أزمــة الـتـغـيـيـر
سليمان تقي الدين
كل مشاريع التغيير في لبنان باءت بالفشل. يظهر النظام الطائفي صلابة استثنائية. الثورة الاجتماعية التي حلم بها اليسار فشلت، وكذلك الثورة الديموقراطية »البرجوازية« أمام حال التكسير المجتمعي الطائفي. يستحيل في لبنان توحيد »القاعدة« ضد »القمة« لأن هناك الكثير من الانقسامات العمودية ومن الثقافات الحصرية والفئوية التي تعيق توحيد الفئات الاجتماعية المتضررة أو المهمشة. يتدخل العامل الطائفي ببعديه الإيديولوجي والمصلحي لتعطيل عملية التغيير. العامل الطائفي هو الذي يفتح الباب للتدخل الخارجي لأنه يستجدي الحماية من المرجعيات الإقليمية والدولية كما كان الأمر منذ منتصف القرن التاسع عشر. لكن ليس هذا كل الموضوع. هناك بنية أبوية (بطريركية) تتحكّم بسلوكيات الجماعات اللبنانية بتفاوت ملحوظ بين جماعة وأخرى.
لقد تخطى الموارنة والمسيحيون عموماً جزءاً من هذه التقاليد منذ قاموا بانتفاضتهم على سلطتي الإقطاع والكنيسة وكسروا الطابع الاحتكاري المركزي للعائلات السياسية التقليدية. لا ينسحب هذا التاريخ على الجماعات الإسلامية التي استخدمت إيديولوجيات طائفية ودينية في مواجهة النظام الأبوي السابق فجدّدت الكثير من سماته ومميزاته في قياداتها الجديدة التي ولّدتها الحرب الأهلية.
في البنية البطريركية العائلية نحن بحاجة إلى مرجعية الأب وسلطته وفي الجماعة الأوسع نحن بحاجة إلى الزعيم. يؤدي الزعيم وظائف مهمة لأنه رمز وحدة الجماعة وقوتها تجاه الجماعات الأخرى. وهو المرجع لترتيب السلطة وتوزيع »الغنيمة« وإشاعة النظام بين المراتب والمصالح والنزاعات.
يتقوى دور الزعيم في البنيات ذات القاعدة الواسعة من »البرجوازية الصغيرة«. هذه الطبقة شديدة الشعور بالفردية وشديدة المنافسة بين أفرادها. تنزع بقوة إلى حصر المرجعية بالزعيم لتلافي تقدم جهات منها بعضها على بعض. مكوّن أساسي من ثقافة هذه الطبقة أنها تتقوى مادياً واجتماعياً من ارتباطها بمراكز النفوذ السلطوي.
تتقدم اجتماعياً بمقدار حصــولها على شيء من »الامتيازات« أكثر من دورها في العمل. لديها نزعات متطرفة من الحسد والتحاسد وروح المنافسة غير الشريفة المرتكزة على روحية المؤامرة. هذه الطبقة هي ركيزة أساسية لمشروع الاستبداد السياسي. هي المادة الأكثر استــجابة لرغبات الزعيم الذي يحكم الناس بهواه ويجعل من صــورته صورة خارقة للطبيعة ومن مزاجه قاعدة ومن انتهازيته أخلاقاً ومن جبنه شجاعة ومن قمعه طاعة.
تحيط بالزعيم شبكة من الأعوان متناحرة في ما بينها متحدة في الولاء له. يغدق عليها الامتيازات فتتولى تبرير سلطته وسلوكياته وتصرفاته وتقوم على تجميل الصورة. الزعيم في كل حال مستبد في الرأي لكنه أحياناً يكون عادلاً وأحياناً يكون غير عادل. أحياناً يكون صاحب رؤية وطموح وأحياناً يكون عبثياً بوهيمياً. في كل الأحوال الزعيم هو الحاضر وهو المستقبل. إنه المعبود الفعلي مهما اختار من إيديولوجيات.
لم تفلح المؤسسات السياسية الحديثة في أن تتخطى هذه البنيات والتقاليد. لقد تكيّفت معها واستفادت منها. أحزابنا السياسية أعادت إنتاج علاقات الولاء التقليدي بوسائل عصرية. استوردت أفكاراً ولم تبتكرها. أنتجت زعماء جدداً ولم تفرز قيادات. وطّدت أشكالاً من التبعية على حساب الاتحاد الطوعي الحر، عزّزت الإيمان المطلق بالمعــتقد والزعيم على حساب التفكير النقدي، أنشأت طوائف حرفية ســياسية بدلاً من أن تلغي بنيان الطوائف. اندمجت دائماً في مشــروع السلطة كلما لاحت لها الفرصة، ولم ترسم حدوداً واضــحة بين تغيير العلاقات الاجتماعية والسياسية وبين تغيير مواقع السياسة وأشخاصها. تستخدم الأفكار الليبرالية ضد الغير لتعزيز استبدادها ولتبريره. تحرّض بأدنى الغرائز لتفعيل دورها. أزمة التغيير في مجتمعنا أزمة بنيوية خطيرة تحتاج إلى نخب جذرية لم تفرزها بعد أوضاعنا الاجتماعية.
السفير