صفحات سورية

أوليست تجديداً للاستقالة من السياسة

null


حسن شامي

مع ان عرباً كثيرين لا يتوقعون شيئاً يعتد به من القمة العربية المرتقب عقدها في العاصمة السورية دمشق، الاسبوع المقبل، فإن هناك فارقاً بين هذه القمة وبين سابقاتها. والفارق هذا يكاد، هذه المرة، يقتصر على النوع الأدبي الذي تستلهمه وقائع أو فصول التحضيرات لعقد المؤتمر الموصوف دائماً بأنه قمة.
لنقل إن القمم العربية السابقة، بما في ذلك قمة بيروت التي أنتجت عام 2002 المبادرة العربية للسلام والاجماع عليها، بقيت أقرب الى البلاغة الشعرية التقليدية، العمودية والخطابية الموزونة، تلك التي تقول كلاماً يعوزه الكثير من الفعل واستجماع شروطه والقدرة على تفعيله كي يكون كلاماً سياسياً. لقد رُفضت هذه المبادرة فور صدورها من الطرف الآخر الذي كان يمثله آنذاك رئيس الحكومة الاسرائيلية آرييل شارون. ولم يظهر في عواصم القوى الدولية المؤثرة والنافذة أي مؤشر على امكان حمل هذه المبادرة «التاريخية» على محمل الجد. وقد تصرف النظام العربي مع ذينك الرفض والاهمال كما لو انهما تعبير عن الرشق بمحبرة. انها حادثة «أدبية» من طراز تلك التي عرفها شاعر كبير مثل المتنبي في بلاط سيف الدولة.

الجديد الذي تشي به، على ما يبدو، القمة الدمشقية المرتقبة في أواخر الشهر الجاري، يكمن في اقترابها أكثر من النثر، ومن الرواية البوليسية تحديداً. فالتحضيرات الجارية منذ أسابيع لهذه القمة ترافقها نقاشات لا تخلو من السخونة وتولّد مناخاً حافلاً بالتشويق والاثارة لمعرفة من سيحضر وكيف سيكون مستوى التمثيل وحيثياته، وما هو جدول أعمال القمة… الخ.

ثمة، هذه المرة، حبكة ولغز وعقدة تتمثل على نحو خاص بالعقدة اللبنانية. سيكون مصير القمة معلقاً، في نظر البعض، على معرفة ما اذا كانت ستنجح في فك العقدة اللبنانية، أم ستنجح في نقلها الى فصول اخرى من التشويق الذي يستأنف تجديدها. وثمة بالطبع من يعتبر العقدة اللبنانية ثانوية قياساً على العقدة الاعظم، أم العقد، أي المشكلة (وليس القضية) الفلسطينية. لا نبالغ اذا قلنا ان القمة العربية في دمشق ستجرى حرفياً على ايقاع وفي مناخ رواية بوليسية يتفق الجميع على صفتها البوليسية الأدبية ويختلفون على تحديد عقدتها. هذا تقريباً كل ما في الامر. وهذه طريقة للقول ان القمم العربية أصبحت منذ عقود ضرباً من الفولكلور الأدبي ليس الا. إنها طقس تذكاري أو استذكاري. القمة ليست سوى مناسبة تقع دورياً وبانتظام للتذكير، وإن في حدود التكريم الرمزي، بأن هناك عالماً عربياً. وفي الامر هذا مفارقة كبيرة، اذ يجرى الاحتفاء بشيء لم يكن، شيء لم يصنعه العرب في ماضيهم القريب. بل حتى إن القسم الاكبر منهم يستحسن فشل وإخفاق المحاولات التي سعت الى توليفهم تدريجاً في جسم ذي صفة سياسية. وسيصل العرب عاجلاً أو آجلاً الى اللحظة التي لا يعود ممكناً فيها تجنّب الاسئلة الموجعة لأنها الاسئلة الحقيقية التي يعقد عليها، أي على معالجتها، مصيرهم التاريخي: هل يشكل العالم العربي جسماً قابلاً لأن يكون جسماً سياسياً؟ وهل هناك رابطة ما تجمع بين متحدثين بلغة واحدة ويتشاركون في الكثير من القسمات الثقافية ومن حوادث التاريخ، من دون انقسام حول رواية هذا التاريخ؟ هل هناك ضرورة لجعل هذا الجسم الحافل بتشكلات اجتماعية محلية ووطنية شديدة التفاوت، افقاً سياسياً، وكيف يتم تعهد شروط هذا البناء؟

من دون الاجابة، او في الاقل محاولات الاجابة، عن هذه الاسئلة، ستبقى القمم العربية مجرد فولكلور أدبي وأيديولوجي. كلمة أخرى، ستكون القمم إعلاناً دورياً عن «قمة» الاستقالة من السياسة بما هي فن الممكن وصفته. وفي هذا المعنى لا تفعل القمم العربية سوى تعزيز الشعور لدى قطاعات اجتماعية عريضة، بالعلاقة السلبية مع تاريخهم بالذات، ما دام هذا التاريخ شيئاً يصنعه الآخرون بحيث لا يكون للعرب، نظاماً ونخباً وسلوكات، سوى التأقلم (أو عدم التأقلم) مع مفاعيله ونتائجه. وها هنا تتفاوت، بطبيعة الحال، أشكال التعبير عن ضرورات هذا التأقلم أو عدمه. وليس مستغرباً، في هذه الحال، ان يفصّل المراقب البحث عن دلالة القمة في أنشطة لاعبين آخرين، اذ يمكن هذه الانشطة ان تحمل صفة الفعل السياسي.

قد نجد ذلك في زيارة المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل الى اسرائيل، وإلقائها خطاباً في الكنيست الاسرائيلي، بالعبرية والألمانية، تمحور على عقدة الذنب الالمانية حيال اليهود بسبب المحرقة التي ارتكبها النازيون والتي تجعل الألمان يشعرون بالعار والخزي. وهي توقفت بطريقة ملحوظة عند التهديدات الإيرانية لإسرائيل وأرفقت ذلك بتصريح غريب في بابه، اذ اعتبرت أن «ليس على العالم ان يثبت ان ايران تعمل على صنع القنبلة الذرية، بل على ايران ان تقنع العالم بأنها لا تسعى الى امتلاك السلاح النووي». ولم يمنعها هذا التشديد على الصداقة الالمانية مع اسرائيل والالتزام بحماية أمنها من اعتبار ان إطلاق الصواريخ من غزة والاستيطان الاسرائيلي يشكلان عقبة أمام السلام بين الفلسطينيين والدولة العبرية. سيكون، في ظل التشدد الغربي مع ايران واسترخائه حيال الاستيطان، سيكون على الحكومة الاسرائيلية ان تثبت ان توسيع الاستيطان ليس عقبة أمام السلام. فقد أعلن ايهود أولمرت عن مواصلة البناء الاستيطاني في القدس الشرقية وحولها وذلك قبل ساعات من اول لقاء لاستئناف المفاوضات المعلقة منذ العدوان الاخير على غزة. اقصى ما يمكن ان يترتب على تصريح من هذا النوع، هو ارباك المفاوض الفلسطيني، أي السلطة الوطنية برئاسة محمود عباس، وقطع الطريق امام مبادرات تجديد الحوار والتفاهم مع حركة حماس. وليس هناك ما يحرج أولمرت. فنائب الرئيس الاميركي ديك تشيني يقوم بجولة في الشرق الاوسط، حاملاً البندقية بيد وعقوداً ومشاريع صفقات باليد الاخرى. فهو أعلن عن بقاء القوات الاميركية في العراق حتى «لو تعب الآخرون»، ودعا العرب الى زيادة تمثيلهم ودورهم لمواجهة النفوذ الإيراني، كما دعا الى اقرار قانون النفط العراقي.

بالتزامن مع جولة تشيني، أعلن المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية جون ماكين، من العاصمة الأردنية عمان أنه يؤيد «ان تكون القدس عاصمة لاسرائيل». وزيارة ماكين الى المنطقة لم تكن من دون نكهة ايديولوجية. وقد تولى السيناتور جوزيف ليبرمان الذي رافق ماكين، بث هذه النكهة. فهو رأى ان العالم يشهد صراعاً بين المتطرفين والمعتدلين، وشدد على اصرار الادارة الاميركية على «تحقيق النصر في العراق، وإلا فقدت صدقيتها، ونجحت القاعدة في مسعاها وهيمنت على منطقة الشرق الاوسط بكاملها». ينبغي وضع خط تحت العبارة الاخيرة لأنها تحيل على الادارة الاميركية، وتمنحها وكالة تنوب بموجبها عن أنظمة المنطقة ومجتمعاتها في مهمة معالجة ظاهرة القاعدة التي تفتقر أصلاً الى أي بيئة اجتماعية – وطنية. ولا يقول هذا إلا من يحسب أنه نجح في صناعة الخصم الذي يناسبه. لن يعترض أحد جدياً على ذلك، فالوقت هو اليوم للوعي الشقي، أي لمعالجة الشقاء العربي… باستبطانه وتقديم ذلك في صورة راشدة، «قمة» في الرشد والاعتدال.

الحياة – 23/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى