أهداف سياسية وراء الغارة الأميركية في سورية!
سليم نصار
عندما زار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي دمشق مطلع أيلول (سبتمبر) الماضي، طلب من الرئيس بشار الأسد التوسط لدى إيران من أجل فتح باب الحوار بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي. وتمنى عليه استخدام علاقاته المميزة مع طهران من أجل حثها على التعاون بشأن برنامجها النووي.
وقبل أن يسافر الرئيس السوري الى طهران، حرص على تطمين واشنطن، مشيراً في مؤتمره الصحافي، الى أهمية دورها في مرحلة المفاوضات المباشرة مع اسرائيل. وكان بهذه الاشارة السياسية الهادفة، يتعمد إبلاغ إدارة جورج بوش، بأن الوساطة السورية لن تلغي دور الولايات المتحدة في عملية رعاية مفاوضات السلام.
وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، ترجمت العلامات المشجعة التي تلقتها من دمشق، الى انفتاح مفاجئ عبر اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث التقت الوزير السوري وليد المعلم، واستغلت رايس تلك المناسبة لتطالب بموقف سوري جديد أكثر اعتدالاً بالنسبة الى إيران، واقل تدخلاً بالنسبة الى العراق ولبنان. ووعدته بإعادة السفير الأميركي الى دمشق فور تحسن الأجواء السياسية بين البلدين. ثم جاء خطاب الرئيس جورج بوش أمام الجمعية العامة ليعرقل مسار التقارب، خصوصاً عندما وصف سورية بقوله إنها مثل إيران، تواصل رعاية الإرهاب. وقد تبين للمسؤولين في دمشق أن موقف الرئيس بوش لا ينسجم مع الوعود التي قدمتها وزيرة الخارجية حول تخفيف الحصار الاقتصادي على سورية مقابل تحقيق خطوات عملية باتجاه مشروع السلام مع اسرائيل. كما تبين لهم أيضاً أن هناك هوة من التناقضات تفصل بين الرئيس بوش وبين مساعديه الذين ينتظرون تغيير الإدارة الحالية، مثلما ينتظر الاسرائيليون تغيير حكومتهم.
في هذا الوقت، أعلنت اسرائيل عن تغيير جوهري في سياستها حيال السلام مع سورية. أي أن هذه السياسة لم تعد رهينة الموقف المتصلب الذي يرفض التفاوض مع دمشق إذا واصلت تمسكها بالعلاقات المميزة مع طهران. واعتبر هذا التبدل نتيجة منطقية لتقرير مدير مركز الأبحاث في وزارة الخارجية الاسرائيلية، الذي وصف عملية السلام مع سورية بأنها الأقرب الى التنفيذ من أي طرف عربي آخر، بمن في ذلك الطرف الفلسطيني. كذلك صدرت أصوات عن المؤسسة الأمنية برعاية الوزير ايهود باراك، تدعو الى استغلال الوساطة التركية من أجل توقيع اتفاق سلام مع سورية. كما تدعو الى استثمار التغيير الذي وعد به المرشح اوباما في حال وصل الحزب الديموقراطي الى البيت الأبيض.
في اليوم الأول من وصول وزير خارجية سورية وليد المعلم الى لندن، أقلقت زيارته عملية عسكرية مفاجئة خططت لها القيادة الأميركية في العراق. واستهدفت العملية قرية سورية تقع قرب الحدود العراقية، بحجة اعتقال أو اغتيال «أبو غادية». ومع أن الاسم الحركي لم يكن موجوداً على قائمة المطلوبين، إلا أن القيادة الأميركية اعتبرته نسخة متطورة عن معلمه «ابو مصعب الزرقاوي». وهي تدعي أن أبو غادية (واسمه الحقيقي بدران تركي المزيدي) تسلم خلية «القاعدة» عقب مقتل الزرقاوي سنة 2006، وراح يعمل تحت إمرة قائد جديد يدعى «ابو أيوب المصري». وتدعي صحيفة «واشنطن بوست» أن مهمة «أبو غادية» كانت رئيسية لكونه يوفر الوثائق المزورة والسكن والمال للمتطوعين قبل تأمين تسللهم الى العراق.
البيان الأول الذي صدر عن السلطات العراقية لم يكن مستقلاً عن الموقف الأميركي، بدليل أنه استنكر الغارة، ولكنه دعا دمشق الى وقف عمل «الإرهابيين» الذين يستهدفون العراق. وقرأت السلطات السورية في هذا الكلام المبطن اتهامات غير مباشرة حول تقاعسها عن ردع عمليات التسلل عبر حدودها. لذلك هددت بتأجيل موعد اجتماع اللجنة العليا السورية – العراقية المزمع عقده في بغداد يومي 12 و13 من الشهر الجاري. علماً بأن السلطات العراقية تراجعت عن الجزء الثاني من البيان الأول، مؤكدة تعاون دمشق لضبط حدودها ومراقبتها.
أما بالنسبة الى موضوع الانتقام من القيادة العسكرية الأميركية، فقد قرر مجلس الوزراء إغلاق المدرسة الأميركية والمركز الثقافي الأميركي في دمشق، والسماح بإطلاق تظاهرة ضخمة تعبر عن عمق الاستنكار والشجب للاعتداء السافر على سيادة دولة مستقلة، خصوصاً أنه ليست بين سورية والولايات المتحدة حال احتراب تبرر الغارة. واللافت انها حدثت في وقت انخفضت فيه نسبة العنف داخل العراق الى أدنى درجاتها. كما جاء توقيتها عقب تصريح الجنرال ديفيد بترايوس، الذي أثنى على الجهود السورية في مراقبة حدودها ومنع تدفق المتطوعين للقتال ضد القوات الأميركية في العراق.
الحكومة السورية طلبت من الأمم المتحدة تحميل واشنطن مسؤولية هذه العملية التي وصفها وزير الخارجية وليد المعلم في لندن، بأنها «إرهابية بامتياز». وفي الرسالة الموجهة الى أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، طالبت دمشق بضرورة إجراء تحقيق كامل منعاً لتكرار الاعتداء بشكل يتنافى مع ميثاق الجامعة العربية ومع القانون الدولي.
واستند الرئيس الاميركي في تبرير هجمات قواته في باكستان وافغانستان، الى حجة «قانونية» واهية كانت السبب في نسف اتفاقية 17 أيار (مايو) 1983، بين لبنان واسرائيل. اي حجة «الملاحقة الساخنة» التي تسمح لاسرائيل بتجاوز الحدود اللبنانية من أجل القيام بعملية محدودة ثم الانسحاب. والذريعة التي قدمت في حينه ان الدولة اللبنانية عاجزة عن ضبط عمليات المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي تتولاه سلطات اسرائيل.
ومن مبدأ الدفاع عن النفس انطلق الرئيس بوش لتغليف الهجوم بحجة تبرر شن هجمات داخل دول ليست في حال حرب مع الولايات المتحدة. ويقضي هذا النهج الذي أعلنه بوش، بمهاجمة مقاتلين من دول غريبة يهددون مصالح أميركا أو مصالح حلفائها. وحجته ان سورية لم تكن مستهدفة، بل المستهدف هو «أبو غادية» الذي يستبيح الأراضي السورية.
وفي تفسير لناطق باسم البيت الابيض، اشارات الى الفارق القانوني بين «الحرب الاستباقية» التي أقرتها ادارة بوش عقب هجمات 11 أيلول والتي تقتصر أهدافها على الحكومات وجيوشها (مثلما حدث في العراق)… وحرب الدفاع عن النفس كالتي استهدفت «ابو غادية» في سورية.
أثناء استقباله للسفراء العرب والاجانب، رفض نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، المبررات الأميركية، وقال إنها تسمح بنشر شريعة الغاب في العلاقات الدولية.
يبقى السؤال المتعلق بتوقيت الهجوم، خصوصاً ان نشاط «أبو غادية» – حسب كلام واشنطن – لم يتوقف منذ سنة 2006. وفي ضوء هذه الخلفية تعددت التحاليل التي تقول إن وراء العملية العسكرية أهدافاً سياسية وربما حربية أيضاً.
في مقدم التفسيرات يأتي عجز الإدارة الأميركية عن تمرير الاتفاقية الأمنية في العراق، واصرار حكومة المالكي على اجراء تعديلات على المسودة النهائية. وبما أن القيادة الأميركية لا تؤيد انسحاب قواتها قريباً لئلا تظهر بمظهر القوة المهزومة، لذلك ضخمت حجم الدور الذي يقوم به «أبو غادية»، كي تظهر سورية كعامل عرقلة في طريق الانسحاب من موقع مشرف، أو من موقع المنتصر. تماماً مثلما كان هنري كيسنجر يأمر بضرب كمبوديا كلما تعرضت القوات الأميركية لهزيمة في فيتنام. ويقارن المراقبون بين الغارة داخل الأراضي السورية وبين عملية الانزال الأميركي في باكستان. ومن المؤكد أن التماثل بينهما يعكس صورة الإدارة الأميركية الضعيفة التي تغرق في مستنقعات هزائمها داخل العراق وافغانستان وباكستان.
وتسعى الإدارة الأميركية الى الاستعانة بالقانون الدولي، خصوصاً بالمادة 51 من شرعة الأمم المتحدة لتبرير اعتداءاتها في باكستان وسورية. وتنص المادة على حق الأفراد والدول في الدفاع عن النفس، وشن هجمات عسكرية داخل أراض ذات سيادة بسبب إخلالها بواجباتها الأمنية. وأول الواجبات يركز على وقف تهديد الإرهابيين لمصالح دول أخرى. وعلى هذه المادة استندت تركيا لملاحقة «حزب العمال الكردستاني».
السبب الثاني في هذا السياق، حددته حاجة المرشح الجمهوري ماكين الى تأجيج الوضع في العراق بحيث يطرح نفسه كمنقذ يتقن فن الحروب. وربما توقعت الاستخبارات الأميركية التي خططت عملية الكوماندوس هذه، أن تقود ردود فعل سورية الى صدامات مسلحة، الأمر الذي يجعل من مهمة الفائز الديموقراطي أوباما، مهمة صعبة. والمعروف ان الدولة السورية تتمتع بأفضل العلاقات مع طاقم أوباما الانتخابي، وان هذه العلاقات ستفتح له باب الحوار سريعاً مع دمشق وطهران. لهذه الاسباب وسواها لم تتضرر سياسة الانفتاح مع فرنسا وبريطانيا، بل حافظت الدولتان على اجواء التفاهم كمقدمة لاستمالة دول أوروبية أخرى باتجاه دمشق.
بين الأسباب التي يجري الحديث عنها فكرة عزل العراق عن شقيقاته العربيات، خصوصاً ان موجة الانفتاح عليه من قبل سورية ومصر وسائر الدول، ستقوي مناعاته الداخلية وتقلل من اعتماده على القوات الأميركية، ويحتمل ان يكون الاميركيون بدأوا يستوعبون حاجتهم القصوى من عزل العراق.
وترى واشنطن ان القتال ضد الارهاب في قواعده لن يكون مجدياً إذا لم تمنع عنه العلاقات الخارجية التي تتيح له إدخال المقاتلين والسلاح والمال والضغط الخارجي.
ومن هذه الوقائع والتحاليل، يخرج سؤال آخر يتعلق بأمن سورية، وما إذا كانت اسرائيل ستكرر عبر جنوب لبنان ما اخفقت القوات الأميركية في تحقيقه من جهة العراق؟
يوم الاثنين الماضي اجتمع وزير الدفاع ايهود باراك بقائد «اليونيفيل»، وحذره من تغاضي جنوده عن عملية تتعلق بنقل بطاريات صواريخ مضادة للطائرات من سورية الى «حزب الله»، وقال باراك ان بلاده لا ترى في ذلك خرقاً للقرار 1701، بل ترى فيه خرقاً للتوازن ايضاً لأن الصواريخ تهدد حرية الطيران فوق الاراضي اللبنانية. وتدعي صحيفة «يديعوت احرونوت» ان اسرائيل قدمت شكوى مماثلة قبل ثلاثة أشهر.
وترى «اليونيفيل» ان باراك لا يدعم مزاعمه بالبراهين والقرائن، وان ادعاءاته قد لا تكون أكثر من ذريعة يقدمها لجورج بوش بحيث يستخدمها ضمن المدة التي تجيز له توظيف صلاحياته الدستورية!
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة – 01/11/08