتين الامريكية والعراقية. فعندما كانت الحدود السورية مفتوحة امام المتطوعين للانضمام الى صفوف المقاومة العراقية فاق عدد العمليات التي تستهدف القوات الامريكية الألف عملية شهرياً، ونفذ تنظيم ‘القاعدة’ 700 عملية انتحارية في فترة زمنية لا تزيد عن ثلاثة اعوام.
لا نعتقد ان الحكومة السورية ستتخلى عن سياسة ضبط النفس، وتغامر باستثارة الثور الامريكي الهائج المثخن بالجراح في الأشهر الأخيرة من حكم الادارة الحالية المهزومة على مختلف الاصعدة، فهي تتصرف مثل معظم دول المنطقة والعالم، اي المناورة من اجل كسب الوقت ريثما يسدل الستار على ادارة امريكية كانت الأكثر عداء للعرب والمسلمين، على امل ان تأتي ادارة امريكية اخرى تتعلم من اخطاء السابقة، وتعتمد سياسة الحوار بدل سياسة المواجهة في منطقة الشرق الأوسط.
القدس العربي