طريقنا يبدأ من بغداد ولكنه لن يتوقف
عمر كوش
اشترك في تأليف كتاب “طريقنا يبدأ من بغداد” (ترجمة رجاء شبلي، دار شهرزاد، دمشق، 2006) إثنان من ألمع مفكري اليمين المحافظ الجديد في الولايات المتحدة الأميركية، هما ويليام كريستول ولورانس ف. كابلان. وكان الأول أحد المثقفين الأكثر نفوذاً في الإدارة الأميركية، وهو خريج جامعة هارفارد، ويعد منظراً للمحافظين الجدد، ويشرف مع روبيرت كاغان على إدارة مركز بحوث يهتم بدراسة ما يعرف بـ”مشروع من أجل القرن الأميركي الجديد”. أما الثاني لورانس ف. كابلان فهو خريج جامعتي كولومبيا وأوكسفورد، وأحد صقور المحافظين الجدد.
والمدرسة الفكرية التي ينتمي إليها المؤلفان، ذات طابع ثوري، غير محافظ، بل راديكالي، تنهض الرؤية العامة لها عن العالم على ديناميكية وراديكالية، ليست محافظة أو جامدة، لكن تسمية “المحافظين الجدد” راجت في جميع أنحاء العالم، حتى بات من الصعب تغييرها.
يرى كريستول أن فرادة النظام السياسي الأميركي، القائم على مبادئ الحرية والديموقراطية والمساواة، تجعل من الولايات المتحدة “نموذجاً للعالم بأسره لأن ما يميز الفكرة الأميركية هو صدورها عن مثل أعلى كوني، لا عن نزعة قومية ضيقة مؤسسة على الأرض والدم. وهي مبنية على تدخلية في الوقت نفسه، لأن من واجب الولايات المتحدة أن تصدّر نموذجها الديموقراطي إلى العالم بأسره. وهذه التدخلية لا تمت بصلة إلى التوسعية الكولونيالية التي مارستها القوى الاستعمارية التقليدية في العالم. فالولايات المتحدة الأميركية لا تسعى إلى توسيع أراضيها، بل فقط إلى نشر أفكارها ونمط حياتها وبالتالي الهيمنة على العالم. وهذه الأفكار مقبولة من البشرية قاطبة، لأن محورها قائم على حبّ الديموقراطية وحقوق الإنسان. وعليه لا يتردد المؤلفان في أن يضيفا: “ليس على الولايات المتحدة أن تكون دركي العالم أو شريفه فقط، بل عليها أيضاً أن تكون منارته ودليله. وأين الشر في أن تهيمن على العالم ما دامت لا تهيمن إلا خدمة لمبادئ صحيحة ومُثُل نبيلة؟ فما يميز القوة الأميركية أنها لا توظف إلا من أجل غايات أخلاقية. وإذا لم تقم الولايات المتحدة بالمهمات التي أوكلها إليها التاريخ، فإن مآل العالم سيكون إلى فوضى، لأنه لا وجود لأية سلطة أخرى قادرة على منع العدوان وضمان الأمن والسلام وفرض احترام المعايير الدولية!.
إذاً، يريد المحافظون الجدد نقل القيم الديمقراطية والمثل العليا الأميركية إلى شتى أنحاء العالم، وإذا كانوا قد بدأوا من بغداد، فإنهم لن يتوقفوا هناك، كما يقول ويليام كريستول. بل على العكس من ذلك إذ إن بغداد ليست سوى نقطة الانطلاق نحو آفاق جديدة، أي نحو غزوات وتدخلات.
يبني المؤلفان كتابهما على أطروحة أساسية، تعتبر أن هناك ثلاثة تيارات أساسية تخترق السياسة الأميركية، الأول هو التيار الواقعي الضيق الذي يمثله جورج بوش الأب، فهذا الرجل الذي حرر الكويت من براثن صدام لم يشأ أن يذهب أبعد من ذلك، لأن مصالح الولايات المتحدة الأميركية استوفت حقها. يرفض هذا التيار بحجة الواقعية في السياسة، أن يتدخل في شؤون الدول الأخرى أو أن يغير أنظمتها الفاسدة. أما التيار الثاني، فهو التيار الليبرالي الوهمي، ويمثله بيل كلينتون الذي لم يتجرأ على مواجهة بن لادن أو صدام. أما التيار الثالث فهو الذي يمثل روح أميركا وجوهر مبادئها الحقيقية، ويمثله حالياً جورج بوش الابن الذي قطع علاقته مع سياسة والده وسياسة بيل كلينتون وانتهج خطاً آخر، وهو خط الرؤساء الكبار في التاريخ الأميركي، أي خط ويلسون وروزفلت وترومان وكينيدي وريغان، ويدعوه المؤلفان بالخط التدخلي الكوني. إنه الخط الذي يرى بأن أميركا مكلفة بنقل رسالة إلى العالم، هي رسالة الحرية والديمقراطية والتسامح الديني والسعادة للشعوب.
ويحاول المؤلفان شرح هذه النقاط الثلاث، لذا فإن كتابهما يتخذ طابع “المانيفست” من حيث زخمه الفكري وقوة لهجته وتصميمه، وهدفه توضيح “عقيدة بوش” للعالم، وهي العقيدة التي تضمنتها الوثيقة الشهيرة باسم “إستراتيجية الأمن القومي”. ولا يمكن فهم السياسة الحالية للولايات المتحدة الأميركية إن لم يتم الاطلاع على هذه الوثيقة المشكلة من ثلاثة محاور: المحور الأول يتعلق بالحرب الوقائية، وقد جرى تطبيقها على العراق كمرحلة أولى. أما المحور الثاني في عقيدة بوش، فيتمثل في الانتقال من سياسة الاحتواء إلى سياسة التدخل المباشر وتغيير الأنظمة الاستبدادية المارقة بالقوة. ويرى ويليام كريستول أن هناك سبباً أخلاقياً لإتباع مثل هذه السياسة، فأميركا لا يمكن أن تكون وفية لمبادئها وحضارتها إن لم تدافع عن المظلومين، وإن لم تواجه الأشرار الذين لا يفهمون إلا لغة القوة، ويقصد شخصين أساسيين هما أسامة ابن لادن وصدام حسين، لكنه ينسى بالطبع أرئييل شارون الذي يذبح الشعب الفلسطيني ويهدد السلام العالمي في فلسطين. لذلك فإن من مسؤولية أميركا حماية الشعب العراقي وبقية الشعوب العربية والإسلامية من بطش هؤلاء، وإلا فإن أميركا تكون قد خانت مبادئها الأساسية، الأمر الذي يشي بأن المسألة هي مسألة واجب أخلاقي قبل أن تكون مصالح شخصية أو دفاع عن الذات.
ويهاجم ويليام كريستول بعض المثقفين الأميركيين الذين يشككون بإمكانية تصدير الديمقراطية إلى الشعوب الأخرى، ومن بينها الشعوب الإسلامية، ويهاجمون سياسة بوش ويحذرون من مخاطرها ويقولون: علينا ألا نتدخل كثيراً في شؤون الدول الأخرى، ويعتبرون بوش الابن شخصاً مغامراً قد يؤدي بأميركا وبالعالم إلا ما لا تحمد عقباه. لكن المؤلفين يعتبران هذا الموقف نوعاً من الاستقالة الأخلاقية والسياسية لأميركا، وهذا لا يليق بها، فجميع الشعوب تطمح إلى الحرية ولا يمكن استثناء الشعوب الإسلامية منها، ويحاولان إقناع القارئ بأن الهيمنة الأميركية على العالم هي الضمانة الوحيدة لحفظ السلام والأمن في هذا العالم بالذات. أما القوى الأخرى الموجودة، أي الأمم المتحدة، أو أوروبا، أو الصين، فهي عاجزة عن تحقيق ذلك لأسباب مختلفة، وقد أثبتت الأزمة العراقية ذلك بكل وضوح، حيث الفرنسيون يحسدون أميركا ومصابون بعقدة النقص تجاهها، ولا يعرفون في نهاية المطاف بأن هيمنة أميركا على العالم شيء ينفعهم ولا يضرهم.
يقول ويليام كريستول بكل وضوح: لقد بدأ طريقنا من بغداد، ولكنه لن يتوقف هناك. فأميركا لا تستطيع أن تتخلى عن مسؤوليتها في تشكيل نظام عالمي متين وجدير بهذا الاسم. وتقع على كاهلها مسؤولية تحييد كل قوى الشر والإرهاب في أي مكان في العالم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا العراق أولاً ؟
لأن العراق هو مفتاح الشرق الأوسط العربي والإسلامي، وهو البلد النفطي، المدمر والمحاصر، ومفتاح الحل السلمي للصراع العربي الإسرائيلي. ومع ذلك فقد اصطدمت أفكار ومقالات المؤلفين على الأرض العراقية، وفشل المشروع الأميركي في منطقة الشرق الأوسط.