الغارة في بحر الاحتمالات السورية
حازم الأمين
المشكلة في قراءة معنى الغارة الأميركية على موقع في قرية سورية تكمن في ذلك اللبس الذي يثيره رد الفعل السوري عليها، فمن الواضح ان سورية في صدد رفع وتيرة إدانتها للغارة الى ما قبل التحرك الميداني بخطوات قليلة، وهي إذ تفعل ذلك، تفعله مستفيدة من السمعة التي لحقت بالجيش الأميركي جراء أخطاء ميدانية ارتكبها في كل من العراق وأفغانستان وسقط في نتيجتها عشرات من المدنيين، بينهم نساء وأطفال وشيوخ.
لكننا في حالة الغارة على سورية أمام التباس لم تبدده الجهود السورية لتظهير الغارة بصفتها أحد تلك الأخطاء العسكرية الأميركية، من دون ان يعني هذا افتراض عدم وقوع الأميركيين في خطأ جديد. ففي رد الفعل السوري الأول نقلت وكالة سانا ان من بين القتلى 4 أطفال، وهو ما عادت وتجاوزته الى القول بأن القتلى عمال في منشأة قيد البناء، ثم أردفته لاحقاً بخبر عن مقتل أب وثلاثة من أولاده. أما الصور المترافقة مع المعلومات السورية عن قتلى الغارة فكانت لجنائز القتلى من دون توضيحات تثبت احتمال الخطأ الأميركي.
ومرة أخرى ومن دون السقوط في فخ تبرئة الأميركيين من احتمال استهدافهم مدنيين، فإن تاريخاً من الممارسات السورية يُضعف من قيمة الجهود السورية لإدانة الغارة:
أولاً، ثمة إجماع وقرائن دامغة تثبت ان سورية متورطة بإرسال مقاتلين الى العراق، لا بل إن سورية تعتبر المنفذ الوحيد للمقاتلين المتوجهين الى العراق، إذا ما استثنينا إيران التي تتولى موسمياً مهمة من هذا النوع عبر حدودها مع العراق. وبيان الحكومة العراقية الذي أعقب الغارة لم يكن عاماً بل حدد عملية بعينها سبقت الغارة استعمل منفذوها الحدود السورية لينفذوا هجوماً أودى بـ12 قتيلاً من الجيش العراقي.
ثانياً، انعدام الثقة بطبيعة الأخبار الواردة من سورية لجهة التضليل الذي لطالما شهدته. فالخبر السوري هو دائماً عملية تورية تهدف الى خدمة توجه يسبقه أو يعقبه، وهو أمر أتاح للصحيفة الإسرائيلية “يديعوت احرونوت” ان ترجح احتمال ان تكون العملية قد تمت ضمن اتفاق سوري – أميركي على تصفية بقايا مجموعات تعمل في العراق انطلاقاً من الأراضي السورية. فللنظر مثلاً بمعظم الأخبار القادمة من سورية، وبأوجه تأويلاتها الناجمة عن ذلك الغموض الذي يعصف بذلك البلد، بدءاً باغتيال القيادي في حزب الله عماد مغنية، ومروراً باغتيال الضابط محمد سليمان ووصولاً الى تفجير السيدة زينب والاشتباك الذي أعقبه في مخيم اليرموك. ليستعد كل واحد منا عدد السيناريوات التي وضعت لكل حادثة من هذه الحوادث، وذلك لن يدفعنا إلا الى استنتاج واحد، هو ان الخبر السوري ليس خبراً، إنما هو تورية واحتمال وتوقع، وهذه كلها ليست من علامات الخبر ولا من تعريفاته.
ففي الغارة الأميركية الأخيرة في سورية معطيان لا ينسجمان، الأول ان ثمة سوابق أميركية كثيرة تعطي حظوظاً لاحتمال سقوط مدنيين في تلك الغارة، والثاني تورط سوري ثابت وأكيد في إرسال مقاتلين الى العراق يعطي حظوظاً لاحتمال صحة الادعاء الأميركي بأن الغارة استهدفت مخبأ لمقاتلين ينوون التوجه الى العراق!
لكن لننتقل من هذين الاحتمالين الى احتمالين آخرين في غابة الاحتمالات السورية. الاحتمال الأول يتمثل في صحة الفرضية الإسرائيلية التي أشارت الى تواطؤ سوري – أميركي أفضى الى قيام الجيش الأميركي بهذه الغارة، وأن رد الفعل السوري ليس سوى محاولة لطمأنة الحلفاء الآخرين في جبهة الممانعة الى ان عاصمتهم ليست في صدد مباشرة مقايضتهم بمكتسبات أخرى. هذا الافتراض، في حال صحته، سيعني الكثير وهو لا يحتاج الى وقت طويل حتى تُختبر صحته. أما الاحتمال الثاني فيتمثل في ان ثمة قراراً أميركياً بمعاملة المناطق الحدودية السورية – العراقية على النحو الذي تُعامل به واشنطن الحدود الباكستانية – الأفغانية، أي الإغارة على أي موقع يُشتبه في ان يكون معقلاً لمقاتلين. وهذا الاحتمال لن يحتاج أيضاً الى وقت طويل حتى تختبر صحته، فواشنطن عندما قررت قصف مناطق وزيرستان في باكستان فعلت ذلك غير مراعية حساسية موقف حكومة إسلام آباد حليفتها الأولى في الحرب على الإرهاب.
أما نحن في لبنان فمعنيون بكلا الاحتمالين، فالأول يعني بالنسبة إلينا أن ثمة أوراقاً لبنانية في حوزة سورية هي عرضة الآن أو بعد وقت ليس طويلاً لمقايضة مشابهة، والثاني قد يعني لنا بداية فرار المقاتلين العرب من الحدود مع العراق الى الحدود مع لبنان، والله خير الحافظين.