أميركا المعتدية وسوريا المتعدّية
هوشنك بروكا
تصدّرت أخبار الغارة التي نفذها الجيش الأمريكي، الأحد الماضي، على “مزرعة السكرية” في منطقة البوكمال التابعة لمحافظة دير الزور السورية الحدودية مع العراق، في الأيام الأخيرة، الصفحات الأولى من الصحف العربية والعالمية، خبراً وتعليقاً وتحليلاً.
الغارة التي تمت بإستخدام أربع مروحيات أمريكية، والتي أدت إلى مقتل ثمانية أشخاص، بينهم أفراد عائلة بأكملها، حدثت بحسب مصادر أمريكية وعراقية، بناءً على معلومات إستخباراتية أكدت على “وجود شبكة إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة، كان لا بد من ملاحقتها”. عليه، فإنّ الغارة “استهدفت منطقة حدودية داخل سورية تنطلق منها عناصر مسلحة تنشط في العراق”، كما جاء في تصريحات رسميين عراقيين وأمريكيين.
أما سوريا الرسمية فهاجت كعادتها وكالت كلاماً ثقيلاً جداً(أكبر من وزنها بكثير) على أميركا فوصفتها ب”المعتدية”، و”العدوانية”، و”الإرهابية”، و”المجرمة”، و”الكاذبة”، و”الخارجة عن الأخلاق الدولية”، وسوى ذلك من الأوصاف التي اشتهر بها قاموس سوريا الشعاراتية الرسمية، المشهورة في صناعة الأعداء الدائمين الأبدييين، كأبدية حاكمها الأوحد منذ ما يقرب من أربعة عقودٍ من الزمان الديكتاتوري الأصعب في تاريخ سوريا الحديث.
في مؤتمره الصحفي المشترك مع نظيره البريطاني، وصف وزير الخارجية السوري وليد المعلم، الغارة الأمريكية على بلاده ب”العدوان االإرهابي والإجرامي” وأضاف “إن بعض من يعمل في الإدارة الأميركية يتبع شريعة الغاب أو ما يسمى بسياسة الكاوبوي”، على حد قوله.
هذه ليست المرة الأولى(وربما لن تكون الأخيرة) التي تقوم فيها أميركا بإختراق المجال الجوي السوري و”الإعتداء” عليها في عقر دارها. ففي العام 2005 كانت القوات الأمريكية المرابطة على الحدود السوريةـ العراقية قد قامت بعملية إنزال جوي أكبر، في الجنوب من ذات منطقة البوكمال الحدودية، ودخلت في اشتباكٍ مسلح مع أهالي المنطقة، مما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى بين الطرفين.
مشكلة الحدود مع العراق بين سوريا وأميركا، هي مشكلة كبيرة “قديمة جديدة”، قائمة منذ أن أصبحت أميركا “جارةً” لسوريا، على طول حدودها مع العراق سنة 2003.
منذ “أميركا الجارة” والعراق يشتكي لدى شقيقته العربية سوريا، من “تسلل الإرهابين” عبر أراضيها. فالعراق الرسمي قال مراراً مؤكداً ب”الأدلة القاطعة”، أن “الأراضي السورية تستخدم مسرحاً لنشاطات تنظيمات إرهابية معادية للعراق”، وهو ذات الكلام الذي كرره الناطق بإسم الحكومة العراقية علي الدباغ بعيد الغارة، قائلاً: “المنطقة التي استهدفتها الغارة كانت مسرحاً لتنظيمات معادية للعراق، تنطلق من سوريا.. كان اخرها مجموعة قتلت 19 شخصًا من الداخلية العراقية في قرية حدودية” مشيرًا الى ان “العراق طلب من السلطات السورية تسليم المجموعة التي تتخذ من سوريا مقرًا لنشاطاتها المعادية للعراق” (إيلاف، 27.10.08).
ل”الإعتداء” الأمريكي على سوريا، إذن، مبرراته العراقية، لأن مصلحة العراق تقتضي اجتثاث الإرهاب المهدد لأمنه واستقراره، وملاحقته عبر حدودها مع الجيران، طالما أن سوريا الجارة، لا تحترم حقوق الجيرة، وتبيح للخلايا والتنظيمات الإرهابية، باستباحة دم العراق، عبر أراضيها.
وهو الأمر الذي يعطي ل”الإعتداء” الأمريكي شرعيته طالما أنّ سوريا تأوي وتموّل وتدرب وتنظم المعتدين الإرهابيين لتفجير عراق(ها) العربي، وتطعنه من الخلف، أيما طعنٍ، عبر تشكيلاتها الإرهابية “الخاصة جداً”، المهرّبة إلى مدنه، شمالاً ووسطاً وجنوباً، والمدشنة والمدبرة بعقل مخابراتي سوري، والمصنّعة خصيصاً لقتل العراق وتهديمه وزعزعة أمنه واستقراره.
امريكا “اعتدت” على سوريا، هذا صحيح.. ولكنها اعتدت على طريقة الشريعة العراقية الحمورابية: “العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم”.
أميركا “اعتدت” والمعتدي، أياً كان، يستحق، بدون أدنى شك، أكثر من إدانة وأكثر من استنكار وأكثر من وقفة إنسانية مع المعتدى عليه، لا سيما إن كانت الضحية من المدنيين العزّل.
فالغارة الأمريكية مُدانة بلاشك، لأنها اعتدت عبر “انتقامها” من سوريا النظام، و”سوريا الحاضنة للإرهاب”، و”سوريا المعتدية على العراق”، و”سوريا القاتلة لفرات العراق ودجلته”، اعتدت على أبرياء مدنيين عزّل، لا حول لهم ولا قوة. ولكن يجب في المقابل ألاّ ينسى المستنكرون الغاضبون على “عروبة” سوريا المعشعشة للإرهاب والصانعة له، اعتداءات نظامها وديكتاتورها المنظّمة، على العراق..كل العراق.
الجامعة العربية وأمينها العام “بكيا” في كلامٍ عاجلٍ لهما، على سوريا الشقيقة، وأعلنا عقب “الإعتداء” “تضامنهما مع سوريا(هم)، في حقها في الدفاع عن اراضيها وحماية شعبها وصون سيادتها واراضيها”.
ولكن، ماذا عن تضامنكِ مع شعب العراق، يا “جامعة العرب”؛ يا سيدة الكلام العربي الكبير من المحيط إلى الخليج؟
ماذا عن صانعة الإرهاب الأول في العراق “سوريا الشقيقة”؟
ماذا عن الحدود السورية مع عراقها الشقيق، العابرة للإرهاب المدرّب والمنظّم بإيدٍ سورية “شقيقة”، منذ سقوط بعثها الشقيق في 09 أبريل 2003؟
لماذا لا تتحجج أميركا على الجارات من شقيقات بغداد العربيات الأخريات، ك”مكة وعمان” مثلاً، ولا يشتكي العراق من “تسللات إرهابية”، عبر حدودها مع كلٍّ من السعودية والأردن، فيما كل أصابع الإتهام العراقية والأمريكية موجهة صوب “دمشق العروبة”، و”بعثها العربي المقدام”؟
على حدّ قول المثل الشعبي: اللي يدري يدري، واللي ما يدري بيقول كف عدس”.
فمن يعرف إرهاب النظام السوري يعرفه، ومن لا يعرفه سيصدق (أو يكاد) كلامها الرسمي الملفوف ب”الشرعية الدولية”، و”حقوق الإنسان”، و”حقوق المدنيين”، و”حق الشعوب”، و”حق الدول في الدفاع عن سيادتها”، وسوى ذلك من الكلام الحقاني الوديع، الذي يركبه الرسميون السوريون لصبغ سوريا به، أمام الخارج، وتجميل قبحها في الداخل، وكأنها “حمامة أكيدة”.
الذي “يدري” أفاعيل رأس النظام السوري “يدري”، وسوف يتوصل عبر هذه الدراية إلى حقيقة، مفادها أنّ “سوريا الإرهاب” هي أبعد من “كف العدس” وعقول مصدّقيه السذج، وأكبر من السيناريوهات ال”أبو عدسية”(نسبة إلى أحمد تيسير أبو عدس، القاتل المفترض للحريري، لا بل الحقيقي وفق الرواية الرسمية السورية، والذي صنعته الإستخبارات السورية، وأجبرته على تسجيل “الشريط اللعبة” قبل الجريمة ب15 يوماً)، تلك السيناريوهات التي ضحك بها الراكبون على ظهر سوريا(ولا يزال)، غصباً عن الذي يريد والذي لا يريد، على ذقن كل العالم، منذ حوالي أربعة عقودٍ من الزمان.
منذ انشقاق البعث إلى بعثين: بعث حافظ الأسد وبعث صدام حسين، وسوريا تصنع الإرهاب والقتل المنظّمَين، للعراق “الشقيق”.
اللاجئون العراقيون الذين فرّوا من بطش ديكتاتور “جمهورية الخوف” إلى سوريا منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، يعرفون جيداً كيف أنهم كانوا يحصلون على “التموين السوري” مقابل قيامهم بما كان يسمى ب”الواجب” ضد عراقهم. فمنذ أن انقطعت العلاقات الديبلوماسية بين دمشق وبغداد، بعد تسلم صدام حسين السلطة في يوليو/ تموز 1979، ووصل سوء العلاقات بينهما ذروته بعد الحرب العراقية الإيرانية، التي نشبت عام 1980 ووقفت فيها دمشق “العروبة” إلى جانب طهران “الفارسية” الأعجمية(ولا تزال عبر “محور الشر المشترك”)، مذّاك تخصصت سوريا في صناعة “الواجب الإرهابي” لعراق(ها) الشقيق، وتفننت في صناعة القتل والتخريب والهتك فيه، عبر اختراعها لبرنامج ما يمكن تسميته “الواجب مقابل الغذاء”، أي القيام بالقتل والعمليات الإرهابية داخل العراق، مقابل الحصول على الحصة التموينية، لسد الرمق.
كل اللاجئين العراقيين الذين سكنوا في مخيمات الجزيرة السورية(مخيم الهول بالقرب من مدينة الحسكة مثالاً) يعلمون جيداً، كيف كانت المخابرات السورية تنظمهم، وتدربهم، وتمولهم، وتسلحهم، وترشدهم، وثم ترسلهم على شكل “خلايا مسلحة” إلى داخل العراق، للقيام ب”الواجب البعثي”؛ أي واجب القتل والتخريب وتوابعهما، ليعودوا بعد أداء ما كُلّفوا به، إلى مواقعهم في طوابير الحصة التموينية، “سالمين غانمين”.
أهل الجزيرة ممّن احتكوا بالمشرّدين العراقيين في مهاجرهم ومخيماتهم المفصّلة سورياً، يعرفون جيداً أخبار “واجبهم القاتل” الإجباري هذا، المفروض عليهم مخابراتياً، وأخبار كرّهم وفرهم بين “سوريا الواجب” وعراقهم المفروض ب”الإرهاب السوري المستوجب”، فضلاً عن أخبار لاعودتهم، واختفائهم، وقتلهم، واقتتالهم، وتصفيتهم.
لا شك أن لا عقل سويّ يمكن أن يبرر الإرهاب، أو يشرّعه، أياً كان مصدره ودافعه، ولكن سياسياً، ربما كان هناك ما “يبرر”، سورياً، صناعة دمشق للقتل لبلدٍ شقيق، من منطلق “الإرهاب والإرهاب المضاد”، زمان حكم صدام حسين، لا سيما وأنّ هذا الأخير لم يرحم هو الآخر شقيقة عراقه سوريا، من آلة إرهابه ومفخخاته. ولكن السؤال المطروح على “سوريا اليوم”، هو : مالذي يبرر “الإرهاب السوري” في عراق الآن؛ عراق ما بعد صدام، وما بعد “البعث المنشق”، وما بعد الإستعداء ل”دمشق” وشقيقتها الفارسية طهران؟
المتمعن في طبيعة النظام السوري القائم على حكم العائلة الواحدة، الذي اختزل كل سوريا في صورة رئيسها، الذي هو كل الحكومة، وكل البرلمان، وكل القرار، وكل السلطة، من الألف إلى الياء، سيرى أن هذا النظام قد أتقن منذ ارتكابه للسلطة، اللعب مع الكبار، لعقودٍ، عبر إتقانه للعب بأوراق الآخر الشقيق، سواء في لبنان أو فلسطين أو العراق.
من هنا سوريا ك”فعل” لها محل كبير من الإعراب في “بلاد العرب أوطاني”، أتقنت “سياسة التعدي” ل”مفاعيل”، وعرفت بذلك كيف “تتعدى” في سياق أفعالها، لأكثر “من مفعول به” إرهابي، قاتل، مخرّب، ومدمّر لأمن الجيران.
فالمعروف أنّ هناك في لسان العرب أفعالاً متعدية، بعكس “الأفعال اللازمة”، تتعدى لأكثر من مفعولٍ به. وهنا استطاع النظام السوري، على مستوى صناعة الإرهاب ومفاعيله، أن يلعب بدقة وب”ذكاء مخابراتي” ممتاز، دور هذا الفعل في تعديه لأكثر من مفعولٍ به، راكب على الإرهاب، ولاعبٍ لدوره في محله من الإعراب، ليحارب عبرهم، ك”مجاهدين تحت الطلب”، أعداءه الأبديين، وكي يبقى الديكتاتور إلى الأبد، يساوي كل سوريا، فوقاً وتحتاً، أرضاً وشعباً.
هكذا كانت سوريا ولا تزال “فعلاً متعدياً” كثيراً، لمفعول به أول، في لبنان، يقوم بكامل محله من الإعراب السوري، حزب الله الشيعي المعروف بولائه ووفائه لقصر المهاجرين؛ ولمفعول به ثانٍ في فلسطين، ممثلاً بحركة حماس التي يقودها خالد مشعل من دمشق “عرين الأسد”؛ ولمفعول به ثالث في العراق، تلعب دوره كل التنظيمات الإرهابية التي تتخذ من سورياً ملاذاً ومقراً لنشاطاتها المعادية للعراق، وربما لمفعول به رابع وخامس لاحقاً، هذا فضلاً عن المفعول به الأكبر، الممثل بأجهزتها الأمنية والإستخبارتية، السرية والعلنية، والتي يقمع ويرهب ويسجن ويقتل عبر تفعيل”مفاعيلها”، كل داخل سوري معارض، أو نصف معارض، خرج عن الغناء في سرب آل الحكم وصحبه وحشمه وخدمه.
ولعبة النظام ومخابراته الأكثر قذرةً، في سياق التنسيق بين “سياسة الخارج المعتدي” و”سياسة الداخل المتعدي”، هو ركوبه الدائم ل”شعار الصمود والتصدي الضروريان لمواجهة خطر الخارج المعتدي”، لأجل التفرغ للمزيد من “التعدّي” لمفاعيل يقمع بها سوريا الداخل.
فليس من قبيل الصدفة المحضة، أن يتزامن “الإعتداء الأمريكي”، مع اعتداء سوريا النظام على
داخلها المعارض، عبر محاكمة “المحكمة المفعولة بها” لقادة إعلان دمشق(د. فداء أكرم الحوراني رئيسة المجلس الوطني، ورياض سيف رئيس مكتب الأمانة العامة، والكاتب أكرم البني، والكاتب علي عبداللة، ود. أحمد طعمة الخضر، والناقد جبر الشوفي، ود. وليد البني، ود. ياسر العيتي، والصيدلي محمد حجي درويش، والمهندس مروان العش، والتشكيلي طلال أبودان، والكاتب فايز سارة)، في 29.10.08(حيث كانت الجلسة الأولى من المحاكمة قد بدأت في ذات اليوم الذي حدثت فيه الغارة)، بسنتين ونصف، بعد أن تمّ “تجريمهم” بجنايتي “إضعاف الشعور القومي وفقاً للمادة 285 من قانون العقوبات السوري” و”نقل أنباء كاذبة وفقاً للمادة 286″
سوريا النظام توعدت ب”رد هادئ” على الغارة الأمريكية، واحتفظت بحقها الدائم، كما دائماً، بإختيار الرد المناسب في المكان والزمان المناسبين، ولكن سواء ان ردت دمشق تحت إمرة ديكتاتورها(الذي وصف الآخر العربي، عبر كلامه الهوائي، ب”أنصاف الرجال”)، على أميركا ب”هدوء” أو ب”إرهاب” عبر المفعول به الكثير المصنّع سورياً، أو لم ترد، رداً مباشراً، كما هو متوقع وحاصلٌ دائماً؛ وسواء كان الهدف الأمريكي من الغارة، هو “تقليم أظافر النظام وتحذيره”، أو كانت الغارة مجرد “تنسيق استخباراتي سوري أمريكي”، كما تناقلته وسائل الإعلام، فإن الثابت هو، أنّ النظام الذي ركب على ظهر سوريا، منذ حوالي أربعة عقودٍ عجاف، لن يغير من طبعه المعوّل عليه خارجياً(أمريكياً بشكل خاص)، والذي تطبع عليه، طيلة هذه الديكتاتورية المتوارَثة، التي أصبحت كل طبيعته، وطيلة هذا الإرهاب الممارس والمنظّم بحق الداخل السوري الدار والخارج الجار.
الثابت الذي بات في حكم المؤكد أو شبيهه، هو أن ديكتاتورية آل الأسد السورية تطبعت بإرهابَين متوازيين(إرهاب الدار وإرهاب الجار)، واستغرقت فيهما طيلة العقود الماضية، كي تتفاوض بهما مع “أعدائها الدائمين” إسرائيل وأميركا، على البقية الباقية من عمرها.
سوريا الديكتاتورية المتوارثة تعودت كيف تختبئ وراء “اعتداءات” الأعداء المكشوفة في وضح النهار، للتمادي في الإعتداء على داخلها الدار وخارجها الجار، والإستغراق فيه أكثر، عبر تعدّيها لأكثر من مفعول به إرهابي، معتمَد لدى “وكالة الإرهاب السورية”.
هوشنك بروكا
ايلاف