الأزمة الماليــة العالمية: أزمة نظام أم ممارسة ؟
فواز سالم كبارة
ان ما رغبت في تسليط الضوء عليه وسعيت في تبسيطه قدر الإمكان في هذا التحليل هو أن هذه الأزمة هي أبعد من أن تكون أزمة عابرة، وأقل من أن تكون مستديمة وفي مطلق الأحوال تطرح التساؤل هل أن النظام الرأسمالي ومقوماته في خطر؟ أليست التدابير التي تلجأ إليها الحكومات والمصارف المركزية نقيضاً لهذا النظام ومبادئه الأساسية؟
للإجابة على هذا التساؤل نذكر أن النظام الرأسمالي يقوم على المبادرة الفردية وحرية التجارة والمبادلات. وهذا المبدأ مكرس حاليا بالنظام العالمي الذي ترعاه اتفاقية الغات وتديره منظمة التجارة العالمية التي تنتسب إليها أكثر من خمسين دولة وتترشح دولة أخرى لدخولها. وهذا المبدأ ليس موضوع شك أو مناقشة وجدل. ولا يبدو في الأفق بوادر عودة عنه.
فالأزمة ليست أزمة تجارية اقتصادية أساسا، أقله عالميا، وبالتالي ليس النظام الرأسمالي سببا مباشرا لاندلاع هذه الأزمة. إنما الأزمة هي في الأساس أزمة مالية على خلفية استثمارية عقارية – استثمارية مالية ربحية. ولكنها ما كانت لتحصل لو أن القيمين على المؤسسات المالية والتمويلية قد عملوا بما يملي عليهم واجبهم المهني ضمن اصول النظام الرأسمالي والمالي التقنية والعلمية التي دأبت المصارف المركزية وهيئات الرقابة المصرفية وأروقة البورصات على وضعها، ونذكر هنا بمقررات بازل، وهذا ما نرغب في تسليط الضوء عليه.
-1 مراحل هذه الأزمة
في مرحلة أولى: التمويل العقاري:
أمام سياسة مستمرة ومتشبثة في مراقبة التضخم وضبطه على حساب إطلاق الاقتصاد من طريق سياسة الفوائد التي قادها الاحتياط الفيديرالي الأميركي، وأمام فائض السيولة المتوافرة في المصارف، لجأت الأخيرة إلى الإقراض العقاري بشكل موسع متجاوزة أصول التسليف (دخل المقترض وقدرته على السداد) ومعتمدة على قيمة العقار المؤمن عليه (علما أن طبيعة النظام القانوني الأميركي تسمح للمصرف بوضع اليد مباشرة على العقار في حال امتناع المدين عن سداد ما يتوجب عليه) معتقدة بأن القيم العقارية آخذة بالتصاعد.
في مرحلة ثانية: فيض السيولة:
إما لأسباب تتعلق بحاجتها إلى السيولة وإما لأسباب ربحية فحسب، قامت هذه المصارف إما مباشرة وإما من طريق مؤسسات متخصصة، بتجميع هذه القروض العقارية ضمن محفظات وأصدرت بموجبها سندات مالية ذات ريع مغر (collateralized debt obligations – CDO) عمدت إلى بيعها من مصارف ومؤسسات مالية أخرى (لتقوم الأخيرة ببيعها من زبائن – أفرادا أو شركات تأمين أو ادخار- نظرا الى عائداتها وضماناتها العقارية). وقام بعضها باستعمال هذه السيولة لاعادة تمويل قروض عقارية جديدة وهكذا تضخم حجم التمويل ليبلغ ارقاما خيالية. وقدر المحللون أن مجموع ما استثمره مصرف “ليمان براذرز” مثلا في هذه السندات بلغ حوالى 700 مليار دولار.
في مرحلة ثالثة: بوادر العجز:
حفاظا على مستوى التضخم ومنعا لارتفاعه كما سبق وأشرنا إليه، رفع الاحتياط الفدرالي أو المصرف المركزي الأميركي الفوائد. فاصبح عبء سداد الديون العقارية هذه على أصحاب الدخل المتوسط والمحدود أصعب. وبدأت بوادر التوقف عن الدفع واسترداد الأملاك العقارية تتفاقم. فقامت العبقرية المالية بمحاولة درء مخاطر السندات بإصدار سندات تأمينية مضادة (credit default swap-CDS) بحيث تدفع عندما يتعثر دفع قرض عقاري وبالتالي يتأخر سداد السندات العقارية CDO. وتهافتت المصارف على شرائها. وكان نصيب شركة التأمين الأميركية AIG منها حوالى 450 مليار دولار.
حصل كل هذا في إطار رفعت عنه الأنظمة المصرفية الائتمانية بناء لطلب من المصارف الاستثمارية منذ العام 2004 (كان بولسن رئيس مجلس إدارة مصرف غولدمان ساكس في حينه – وزير الخزانة الأميركية حاليا على رأس المطالبين برفع تطبيق الأنظمة الائتمانية على الأوراق المالية المتفرعة- derivatives والسندات – وهنا المفاجأة) بحيث بلغت قيمة السندات هذه والمتبادلة بين المصارف (وما سمى sub prime) بحسب الاحصاءات المعلنة حتى الآن ما يقارب مجموعه 60 تريليون دولار أميركي. وقد نبه اقتصاديان منذ 2002 (بافيت) و2006 (روبيني) الى مخاطر هذا البالون، وشبهها الأول بـ”اسلحة دمار شامل”.
في مرحلة رابعة: كرة الثلج:
توسعت الأزمة لأن استرداد العقارات رافقه أمران: الأول أن عددا من المالكين المقترضين عمد إلى إتلاف العقارات قبل التخلي عنها، والثاني أن المصارف المقرضة واجهت أزمة تصريف هذه العقارات نظرا الى كثرة ما عرض في السوق في وقت واحد وارتفاع فوائد التسليف لإعادة بيعها. فوجد الأفراد والمؤسسات والمصارف الاستثمارية الذين اشتروا السندات التي تمثل المحفظات العقارية المذكورة آنفا أنفسهم أمام أوراق مالية دون إيراد وقد فقدت نسبة لا يمكن تقديرها من قيمتها. ماذا نتج عن هذا ؟
-2 نتائج الأزمة المباشرة:
أولا: إن المؤسسات والمصارف التي تحمل هذه السندات وتمولها فقدت قيمة أصولها وتدنت لديها السيولة بدرجة لا يمكنها مواجهة موجباتها المالية. فتقدمت من محاكم التجارة طالبة حمايتها بموجب قانون الافلاس الفصل 11 (جاني ماي وفاني ماي وفريدي ماك).
ثانيا: نذكر أنه لبيع هذه السندات المغرية لجأت هذه المصارف التمويلية إلى المصارف الاستثمارية والمتخصصة بإدارة المحافظ (مثال غولدمان ساكس، ليمان براذرز، ميريل لينش وغيرها خارج الولايات المتحدة) لبيعها من زبائنها. ودورها هنا كوسيط لا يرتب عليها أية مخاطر. ولكن ما قامت به بعض هذه المصارف، وبما إنها معفاة من تطبيق الأنظمة الائتمانية المطبقة على المصارف التجارية وموجبات الاحتياط كما ذكرنا، أنها قامت بإقراض زبائن لها لغاية خمسة أضعاف موجوداتهم ليتمكنوا من شراء محفظات واسهم وسندات بما فيها هذه السندات وهذا ما يعرف بمفهوم الرافعة (leverage) لأنه أمام كل مليون دولار استثمار يملكه الزبون كانت تسلفه لغاية خمسة ملايين مثلا لاستثمارها في هذه السندات. ولم يعد بإمكانها تحصيل قيمة ما أقرضته لعدم قدرتها على تحصيل قيمة السندات المستثمرة وبيعها. أما الزبائن فكانت خسارتهم شاملة لمبلغ استثمارهم الأساسي، مضافا إليه تعرضهم للملاحقة لدفع قيمة رصيد القروض الممنوحة.
ومن جهتها قامت هذه المصارف بالاستثمار مباشرة في هذه السندات لعدم خضوعها للأنظمة المصرفية خاصة بعد التسهيلات التي قدمها الاحتياط الفيديرالي وهيئة الرقابة على البورصة للمصارف الاستثمارية. فتراكمت أمام هذه المصارف خسائر مباشرة ناجمة عن هذه السندات فاقدة القيمة، وخسائر ائتمانية ناتجة عن عدم دفع الزبائن الذين خسروا كل شيء وتمنعهم عن سداد ما يتوجب عليهم من القروض المشار إليها آنفا. وهذا ما حصل مع مصرف “ليمان براذرز” وغيره. وهذا ما حدا برئيس هيئة الرقابة على البورصة الأميركية على التصريح بأن سوق السندات غير منظم وغير مضبوط!
وهكذا ساور الشك المصارف حول مدى تورط كل منها في هذه السندات وامكان سقوطه في أزمة سيولة مالية كمصرف “ليمان براذرز”، فبدأت تمتنع عن تبادل السيولة اليومية وتبادل القطع الضروريين لتسيير الاقتصاد العالمي.
والجدير بالذكر أنه بما أننا نعيش في نظام العولمة الاقتصادية والمالية ، وبما أنه في بعض المناطق من العالم يوجد شغف بكل ما يصدر عن المصارف الأميركية، لم يقتصر هذا الاستثمار في السندات هذه على المصارف الأميركية بل تعداه إلى مصارف في أوروبا والخليج العربي والشرق الأوسط أي حيث يوجد رأسمال استثماري. ناهيك عن أن المصارف الاستثمارية الأميركية والسويسرية واللوكسمبورجوازية الكبرى وغيرها تضم زبائن من أنحاء العالم كافة بما فيه من الشرق الأوسط. وعندما نتحدث عن زبائن فإنما نعني مصارف ومؤسسات ائتمان واستثمار وشركات وأفراد ، فمن سلم؟
ثالثا: في مرحلة سابقة قام عدد من المصارف في العالم بتمويل عمليات مختلفة لزبائنها بضمانة هذه الأوراق المالية والسندات. وطالما كانت هذه السندات سليمة و”غير مشبوهة” كانت تعتبر القروض سليمة. ولكن منذ أن أصبحت هذه السندات بدون قيمة ورقية، اصبحت القروض الممنوحة بضمانتها وكأنها قروض بدون ضمانات وبالتالي تدهور تصنيفها الائتماني مما اضطر المصارف إلى أخذ احتياطات في ميزانياتها لقاء هذه الديون عملا بالقواعد الائتمانية المصرفية المعتمدة عالميا (قواعد بال) وهذا ما أثر على ربحيتها وأدى في بعض المصارف إلى إعلان خسائر كتابية غير محققة.
رابعا: طلبت المصارف التي تمول زبائن لقاء هذه سندات إما بتأمين ضمانات أخرى أو بتسديد القروض الممنوحة لها كما هو مشار إليه أعلاه، فلجأ عدد منهم إلى تسييل محافظهم الاستثمارية من طريق بيع ما تيسر لهم من سندات أخرى وأسهم ومواد أولية (معادن) في الأسواق المالية.
وهكذا انهارت السوق المالية وكبرت كرة الثلج.
وبينما نتحدث عن السوق العقارية، لم تظهر بعد نتائج مصارف التمويل الاستهلاكي (سيارات وحاجيات منزلية ومخازن كبرى) وبطاقات الدفع وبطاقات الائتمان والمرتبطة بحالة المستهلك الأميركي المادية، وانعكاسها على الاستهلاك في اوروبا، وهذا ما ننتظره بفارغ الصبر والقلق!
-3 التداعيات المباشرة لهذه الأزمة وطبيعتها:
أولا- التداعيات المالية المباشرة: أزمة السيولة
أ- تبخر القيم المالية:
نتيجة لما تقدم سقطت قيم السندات والأسهم والقيم المالية ناهيك عن تدني القدرة الشرائية والاستثمارية لشريحة مهمة من المستثمرين والموظفين والمواطنين الذين بين ليلة وضحاها تبخرت ثروات كانوا يعتقدون أنهم يمتلكوها. يضاف إلى ما تقدم أنه يطرح السؤال جديا عن وضعية محفظة الشركات والمؤسسات الكبرى التي تستثمر أموال المدخرين والمتقاعدين (insurance and pension funds) وماذا سيكون مستقبل عائدات آلاف المستفيدين إذا لم تلملم الأسواق المالية جراحها بسرعة!
ب- انخفاض السيولة المتداولة في السوق:
نتيجة لما تقدم انكمشت السيولة من الأسواق ومرد ذلك لثلاثة أسباب. الأول بديهي متعلق بانخفاض القيم عامة (انخفاض قيم الأوراق المالية رافقه انخفاض في قيمة المواد الأولية الأساسية مما ساعد السوق على التنفس نسبيا) . الثاني مرتبط بانعدام الثقة بين المصارف لخوفها من خسارة ودائعها مع مصرف متورط في استثمار في سندات هالكة كما حصل مع مصرف “ليمان براذرز”، واحجامها عن تبادل الاقتراض اليومي وذي الأجال. والثالث احجام اصحاب الادخار عن الايداع خوفا من المصارف نفسها. وينعكس انخفاض السيولة وانكماش الكتلة النقدية عامة احجاما في الانفاق الاستهلاكي عامة. وهذا ما سينعكس على اقتصادات الدول وقطاعات الانتاج الذي بدأت بوادره تظهر في أكثر من قطاع (السيارات، البناء، الطيران، السياحة وغيرها).
ج- توقف عمليات التسليف:
نظرا الى عدم توافر السيولة، ولانعدام الثقة بين المتعاملين وتخوفهم من تبادل القروض القصيرة والمتوسطة الأجل لتمويل عملياتهم المصرفية بما فيها عمليات تبادل القطع، ونظرا الى غلاء القروض بين المتعاملين ذوي الثقة، وبالنظر الى انخفاض قيم المحافظ بما فيها قيمة أسهم المصارف نفسها وانخفاض أصولها وأموالها الخاصة وأضطرارها إلى اتخاذ احتياطات عامة وخاصة لقاء ديون مشكوك فيها (ولو غير محققة)، لقاء كل هذه المخاطر، أصبح عدد من المصارف في وضع لا يسمح له بتقويم قروض تجارية وشخصية ولو كانت عادية ومضمونة، خاصة إذا أصبح وضعها المالي لا ينسجم مع شروط السيولة والملاءة النظامية المفروضة من قبل المصارف المركزية والمقررة في بال. وبما ان عصب النظام الاقتصادي المعاصر يقوم على التسليف الاستهلاكي والانتاجي نترك للقارئ استنتاج الآثار على الاقتصاد.
د- التخوف من تسلط الأموال الخارجة عن السيطرة والواقعة في الجنات المالية (موناكو، لوكسمبورغ، ليختنشتاين، جيرسي وغيرها من دول تعتمد السرية المصرفية) والتي لا يمكن التحكم بها ومعرفة حجمها ومصادر ودائعها وكيفية تلاعبها بالسوق وتأثيرها عليه من خلال استثمارها الكثيف في محفظات مختلفة يعتقد الرسميون أن عددا كبيرا منها يخفي تبييض أموال.
ثانيا: تحول الأزمة من أزمة سيولة مالية إلى مأزق اقتصادي وليس أزمة نظام
هنا تلامس الأزمة المالية الاقتصاد وتؤدي إلى الركود وربما إلى الانهيار. لأن الاقتصاد يعتمد بشكل رئيسي على التمويل الاستهلاكي وعلى التمويل التشغيلي اليومي وعلى التمويل الدولي الائتماني (اعتمادات وضمانات) الضرورية للمبادلات الدولية، وعلى التمويل المتوسط والطويل المدى للتجهيز والانشاء البنيوي والتي تؤمنها المصارف لقطاع الانتاج. وهذا ما فهمه أخيرا رؤساء هذا العالم. فالأزمة بداية كانت مالية وليس اقتصادية أو أزمة نظام رأسمالي. ولكنه من البديهي الاستنتاج أن هذه الأزمة كان لا بد من أن تتحول إلى أزمة اقتصادية لسببين رئيسيين: الأول متعلق بالثقة (ثقة المؤسات المالية وثقة المستهلك) وطالما لم تختف الضبابية المحيطة بموضوع السندات (sub prime) ستبقى الثقة مزعزعة بالرغم من أننا نرى أن التدابير الحكومية الأوروبية مهمة. وهذا يحتاج إلى وقت وإلى فاعلية المؤسسات المالية الحكومية في ضبط الوضع. والثاني متعلق بالاقراض والسيولة. وطالما ترتعب المصارف أو أنها في وضع لا يمكنها من الاقراض للأسباب التي ذكرناها آنفا، فإن الاقتصاد سيجمد وسيركد ويدخل مرحلة من التراجع والترقب اقلها لثلاث سنوات.
يضاف إلى ما تقدم أن تقلص القيم المالية عامة سينعكس سلبا على الحركة الاقتصادية استهلاكا فانتاجا وبالتالي فإن العجلة الاقتصادية ستصاب بركود ونقص حاد في السيولة. من هنا فإن التدابير الحكومية تصب في هذه الخانة. أي إعادة رسملة المصارف لتصبح في وضع مالي ونظامي يسمح لها بالعودة إلى التسليف. وهذا كله من صلب قواعد النظام المالي والاقتصادي الرأسمالي. وهنا نورد على سبيل التذكير مشروع تسوية الديون الذي تقدمت به جمعيات التجار منتصف عام 2003 والذي كان يتضمن تدابير مشابهة تؤدي إلى تسوية أوضاعهم المتعثرة بسبب ارتفاع الفوائد وتعويم اصولهم وضخ سيولة وبالتالي تنشيط الاقتصاد، ولكن المشروع رفض في حينه واستعاض عنه مصرف لبنان بتعميم في تشرين الأول يأخذ جانب تسوية الديون فقط.
ثالثا: الأزمة أخلاقية: – أين الحوكمة (governance)؟
يتبين مما سقناه أعلاه أن الممارسة التي قامت بها المصارف الأميركية في مراحلها المتعددة تفتقر إلى الانضباط القانوني، المصرفي والأخلاقي ويملي عليها سلوكها هم واحد ألا وهو الربحية. ويبدو أن ذلك من طبيعة الأمور في هذا البلد. ولكن لهذا البلد قواعد للعبة ايضا، الويل لمن يشذ عنها. فكيف أمكن إعفاء المصارف الاستثمارية والأوراق المالية الجانبية والمشتقة والسندات التي تصدرها من أصول الائتمان وواجبات المحافظة والاحتياط ليبلغ الاستهتار بأموال الناس وادخاراتهم ومستقبلهم أدنى الدرجات من اللامبالاة؟ ففي الواقع إنها أزمة عدم احترام قواعد النظام المالي. ففي الوقت الذي يتشاطر فيه البنك الدولي على الدول النامية وتشاطره في ذلك منظمة النقد الدولية طالبين منها التشدد في السياسة الادارية ووضع قواعد للممارسة المالية الشفافة وضبط الانفاق وهذا ما يطلق عليه قواعد الحوكمة (governance) نرى أن الولايات المتحدة باسم الربحية والجشع المادي ولاعتقادها السخيف برأينا أن السوق تنظم نفسها، وإرضاء لمجموعات الضغط المالية الاستثمارية، قامت برفع عدد من الضوابط الأساسية لعمل المصارف الاستثمارية، مما سمح لها بتجاوز المعقول ونفخ البالون الى درجة أنه انفجر بشكل مدوجدا. فالأزمة هي أزمة عدم وجود نظام إذا وليست أزمة نظام. والحل يكمن في إعادة النظام إلى عالم المال كما جاء على لسان حكام المصارف المركزية (الاوروبي والأميركي والكندي) وزعماء فرنسا وكندا واوستراليا وبريطانيا. أما التدابير التي اتخذوها فلا تمس النظام الرأسمالي لأنها ترمي إلى إعادة ضخ السيولة في التداول. ويتساءل القارئ هنا من المسؤول؟
رابعا – المسؤوليات المترتبة على الأزمة الحالية
هل هذه الأزمة وليدة القضاء والقدر؟ وإذا سلمنا بوجود أخطاء فمن المسؤول عنها؟ وكيف يمكن تداركها؟
برأينا هناك مسؤول معنوي كبير هو النظام المالي الاستثماري وفي هرميته سلسلة من المسؤولين يدفعون في اتجاه الانحراف الحاصل.
أ- الزبائن الذين لا تتوقف متطلباتهم واصرارهم على طلب المزيد من الربحية والعائدات لاستثماراتهم
ب- المساهمون الذين يتطلبون عائدات لاسهمهم ويحاسبون مجلس الادارة ورئيسه على ربحية المصرف وتصاعد نسبة الارباح السنوية ويربطون راتبهم وتعويضاتهم بنتائج المصرف.
ت- مجلس الادارة ورئيسه الذي يعكس طلب المساهمين على كوادر الادارة العامة لتنفيذ خطة الربحية المتوقعة للعام ويربط رواتبهم ومكافآتهم بالنتائج المحققة.
ث- الادارة العامة التي تحث موظفيها على العمل واستنباط الافكار واستجلاب الزبائن من أجل تحقيق الأهداف التي وضعها لهم مجلس الادارة تحت طائلة فقدان العمل.
ج- الموظفون الذي يسعون للمحافظة على استمرارية مؤسساتهم وعملهم الخ…
وهكذا دواليك والكل شريك في الرغبة بتحقيق الربح الأكيد والسريع. ومن يتقاعس يعاقب.
ولكن أين حدود الاستثمار الاقتصادي وإلى أي مدى يمكن استنباط أدوات مالية استثمارية دون مخاطر؟ وهل باسم الربحية تستباح المحرمات الاخلاقية والاقتصادية والانسانية؟ إن من يريد أن يذوق حلوها عليه أن يتوقع مرها! ويجب أن يكون هناك حد أدنى من الأخلاقيات العامة في الإدارة والممارسة ethic وهذا ما دأبت عليه معظم الشركات وعملت عليه حتى الأمم المتحدةcode of conduct for enterprises.
هذا على الصعيد المعنوي المجازي ولكن ألم يكن هناك مسؤوليات قانونية ومالية مباشرة؟ أطرح التساؤل بكل تحفظ من زاوية خبرتي المصرفية والقانونية لعدم شفافية الاوراق التي بيعت، أو على الأقل، لأن الأحجام والمبالغ التي وصلت إليها قيم السندات تفوق بتصوري قيم السوق العقارية الحقيقية وحجمها. فإما أنه حصل تضخيم للقيم للحصول على سيولة وهذه مخادعة، وإما تم إصدار سندات دون مراعاة مرجعها القانوني والاقتصادي الحقيقي. أي أنها كانت بدون قيمة حقيقية عند إصدارها (خاصة الشطرات الأخيرة منها عند بدء اكتشاف التوقف عن الدفع). وعلى كل، فقد فتحت تحقيقات وربما تعلن الحقيقة. وفي مطلق الأحوال وبموجب قانون البورصة الأميركية يعود للمستثمر المتضرر أن يطلب التأكد من صحة الأوراق المباعة إذا ما تبين له أن هناك شكاً في ذلك أو أنه حصل تلاعب في تداولها. وبالنظر الى حجم ما حصل لا أعتقد أن أحدا من كبار المستثمرين وعلى رأسهم محكمة التجارة المشرفة على تصفية المصارف الموضوعة تحت حمايتها بموجب الفصل 11 من قانون الافلاس سيوفر الفرصة للتأكد من ذلك.
-4 ما هو الحل؟ سبل المعالجة
يكمن الحل في إعادة الثقة إلى السوق من طريق إعادة جميع المتعاملين إلى حظيرة النظام والقانون الذي يكفل الشفافية والتوازن واحترام الضوابط التي تمنع الاستهتار بأبسط مقومات التحفظ والاحتراز وصيانة أموال المتعاملين ومدخراتهم. ويتم ذلك من طريق التدابير التالية والتي بعض منها موجود في التشريعات المصرفية وتوصيات بال، إلا أنه تم الخروج عنها أوالتخفيف منها مؤخرا باسم حرية السوق في الولايات المتحدة الأميركية:
على الصعيد العملي:
-1 وفي مرحلة أولى يجب التوقف عن التهافت على بيع الأصول والمحافظ والمساهمة في انخفاضها إلا لمن له حاجة ملحة في ذلك
وعلى صعيد التدابير:
-2 الفصل بين المصارف التجارية والمصارف الاستثمارية أي المصارف التي تكمن وظيفتها في تشغيل محفظة أموال المستثمرين أي أنهم وسطاء.
-3 منع المصارف الاستثمارية من الاستثمار مباشرة في الأسواق.
-4 منع المصارف الاستثمارية من تسليف زبائنها.
-5 منع التسليف والاقراض من أجل الاستثمار في البورصة من أجل المضاربة واقتصار التسليف على استثمار متوسط وطويل الاجل في الشركات من أجل تكوين رأسمال.
-6 إخضاع المصارف عامة بما فيها المصارف الاستثمارية لأجهزة الرقابة المصرفية إضافة لخضوع الأخيرة لرقابة هيئة الرقابة على البورصة والأوراق المالية.
-7 لا يمكن تداول أي منتج مالي (سند أو أسهم أو أوراق جانبية) وغيرها إلا من خلال البورصة وبعد موافقة هيئة رقابة البورصة عليها ويكون المنتج المالي ممهوراً بشهادة مدقق مالي ومحاسبي عالمي يمكن الرجوع إليه لفهم تفاصيله ويتحمل مسؤوليته.
-8 التشديد على مسؤولية أجهزة التدقيق والرقابة المحاسبية في تقاريرهم عن الشركات والصناديق المالية والأوراق المالية المتداولة.
-9 التشديد على مسؤولية أجهزة التصنيف الائتماني العالمية في تقويمها للشركات والدول والاوراق المالية المتداولة.
-10 يجب تعزيز حق حملة الأوراق في ملاحقة المصارف الاستثمارية (والعملاء الوسطاء في البورصة) الذين يدفعون في اتجاه شراء اسهم أو اوراق معينة مما يعرف في بعض التشريعات بواجب الشفافية والنصح، أو عن الاهمال في إدارة المحفظة . أعتقد أن مبدأ الادارة الاعتباطية والتفويض المطلق حيث يقوم المصرف أو الوسيط بالشراء والبيع لحساب الزبون دون رقابة يجب أن يحاط بضوابط.
-11 يجب ربط الزبائن مع مصارفهم الاستثمارية وأو وسطائهم بعقد ثقة أو code of conduct.
-12 يــجب ألا تكون المسؤولية في المصارف والمؤسسات الاستثمارية على هرميتها إدارية فقط بحيث يقال رئيس مجلس الادارة وأو الموظف مخلفا وراءه فيضا من خسائر لمؤسسته ولزبائنه ليس هو مسؤولا مباشرا عنها، بل يجب وضع تشريع جزائي بحيث يتحمل كل موظف على مستواه المسؤولية الجزائية والمالية (نسبيا) المباشرة للخطأ المرتكب عمدا أو اهمالا. فمن يرغب في المكافأة (الجزرة) عليه تقبل العصا. فأموال الناس ليست سلعة. يرافق ذلك الحق/واجب لكل موظف بالتصريح عن كل خلل يشعر به وتجاوز لقواعد اللعبة لتداركه والحؤول دون وقوع الكارثة.
-13 إنشاء صندوق مصرفي عالمي (أو من طريق دعم وتوسيع صلاحيات البنك الدولي) تضع فيه المصارف المركزية والمصارف الوطنية من طريق المصارف المركزية احتياطا سنوياً يتفق عليه يخصص لدرء مخاطر اية خضة مالية واقتصادية ويخصص لحماية أموال المدخرين.
هذا على الصعيد القانوني والمالي والإداري لاستعادة الثقة ، أما على الصعيد المالي والاقتصادي فإن التدابير التي قامت بها المصارف المركزية من طريق خفض الفوائد (ويجب خفضها أيضا لتسهيل الادخار وتخفيف العبء عن الدين الانتاجي والتجاري وتشجيع الاستهلاك) وعن طريق ضخ السيولة، والحكومات من طريق ضخ السيولة ورسملة المصارف لتمكينها من التسليف (لتكون على انسجام مع انظمة التسليف من زاوية السيولة والملاءة كما اشرنا إليه)، وإعطائها سلفا مخصصة للتسليف، وضمانها للودائع بين المصارف وودائع الزبائن، كفيلة في الأجل المنظور بأن تمنع جنوح التدهور وبأن تحرك الحركة الاقتصادية ويجب أن يرافق ذلك اعفاءات ضريبية. ولن تنجح الخطة إذا لم تعد الثقة إلى السوق. وعلى الأخص ثقة المستهلك. وكيف تعود هذه الثقة وبدأت أزمة بطالة تلوح في الأفق؟ وهامش تحرك الحكومات الغربية ضيق لاستدانتها الدائمة وعجز موازناتها. وبالتالي فهي بحاجة الى دعم دول تتمتع بفائض كالصين والهند والبرازيل والمملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج. ما هو ثمن ذلك ونتيجته؟ هل هو تغيير في موازين القوى وفي منهجية السياسة الشرق الاوسطية؟
-5 آثار الأزمة على لبنان:
لهذه الأزمة آثار إيجابية: فالنفط ينخفض تلقائيا وينخفض عجز الكهرباء، والمواد الأولية تنخفض فتنزل الأسعار لأول مرة، وينخفض سعر الدواء وعجز الضمان. أما الخسائر المالية فتصيب شريحة من اللبنانيين في أموالهم الموظفة خارجا، وفي بعض اللبنانيين الذين يعملون في الخارج، وتؤثر على قدرتهم الشرائية والاستثمارية.
أما عن انعكاساتها على المصارف اللبنانية، فماذا تبقى للمصارف اللبنانية من سيولة خارج التسليفات الداخلية والخارجية وسندات الخزينة لكي توظف في مصارف إستثمارية وسندات بالونية؟
وفي مطلق الأحوال، ومهما كان حجم استثمار أي مصرف لبناني في سندات أو أسهم ، فهو نسبي ولن يؤثر على ملاءته بالنظر إلى حجم المصارف اللبنانية والتدابير النظامية التي اتخذها مصرف لبنان. ولكن المصارف ملزمة بإيداع فائض السيولة وتشغيلها في مصارف أخرى يوميا ولأجل، وغالبية المصارف اللبنانية تتعامل في ما بينها أو مع مصرف لبنان أو مع مصارف أوروبية. وبالتالي فقد تتأثر نسبيا بمشكلة تصريف السيولة مرحليا، وضعها وضع المصارف الأوروبية. ولكن بما أن ايداعاتها بالعملات الأجنبية وتداولها بالليرات اللبنانية وسوقها محصور محليا فلا أرى مشكلة سيولة بالليرة اللبنانية. أما العملات الأجنبية كالدولار فمعروضة بوفرة في السوق حاليا. ولا تفرحَنّ بزيادة الودائع، فمن أين تأتي؟ وأين ستوظف؟
التأثير الوحيد الذي سيشعر به لبنان هو انخفاض في الاستثمار العقاري وفي المردود السياحي إذا تأثرت القدرة الشرائية لعدد كبير من اللبنانيين من جراء الخسائر المشار إليها أو للانكماش الاقتصادي الذي قد يصيب منطقة الخليج العربي من جراء الأزمة و انخفاض سعر النفط ناهيك عن انخفاض سعر الأورو. يواجه ذلك تحسن في ميزان المدفوعات لارتفاع سعر الدولار على الاورو ولانخفاض سعر النفط ومعظم أسعار المواد الاستهلاكية المستوردة.
ولكن المشكلة التي قد تواجهها الحكومة اللبنانية هي الوفاء بالتزامات “باريس 3”. وتقوم حاليا بجس نبض الدول المانحة لمعرفة مدى تأثرها بالأزمة وانعكاسها على تعهداتها. وسوف نراقب بكل اهتمام الاستحقاقات المقبلة لسندات الخزينة وكيف ستتعامل معها الحكومة.
(محام – خبير مالي ومصرفي استاذ محاضر في جامعة البلمند)