صفحات سورية

الاسترخاء الأميركي ـ السوري في لبنان لم تعكّره الغارة

نقولا ناصيف 2008
لم تنتقل وتيرة التصعيد بين واشنطن ودمشق إلى لبنان مذ ضربت طائرات أميركية قرية سورية في منطقة البوكمال عند الحدود الشرقية مع العراق (26 تشرين الأول)، واقتصرت ردود فعل الطرفين على حدّة الخطاب الدبلوماسي والحملات والاتهامات، ارتفعت نبرتها مع الشكوى السورية إلى الأمم المتحدة (28 تشرين الأول) ثم إعلان دمشق إقفال مدرسة ومركز ثقافي أميركي اليوم التالي. سرعان ما ضاعفت دمشق ردود فعلها بإطلاق تظاهرات شعبية مستنكرة الاعتداء الأميركي، عند هذا الحدّ توقف التصعيد مؤشراً إلى أن البلدين غير راغبين، حتى الآن على الأقل، في الذهاب في المواجهة إلى أبعد من تبادل الرسائل تلك. ردّ الأميركيون بإقفال السفارة أمام الجمهور الخميس في انتظار التحقق من سعي دمشق إلى رفع نبرة التشنج كي تعلن واشنطن إقفال السفارة تماماً. يقتضي ذلك إمرار الجمعة والسبت، وهما يوما عطلة رسمية في سوريا، قبل معرفة المدى الذي قد يبلغه الصخب الشعبي السوري. لكن مطّلعين عن قرب على الموقف الأميركي يتوقفون، في معرض تقويمهم الحادث الأخير، عند ملاحظات منها:
1 ــــــ أتى توقيت الغارة الأميركية مفاجئاً سياسياً. فهو تلى مرحلة بدا فيها أن واشنطن أكثر استعداداً لفتح حوار مع دمشق من غير أن تغالي في توقّع الكثير منها في مدى قريب. وهو ما عبّرت عنه مواقف وزيري الخارجية كوندوليزا رايس ووليد المعلم بعد اجتماعهما على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة (27 أيلول)، وأبرزا رغبة مشتركة في معاودة الحوار وارتياحاً إلى استقرار الوضع في لبنان، لكن دونما الخوض في تفاصيل الكثير الذي لا يزالان يختلفان عليه. فإذا بالغارة بعد شهر على اجتماع نيويورك تضع واشنطن بين تناقض الانفتاح الدبلوماسي والضربة العسكرية، وهي تجد نفسها محرجة حيال الأصداء السلبية للغارة وقد افتقرت إلى نتائج سياسية ذات مغزى، فاستغلتها دمشق لاستدرار العطف العربي والدولي.
2 ــــ سواء كانت الغارة قراراً سياسياً في سياق ممارسة مزيد من الضغط على دمشق بأسلوب مختلف، أو قراراً أمنياً أوجبته ظروف مفاجئة قدّرت الاستخبارات المركزية الأميركية ووزارة الدفاع ضرورتها لدوافع غير سياسية وعابرة، فإن ما حدث يوحي بعودة علاقات البلدين إلى تردّيها بعدما طبعها الاسترخاء منذ إقرار اتفاق الدوحة واستعادة لبنان استقراره الدستوري والأمني. ورغم أن هذا الاستقرار هو التطور الإيجابي الوحيد الذي طرأ في العلاقات الأميركية ـــ السورية في الأشهر الأخيرة، ولم تنتقل عدواه إلى ملفات العراق والتنظيمات الفلسطينية المتشدّدة والإرهاب، بدا واضحاً أن استمراره هو وليد الاسترخاء ورغبة البلدين في إبقاء لبنان محيّداً عن نزاعهما خلافاً لما رافق السنوات الثلاث الأخيرة. ومن غير أن يتخلى الأميركيون عن مواقفهم المتصلبة حيال ضرورة تقديم السوريين مزيداً من التنازلات لمصلحة لبنان وسيادته واستقلاله، رحبوا بالتبادل الدبلوماسي اللبناني ـــ السوري واستعجلوا السفارتين وترسيم الحدود.
مع ذلك، تبعاً لسياسيين لبنانيين التقوا دبلوماسياً أميركياً في الساعات المنصرمة لاستكشاف موقفه من تطورات الأيام الأخيرة، تجنّب إبداء أي انطباع سلبي حيال ردّ الفعل السلبي اللبناني على الغارة ومواقف التضامن مع سوريا واستنكار ما وصفه الرئيس ميشال سليمان بالاعتداء، وإدانة الرئيس فؤاد السنيورة التعرّض للسيادة السورية. وسواء رمى ذلك إلى تفهّم دوافع المواقف اللبنانية أو تجاهلها، لا تبدو واشنطن ودمشق متحمستين لتصعيد جديد.
3 ـــــ بحسب ما يذكره الدبلوماسي الأميركي، مشكلات البلدين مزمنة، وأن واشنطن تحرص على تذكير دمشق بها في كل اتصال بينهما، الأمر الذي أكدته رايس للمعلم ثم كرّره مساعدها لشؤون الشرق الأدنى دافيد ولش. مغزى ذلك تبعاً للدبلوماسي الأميركي أن إدارته لا تزال تعتبر المشكلة قائمة مع سوريا كأحد وجوه توتر علاقات البلدين، ويدرجها في بنود خمسة: الحدود مع لبنان، دعم سوريا للجماعات الإرهابية في المنطقة، تسرّب مقاتلين إلى العراق عبر حدودها، قضايا حقوق الإنسان في سوريا، استمرار وجود مكاتب فلسطينية فيها. كذلك يشير، في معرض دحضه استرخاء العلاقات الأميركية ـــ السورية، إلى أن إدارته وجّهت إلى السوريين بعد كشف الانتشار العسكري السوري عند الحدود الشمالية مع لبنان (22 أيلول) رسالة مفادها أنها قلقة حيال ما حصل، وهي تتعمّد القول لدمشق إن عليها عدم استخدام المشاكل في لبنان ذريعة للتدخّل في شؤونه، وهو الموقف نفسه الذي ستكرّره واشنطن لدمشق بعدما أعلن نشر جنود سوريين على الحدود الشرقية. ويتسلّح الدبلوماسي الأميركي بوجهة نظر تقول إن سوريا “دولة لم تستحق بعد ثقة المجتمع الدولي بها، وهو مبعث قلقنا من سياساتها في لبنان والمنطقة”، ويلاحظ أن لبنانيين كثيرين يشاطرون إدارته هذا الموقف ويشكّكون في جدّية الأهداف السورية.
قال أمام زواره أيضاً: “لننظر إلى الجانب الإيجابي. أعلنت عن علاقات دبلوماسية. ماذا فعلنا؟ دعمنا الخطوة على أساس الاحترام المتبادل وترسيم الحدود. وبعد زيارة الرئيس اللبناني لدمشق بلغنا أن السيطرة على الحدود بين البلدين صارت أفضل، وبلغنا أن الحوار استؤنف بين الجيشين اللبناني والسوري. هذه مؤشرات إيجابية نؤيدها. وإذا واظبت سوريا على هذه الخطة فسيكون الأمر جيداً للبلدين وحيال المجتمع الدولي”.
(الأخبار) ، السبت 1 تشرين الثاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى