صفحات سورية

استهدافات الغارة الأميركية على سورية

توفيق المديني
العدوان الأميركي الذي استهدف منطقة البوكمال -مزرعة السكرية- والذي أدى إلى استشهاد ثمانية مواطنين سوريين وجرح آخرين، في السادس والعشرين من شهر أكتوبر الماضي، يشكل استمرارا للنهج الذي سلكته الإدارة الأميركية الحالية في محاولة لصرف الأنظار عن الأزمات التي تعانيها في كل من أفغانستان والعراق، إضافة إلى الداخل الأميركي، من جراء تداعيات الأزمة المالية العالمية على شعبية الحزب الجمهوري الذي شهد تراجعا كبيرا في ظل إخفاقات الرئيس بوش في مجال السياسة الخارجية.
الذريعة التي اتخذتها الولايات المتحدة الأميركية للقيام بهذه الغارة التي نفذتها وحدات خاصة أميركية هي ملاحقة رجل يدعى «أبو غدية» قالت إنه المسؤول عن تهريب المقاتلين الأجانب والأموال إلى العراق، إذ أفاد مسؤول أميركي أن «أبو غدية» كان مساعداً سابقاً لزعيم تنظيم «القاعدة» في العراق أبو مصعب الزرقاوي الذي قتلته القوات الأميركية العام 2006.
ووصفت وزارة الخزانة الأميركية «أبو غدية» بأنه أحد أهم أربعة مسؤولين في تنظيم «القاعدة» العراقي الذين يقيمون في سورية.
اللافت أن هذا العدوان لم يحصل في الفترة غير القصيرة التي راج فيها الحديث من قبل أقطاب الإدارة الأميركية الحالية عن تغيير الأنظمة القائمة في المنطقة، في ذروة احتلالها للعراق، بل حصل عقب نجاح السياسة السورية في فك العزلة الدولية التي عانت منها دمشق طيلة الولايتين للرئيس بوش.
والحقيقة أن البحث لفهم ماجرى يجب رؤيته في التحديات التي تمثلها سورية للولايات المتحدة الأميركية، بداية ما تطلق عليه واشنطن «تسهيل تسلل المقاتلين الأجانب عبر الأراضي السورية»، ومن خلال العلاقة الاستراتيجية التي تقيمها دمشق مع حركات المقاومة الإسلامية «حماس » و«حزب الله»، وانتهاء بتحالفها الاستراتيجي مع إيران منذ قيام الثورة الإسلامية في طهران.
إن سياسة الإدارة الأميركية تستهدف بالدرجة الرئيسة تأمين حماية الأمن الأميركي المتلازم مع الأمن الصهيوني، والقضاء على ما تسميه الإدارة الأميركية بؤر الإرهاب، الذي يدخل في سياق تحقيق الهيمنة الأميركية وتلبية مطالب المجتمع الصناعي العسكري، وضمان التفوق الصهيوني الحاسم على الدول العربية.. ومن هذا المنظار، فإن السياسة الأميركية في ظل بناء مشروع «الشرق الأوسط الكبير» تقوم على اتباع أساليب إلحاق الهزيمة العسكرية بالدول المناوئة للولايات المتحدة الأميركية والقضاء على القوى الإسلامية الجهادية، واليسارية، والديمقراطية الرافضة للمشروع الأميركي وتذرير المنطقة إلى تيارات يراد لها أن تكون نابذة إلى أبعد حد، وإيكال الدفاع عن الديمقراطية إلى نخب أقلوية، عديمة الانغراس في تربة أوطانها وأمتها، باحثة عن الوسيلة الأسرع للقفز فوق المسألة الوطنية من أجل الدخول في رحاب الليبرالية الأميركية التي تقتل الإنسان في عالم الجنوب.
ولعل السياسة الأميركية في استقطاب الحكام العرب من ضمن استراتيجية الحرب على الإرهاب، ولاسيما بعدما احتلت العراق، وارتمت ليبيا في أحضان المعسكر الغربي، إنما تهدف إلى كسر ما تبقى من شوكة العرب القومية، لأن ليبيا والعراق من بقايا معسكر الرفض العربي، ولأنهما دولتان تتوفر فيهما إمكانات غير قليلة إذا وظفت بشكل صحيح. ومع انهيار كل مراكز الرفض العربي في أعقاب الحرب الأنكلو-أميركية على العراق، وسيادة منطق ومفهوم الاستجابة لمتطلبات وشروط المرحلة الجديدة المتمثلة في تطبيع العلاقات العربية-الأميركية-الصهيونية، بإملاءات الواقع وانخراط الحكم العربي الرسمي في هذا المسار على خلفية وحدانية الولايات المتحدة الأميركية، بدأت تمارس الضغوطات القوية على سورية بهدف نزع أسلحة سورية السياسية، وتحجيم قواتها العسكرية بما في ذلك إخراجها من لبنان، وصولا إلى فصل السياسة اللبنانية عن السياسة السورية.
لقد ظلت العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وسورية، على مدى العقود الماضية، علاقات معقدة. فسورية هي الدولة الوحيدة التي حددتها واشنطن كدولة راعية للإرهاب، ومع ذلك ظلت ترتبط معها بعلاقات دبلوماسية عادية.
وعلى الرغم من أن سورية تعاونت مع الولايات المتحدة الأميركية في الحملة على الارهاب منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، ولم تعمد إلى وضع العراقيل الجدية، وأكدت مرارا أنها تريد التفاهم والحوار لا المجابهة مع واشنطن، إلا أن صقور المحافظين الجدد الذين تتمركز معاقلهم بصورة أساسية في القيادة المدنية للبنتاغون، وفي مكتب ديك تشيني، ظلوا يتهمون سورية بأنها تطور برنامج أسلحة التدمير الشامل، وترفض طرد الفصائل الفلسطينية المقاومة وإغلاق مكاتبها في دمشق، ويثيرون مسألة إخفاق سورية المزعوم في التعاون الكامل مع الاحتلال ليبرروا بذلك انتهاج سياسة «تغيير النظام» في دمشق.
على أية حال، هم يقولون على سورية أن تختار بين خيارين: الأول خيار القذافي الذي يعني الخضوع الكامل. والثاني خيار صدام حسين الذي يعني الانتحار السياسي.
ومنذ سحب السفير الأميركي من دمشق العام 2005، واستمرار التصعيد الأميركي ضد سورية، انتهجت السياسة السورية سياسة المعاملة بالمثل مع واشنطن، يتجلى في العديد من ردود الأفعال السورية، منها طرد بعض منظمات المجتمع المدني من دمشق مثل منظمة أميديست التعليمية، وكذلك هيئة فولبرايت للتبادل الطلابي الثقافي.
بيد أن تعاون سورية ضد تنظيم القاعدة الذي جاء في إطار مكافحة الإرهاب -وهو تعاون تقدره الولايات المتحدة الأميركية عاليا- لم يعوض عن انتهاج دمشق سياسة ذكية في التعامل مع قضايا المنطقة الساخنة، ولاسيما دعمها للمنظمات الجهادية المقاومة مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، وهي الحركات التي تعتبرها أميركا أهدافا ذات أولوية عالية، في حركتها ضد الإرهاب، ظهر ذلك بوضوح في الحرب الإسرائيلية- اللبنانية (يوليو 2006)، إضافة إلى تعزيز العلاقات السورية -الإيرانية، بعدما أصبحت طهران الحضن الوحيد الذي بإمكانه استيعاب واستغلال النفوذ السوري في المنطقة، في وقت رفضت الولايات المتحدة التمتع به مقابل خيار العزلة الدولية، حسب ماذكره التقرير الحديث الصادر عن مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك بالتعاون مع معهد السلام الأميركي، والذي أعده كل من منى يعقوبيان وسكوت لاسنسكي الباحثين في المعهد الأميركي للسلام.
كاتب من تونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى