العالم يضع الرأسمالية بين خياري الإصلاح الجذري أو الإفلاس
مطاع صفدي
لن يكون من المبالغة القول إن إمبراطورية الاتحاد السوفييتي الاشتراكية قد لاقت حتفها أو بداية نهايتها في غزوها لأفغانستان، وإن الإمبراطورية الأمريكية قد دفنت مشروعها الكوني خلال عدوانها الهمجي على العراق. فحين يعلن أحد كبار الاقتصاديين الحاملين لجائزة نوبل المعاصرين أن كلفة الاحتلال الأمريكي المهزوم تنطلق من مبلغ ثلاثة آلاف مليار دولار فما فوق، أي ما يعادل ربع مديونية أمريكا من سندات دولتها المباعة بالإكراه، أو بما يشبهه للدول الخليجية في معظمها، وتليها الصين، ودول الغرب الأوروبي المتحالف مع توأمه الأمريكي في السراء والضراء. حين تهدر جيوش الرأسمالية العسكرية هذا الرقم الفضائي بدون مقابل عائد إلى خزينة الدولة، أو إلى الفعاليات الاقتصادية للمجتمع بصورة متكافئة فسوف يكون الإفلاس الريعي هو المصير الذي ينتظر المجتمع الاستهلاكي ككل. ذلك أن من أدهى أكاذيب الليبرالية المتأمركة هو التبشير بأن الحرب هي أعظم استثمار، تكاليفه ملايين الأرواح البشرية لكن مردوده آلاف المليارات المنصبة فقط في جيوب النخبة من تجار الموت.
هل يمكن الاستنتاج سريعاً أن دمار الإمبراطوريتين التوأمين الشيوعية والرأسمالية، إنما يتحقق حتمياً على يد العرب والإسلام، وإن لم يكن لهؤلاء إلا دور المحبط للعدوان بارتداد شروره على مرتكبيه مضاعفةً بردود أفعال ضحاياه. كأنما لا يزال غزو الشرق هو الشرط الأنطولوجي، وليس التاريخي فقط، لاستمرار الغرب وتحضُّره وازدهاره. فلقد تم اختراع العولمة كشرط لاستباحة ثروات عالم ما بعد الحرب الباردة، وفي مقدمها النفط العربي. فالعولمة هي آخر حلقة في مسلسل الحروب الصليبية، ولن تكون الأخيرة. ولكنها أيضاً حلقة رهيبة تبوء بالفشل كسابقاتها. لن تنقذ العولمةُ النظامَ الرأسمالي من عثراته المتطورة إلى صيغة الكارثة الهيكلية للنظام القائم أساساً على مبدأ شرعنة اللصوصية المعممة، ولكنها القادرة دائماً على تسمية حقائق الأمر الواقع بغير أسمائها الأصلية.
هناك قاموس من المفردات يستولي فجأةً على الألسن والأقلام مع كل منعطفٍ في مسيرة التضليل العولمي. والقاموس الجديد المفروض سرعان ما ينسخ كل ما هو متداول من مصطلحات المعاني والمفاهيم والقيم السائدة. كل موجة لصوصية معممة تحتاج إلى أعلى موجة من الأقنعة اللفظية التي تضلل الحس العام عن ممارسة بداهته التلقائية في فهم الوقائع والتعامل معها كما هي. فنُّ السيطرة على عقل الرأي العام قد يضاهي أعلى فنون الحرب وتوابعها، إذ عليه يتوقف تسويق الضلال المنظم الذي يبرر أهوال الدمار الشامل وتكاليفها البشرية والمادية، مهما تعاظمت وتعارضت مع أبسط قوانين الأخلاق التي تدين بها الجماعة الإنسانية في كل مكان.
إن السقوط المدوي لليبرالية الجديدة الذي تعيش إنسانية المعمورة اليوم أحداثَها المفجعة ساعة بعد ساعة، يجري بسرعةٍ مذهلة محاولاً إخفاء براكينه الحقيقية تحت أستارٍ من الدخان الأبيض والأسود، من ضخ المعلومات حول الأرقام المتراقصة صعوداً قليلاً، ثم هبوطاً صاعقاً إلى هاوية الأصفار، ومعه تمحي ثروات بعض عمالقة السوق، لكنه يجرف معه معظم مدخرات الملايين من الناس المجهولين. فهؤلاء ليس ثمة بيانات عما آلت إليه أحوالهم المعيشية، بعد فقدانهم بقية المال والوظيفة والمسكن، فحكومات الغرب مشغولة فقط بإنقاذ الرساميل الفلكية دون أقل اهتمام بالخزائن السرية التي تنصب فيها، عند نهاية اللعبة الجهنمية، ولا بالسؤال عمن هم المخططون لها والمستفيدون السريون من كوارثها، والعائدون بعد كل جولة نهب شمولية، إلى استئناف فصول جديدة في اللعبة القذرة القديمة إياها. ما يشهده العالم من مسارح المجازر المالية المتتابعة، ليس سوى بعض المحصلة المريعة لأخلاقية النيوليبرالية هذه التي لا يضيرها أن تُدعى بالرأسمالية المتوحشة. فالمجازر المالية الراهنية ليست سوى حلقة مادية صارخة في سلسلة المجازر العسكرية والسياسية التي سبقتها. لكن الفرق بينهما هو أن هذه الدموية المالية الأخيرة إنما تقع في عقر دار أسياد اللعبة الجهنمية.كأنه من المؤسف حقاً أن يندرج البعض من كبار جلاديها في عداد ضحاياها(!) ذلك أن بلوغ الرأسمالية مرحلتها المتوحشة، لم تكن سوى المرحلة المحتومة لتطورها الذاتي الصرْف، عندما تنجح في التحرّر من كل رقابة اجتماعية أو قانونية على أفاعيلها. فقد حققت النيوليبرالية هذا الشرط الأصعب في (تحرير) الرأسمالية من عدوها التاريخي المتمثل في ممارسة المجتمع لحق الرقابة والاعتراض على خطاياها. هكذا اندفعت أمريكا البوشية في غزو العالم العربي والإسلامي إعلاموياً. اخترعت حروب الإرهاب، لتفرض إرهاباً أفظع على المعمورة كلها تحت طائلة الأمن ووحوشه المفترسة للحريات العامة والخاصة. فكان أن ضمنت النيوليبرالية حماية موقتة غير مباشرة لمغامراتها المالية الجنونية، مصاحبةً بإطلاق أبشع إيديولوجيا للفردانية المطلقة.
نجحت النيوليبرالية (الأمنية) هذه في إلغاء السياسة، وتعطيل وظائفها ومؤسساتها الدولية والوطنية. لقد أمست الديمقراطية في عُرْفها مرادفةً تماماً لحق القوة العسكرية العمياء في قتل الشعوب بمبررات الأكاذيب الباطلة وحدها. فمن الغزو الخارجي إلى التفجير الداخلي لمكونات كل مجتمع ممانع للتسلط الأمريكي، هكذا يتم ترشيحه لتغيير هيكليته التاريخية، وإعادة تشكيل تركيبته الطبقية، بحيث تتكون فئات فوقية، من أصول طفيلية، لكنها تُعطى كل وسائل التضليل الإعلاموي والسياسوي، للتمكن خاصةً من احتكار مفاتيح الاقتصاد الوطني لصالح رؤوس الفساد والقمع الأمني.
كانت القارة العربية الإسلامية هي المسرح النموذجي ولا تزال لتكامل، التنظيم والممارسة بين الفعاليات الثلاث الأشد خطورة للنيوليبراليات وهي: العسكرية الأمنية، والمالية الاقتصادية، والإعلامية الأيديولوجية. وخلال سنوات الحكم البوشي العجاف قدمت النيوليبرالية أقصى ما تمتلكه وتتصوره من آليات تدمير الشعوب سواء بفعل الغزوات الخارجية المباشرة بأعلى أسلحة التدمير الشامل، أو بمؤامرات التفكيك الذاتي لمجتمعاتها. لا تستعيد النيوليبرالية فقط نماذج بدايات الاستعمار الغربي لآسيا وأفريقيا وأمريكا، لا تقتل البشر وحدهم، بل تشرع في اجتثاث أصولهم العضوية ومكتسباتهم الحضارية. إنها أعلى أشكال الاستعمار الاستئصالي. ومن هنا كانت الصهيونية تمد النيوليبرالية بالأفكار والمخططات والمعلومات، وتتكفل بتضامن أجهزتها العسكرية والأمنية والإعلامية، هذا عدا عن كون أن كبار الصهاينة هم كبار أساتذة الاستثمار المصرفي والتخطيط الأيديولوجي لعقول الكتل الجماهيرية في أوطان النيوليبرالية الأصلية. فالصهيونية هي القرد الذكي الممتطي لظهر الفيل (الأمريكي) أكبر وحوش الغابة الإنسانية، يقوده ويوجهه. هذا بالرغم من كون أن الطبقة المثقفة في أمريكا، ترفض في معظمها هذه الصورةَ الكاريكاتورية، لكنها تقر ضمناً بمغزاها الفعلي. وعلى ذكر هذه الطبقة، فإنها لا تزال هي الغائبة المستديمة عن التأثير في المصير السياسي لدولتها العظمى. ولا يبدو أن الزلزال المالي الراهن الذي يعصف بأركان الوجود المجتمعي لوطنها، قد استطاع ولو قليلاً أن يوقظ بعض العقول المستنيرة من غفوتها تحت أثقال المنافع الجامعية والمصلحية التي ينوء بها العقل النقدي الأمريكي الموصوف بالحر أو شبه الحر. فقد تكون له أصوات تُسمع من حينٍ إلى آخر. ولكن الصمت المنظم، يسيطر دائماً على الحواس العامة للجماهير المستعبدة بأحادية الضخ الإعلامي من مصادره المعروفة الثابتة. فلا حيلة لأحد تقريباً باجتراح الخطاب المختلف، حتى في أخطر الأزمات المصيرية.
كل الانتقادات والاعتراضات المتصاعدة هذه الأيام من مختلف الأوساط، حتى المنتمية منها إلى النظام وأجهزته ومؤسساته، لا تكاد أقواها تتلمس جذور أية مشكلة حالّة أو آتية مع الزلزال المالي المسيطر. هناك من يجرؤ على الإفصاح ترميزاً أو تلميحاً أن الفصل المصطنع بين مصطلحي الاقتصاد الإنتاجي الموصوف بالحقيقي، والاستثمار المالي أو الافتراضي، لن ينجي الأول من تبعات انهيار الثاني. فبعد إفلاس أو توقيف معظم شركات الاستثمار المتسببة مباشرة بانفجار الأزمة العقارية، ومن ثم انكشاف كارثة المليارات الضائعة من الديون الهالكة، وغير المضمونة أصلاً، نقول بعد انقضاء أساطير هذا النوع من الاستثمار الافتراضي، أو الاحتيالي بحسب صفته القانونية، ها هو الإعلام النيوليبرالي يضج بأخبار الركود وحتى الكساد الذي راح يمسك بتلابيب الاقتصاد الواقعي أو الإنتاجي. في هذا القطاع سوف تتراكم الأثمان الفلكية الباهظة للزلزال الاقتصادي الشامل، وعواقبه الاجتماعية والسياسية الكبرى، حيثما ستطلُّ القطيعات التاريخية المغيرة لمسيرة الحضارة العالمية.
لنتذكر فقط أن الغرب لم يستطع الخلاص من ركود ثلاثينيات القرن الماضي وانحرافاته السياسية الخطيرة نحو النازية والفاشية، إلا بعد الحرب العالمية الثانية التي جاءت كتصفية رهيبة لعواقب نكبة 1929. فقد مسحت خارطتها السياسية لنصف الأول من القرن العشرين، بما فيها كيانات دول كبرى وصغرى، وأنظمة سياسية وأيديولوجية لم يعهدها التاريخ من قبل. كما لو كانت المهمة الأولى للتاريخ المعاصر هي تقديم الأمثلة والبراهين الحية على صحة هذا القانون المركزي للتطور العالمي، الذي يربط كلاً من التحولات الكارثية للاقتصاد بنظائرها من المجازر الدموية الشاملة. فهل أمست الإنسانية اليوم في مواجهة جديدة مع برهان رهيب آخر على نجاعة هذا القانون.
الأفق الدولي ينذر بإشارات من هذا النوع. ذلك أنه لم يتبقَ أمام النيوليبرالية المهزومة اقتصادياً في عقر دارها أمريكا، والفاشلة سياسياً وإمبراطورياً في القارة العربية والإسلامية، لم يبقَ لها إلا أن تكشر عن أنياب الأمبريالية المختفية وراء أقنعة العولمة وألعابها البهلوانية المتساقطة. فتلجأ أمريكا إلى ممارسة الضغوط على كل من أوروبا ودول آسيا الناهضة، كيما تضخ من أرصدتها الوفيرة، من الدولار في خزائن الحكومة الأمريكية المنخرطة في إعادة رسملة البنوك المشرفة على الإفلاس؛ في حين أن ثلاثاً وأربعين دولة من أوروبا وآسيا المجتمعة في بكين تطالب إدارة بوش الآفلة بالانصياع لضرورة المراجعة الشاملة لأسس النظام المالي الدولي؛ ما يعني إنهاء أحادية سلطة الدولار ومرجعيته المركزية بالنسبة لجميع عملات العالم الأخرى. وبالتالي كان من المنتظر أنه سيكون على أمريكا أن تواجه لأول مرةٍ منذ الحرب العالمية الثانية، معضلة ديونها الفلكية وحتمية سدادها شبه المستحيل. وإلا كان عليها أن تسير على درب الإفلاس لا غير. وهو المصير الذي لا تخشاه أمريكا وحدها، بل ومعها أوروبا وآسيا وكل دول العالم. ولذلك أرجئت هذه المواجهة الحاسمة الى المؤتمر الأكبر الذي سيعقد في منتصف الشهر القادم. فلا مفر من إصلاح النظام المالي الدولي ككل، فبدلاً أن يغرق الجميع، على هذا الجميع أن يتعاونوا من أجل الإنقاذ الشامل. هذا ما تدعو إليه أوروبا الاتحادية على لسان الرئيس الحالي ساركوزي. بينما لا تزال إدارة بوش تتابع نهجها (العقائدي) حسب مَنْطِقه الكوارثي المعهود، حتى لو اتحدت ضدها معظم الدول الصناعية قديمها وحديثها، كما تجلت علامة هذا الاتحاد أو بوادره الأولى، عبر مؤتمر بكين الأخير. لكن الرأسمالية المتوحشة سيكون لها خيارها الأكثر شؤماً عليها والمعمورة معها، وسوف تستخدمه في اللحظة المصيرية المطلقة ضداً على كل من خيارَيْ الإصلاح الجذري أو الإفلاس. وعند ذلك لن تكمل الإنسانية مسيرة القرن الواحد والعشرين.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي