صفحات سورية

الغارة الأميركية على سورية: بين شفافية الغموض وغموض الشفافية

حسن شامي
الاقامة في المطهر، ولو على نحو افتراضي، ليست أمراً مريحاً لأحد، وإن كانت أفضل من الاكتواء بنار جهنم، على ما يحسب مختزلو السياسة والديبلوماسية الى وصفات خلاص ونجاة وجوديين. ففي مثل هذه الاقامة لا تبقى الحدود واضحة الا لدى الراسخين في اعتقادهم أصلاً وفصلاً. هذا ما يمكن استخلاصه، من بين أمور أخرى، من الغارة الأميركية التي شنت قبل أيام قليلة على قرية سورية في منطقة البوكمال عند الحدود السورية – العراقية. فهذه الغارة، ورود الفعل عليها، اضافة الى تعليل اسبابها وحيثياتها، تشكل نموذجاً على مجابهة غريبة، إذ ترتسم فيها شفافية مصحوبة بمقادير من الغموض، وكذلك سياسة غامضة مصحوبة بمقادير من الشفافية. الحالة الأخيرة حال الادارة السورية التي سارعت الى الاعلان «بشفافية» عن واقعة الغارة ونتائجها، خلافاً لتقليد أمني معتمد رأيناه في حوادث وغارات عسكرية أخرى وسابقة.
وبمقدار مشابه من الشفافية طالبت السلطات السورية الأميركيين بتقديم ايضاحات بشأن الغارة، وأقدمت بعد يومين على اقفال المركز الثقافي الأميركي، إضافة الى اقفال مدرسة أميركية، وطلبت من الأمم المتحدة مناقشة المسألة واتخاذ موقف واضح منها. ولئن ألقت هذه الغارة بظلالها على زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم الى لندن، وهي الأولى من نوعها منذ اربع سنوات، فإن المعلم اعتبر الغارة خلال لقاء مع صحافيين عرب وأجانب هناك، بمثابة اعتداء ارهابي سافر، واصفاً السياسة الأميركية في المنطقة بـ«شريعة الغاب وسياسة الكاوبوي»، كما استغرب واستهجن تصريح الناطق باسم الحكومة العراقية الذي وصف المنطقة المستهدفة بالغارة بأنها «مسرح لنشاطات تنظيمية معادية للعراق، تنطلق من سورية»، بل ذهب الوزير السوري الى التأكيد بعد محادثاته مع نظيره البريطاني ديفيد ميليباند، وأمام الصحافيين الذين التقى بهم، على أن سورية ستدافع عن أراضيها في حال تكرر الحادثة، مشيراً في الوقت ذاته الى أن سورية لا تريد الدخول في أيّ مواجهة.
في الجهة المقابلة، لجأت الادارة الأميركية الى مقدار من الغموض لا يتناسب كثيراً مع الشفافية المزعومة لسلطات بلد كبير لا يشك أحد في استقرار حياته الديموقراطية السياسية. فقد نقلت وكالة «اسوشيتد برس» عن مسؤول عسكري أميركي، طلب عدم الكشف عن اسمه، قوله إن وحدة من القوات الخاصة نفذت الغارة وإن هذه كانت ناجحة. وقد جاء هذا الكلام في وقت كانت قوات التحالف في العراق وهي بقيادة الولايات المتحدة، تقول إن لا معلومات لديها عن الغارة. وكانت وكالة «فرانس برس» اتصلت بناطق باسم البنتاغون فقال إنه «لا يملك جواباً» رسمياً على المعلومات حول العملية. وللمزيد من غموض الشفافية أعلن مسؤول أميركي آخر، طلب هو أيضاً عدم الكشف عن اسمه، أن مهرباً كبيراً للمقاتلين الاجانب الى العراق قتل في الغارة الأميركية. هذا فيما رفضت الناطقة باسم البيت الأبيض، دانا بيرينو، التعليق على الهجوم، كما رفض الناطق باسم الخارجية الأميركية شون ماكورماك، الاجابة عن أسئلة حول الغارة، مكتفياً بالقول: «ليست لدي تعليقات أقدمها لكم».
قد لا تكون شفافية الموقف السوري، أو وضوحه غير المألوف، هما ما دفع بالادارة الأميركية الى اطلاق تصريحات عن الغارة وأهدافها ونتائجها بعد تكتم وغموض محسوبين على الأرجح. إذ يرجح في الظن أن الإدارة الأميركية المستندة الى مبدأ شفافية القوة واستعراضها، في المعنى العريض والواسع لكلمة القوة أي غير المحمولة على الفظاظة العارية حصراً، أرادت عبر هذه الغارة اختبار السياسة السورية وامتحانها على نحو يكاد يكون دينياً. غني عن القول إن مستحقات هذا الاختبار تتعلق بالمحدثات الصعبة والمتعثرة حول الاتفاقية الأمنية بين بغداد وواشنطن، والعلاقات السورية – اللبنانية بعد الاقرار بتبادل السفراء وبالتمثيل الديبلوماسي، وبالحوار الفلسطيني بين حماس وفتح، وهو حوار متعثر بدوره، والعلاقة مع ايران، ومسار التفاوض مع اسرائيل المقبلة على انتخابات نيابية مبكرة.
لكن الاختبار لا يقتصر على هذه المستحقات التي يقاربها النظام السوري ببراغماتية متزايدة من دون أن تخلو من الغموض، ومن بعض الارتباك ربما. وهذا ما تعكسه ردود فعل أخرى على الغارة. فقد دانت جامعة الدول العربية الغارة، كما دانها رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، أما الناطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية فقال، في باريس، ان بلاده تأمل بأن يتم الكشف عن الظروف المحددة للانزال الأميركي «الذي لا نملك معلومات دقيقة» عنه. وأضاف : «اذا ثبت ان هذه الاحداث وقعت داخل سورية (كذا) فإننا نذكّر بتمسكنا باحترام سيادة اراضي الدول». يمكن بالطبع لنظام موصوف بالغموض، مثل النظام الروسي ان يكون اكثر وضوحاً من الخلطة الفرنسية. فقد اتهمت موسكو واشنطن بتأجيج التوتر الشديد الخطورة في الشرق الأوسط.
قصارى القول إن الغارة الأميركية على منطقة البوكمال الحدودية وانتهاكها للسيادة السورية، لا تفعل سوى استئناف سياسة دشنها الرئيس الأميركي المنتهية قريباً ولايته، أي جورج بوش، على ايقاع صخب ايديولوجي احدثه دعاة الثورة النيوليبرالية الدائمة من المحافظين الجدد. وقد تكون الغارة على سورية من بين الملفات الكثيرة والمضطربة التي تسعى الادارة الحالية الى توريثها للادارة المقبلة. انها سياسة الشفافية الغامضة. ووضع النظام السوري في المظهر يندرج ضمن هذا المنظار، ومنذ البداية، أي منذ حدد بوش دول محور الشر المارقة (ايران، العراق، وكوريا الشمالية). والمطهر هو مكان اختبار مفتوح اذ يمكن لصاحب الأمر ان يجد الاسترشاد غير كاف للتكفير عن ذنوب سابقة، مما يستدعي تهديده بقصاص أشد وصولاً الى الاذعان الكامل حيث لا يعود هناك سياسة وطنية تستحق بالفعل هذه الصفة. ما بين الثواب والعقاب مسرح كبير لضروب المجازفة والمضاربة. إذا كان المصنع هو مثالا لمجتمع العقلاني حتى بعد الحرب الثانية، فإن البورصة أصبحت منذ ثلاثة عقود تقريباً، مع تجويف الحركات الاجتماعية والنقابية وتحرير الاسواق ورفع العوائق أمام حرية المنافسة والاستثمار والربح السريع، هي المثال المقترح للسياسة والمجتمع والعلاقات الدولية. وها نحن أمام شفافية غامضة، وغموض شفاف. يستحسن اختيار طريق ثالث.
الحياة     – 02/11/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى