مسيحيّو العراق ضحية نفاق الغرب
فاضل الربيعي
تنطوي أحداث الموصل على الكثير من العناصر التي تعيد تذكير المسيحيين العراقيين بالماضي القريب والبعيد، وأن ما يجري لهم اليوم قد يكون مرتبطاً بالفعل بمخططات خارجية تنفذها أدوات محلية.
بيد أن أكثر ما يثير قلق المسيحيين وذعرهم، أن القيادة الكردية المتهمة أصلاً بالضلوع في هذه الأحداث، سارعت إلى استغلال محنتهم أبشع استغلال، وذلك حين بادر أحد الوزراء الأكراد إلى طرح مشروع “الحكم الذاتي للمسيحيين ضمن إقليم كردستان” كحل وحيد لوقف أعمال الاضطهاد المرّوعة.
لكن القيادة الكردية وفي غمرة صراعها المرير مع المركز حول كركوك وملف نفط كردستان والاتفاقية الأمنية مع واشنطن وفي سياق سلسلة من مظاهر التجاذب السياسي والشخصي مع رئيس الوزراء تجد نفسها في الواقع وبرغم كل الادعاءات داخل قفص حديدي من الاتهامات العلنية، لا بمسئولية مليشياتهم (المعروفة باللغة الكردية باسم البشمركة) عن عمليات قتل وتهجير المسيحيين وحسب؛ بل وبمسئوليتها الأخلاقية عن تفاقم معاناة المسيحيين جراء المحاولة البائسة لإلحاق الموصل نفسها بإقليم كردستان.
إن الطموح المفرط وغير العقلاني للقيادة الكردية، هو الذي يدفع بها إلى التحول إلى أداة في تنفيذ مخططات تمزيق مسيحيي العراق. بيد أن مثل هذا الطموح، كما يخبرنا التاريخ، قد لا يضيف إلى أحلام الأمم أي شيء آخر، سوى تعقيد الظروف المحيطة بها.
لقد برهنت القيادة الكردية خلال السنوات الخمس الماضية أنها تجهل مخاطر الجغرافيا، وذلك واضح كل الوضوح من إصرارها شبه العلني على مطلب كردستان الكبرى.
أما اليوم، فإنها تبدو أكثر جهلاً بمخاطر التاريخ، ذلك أن ضمّ مسيحيي الموصل تحت مظلة الحكم الذاتي هو هدف قمة الفشل في فهم الواقع والتاريخ والحساسيات الثقافية، فمثل هذا الحلم فشلت في تحقيقه قبل الأكراد أمم ودول كبرى.
من المنظور التاريخي، لا تبدو عمليات قتل وتهجير مسيحيي الموصل أمراً منفصلاً عن سياق مترابط الحلقات من وقائع وأحداث عنيفة، سبق لها وأن وقعت خلال فترات وعهود وحقب مختلفة من تاريخ العراق القديم والحديث.
لقد حدثت -في هذا التاريخ- الكثير من أعمال العنف التي طاولت معتقدات المسيحيين العراقيين ووجودهم الحياتي والروحي، وكانت شبيهة ومتماثلة إلى حدّ ما مع ما يجري اليوم.
ولعل تاريخ الكنيسة العراقية الذي يحتفظ بهذه الوقائع، هو السجل الأكثر صدقية من بين سائر السجلات؛ لأنه يتضمن من هذه الزاوية واقعتين لكل منهما دلالة خاصة في الذاكرة الدينية، وهما تكشفان لا عن نفاق الغرب السياسي وإنما كذلك نفاق الكنيسة الغربية وتغاضيها عن لعب أي دور في حماية المسيحية الشرقية.
الأولى وقعت منذ عهد قريب نسبياً؛ ففي الثلاثينيات من القرن الماضي إبان حقبة الملك فيصل الأول، وجد المسيحيون في الموصل أنفسهم ضحية أعمال عنف عشوائية دامية ومأساوية استهدفت وجودهم في الصميم.
كان تفجر العنف ضد الآشوريين (فيما كان ُيدعى في الصحافة الأوروبية بأحداث قمع التمرد الآشوري) تطوراً مفاجئاً في مسار الصراعات التي كانت تدور في ظل استقلال شكلي واحتلال بريطاني فعلي.
في ذلك الوقت كان فيصل الأول يواجه ضغطاً بريطانياً متعاظماً لحمله على تمرير معاهدة مذلة، وهو أمر شبيه إلى حد بعيد بما يجري اليوم. آنذاك، تعالت الأصوات المُستنكرة التي تربط بين التمرد وبين وجود مخطط يهودي، والمقصود مخطط صهيوني هدفه حمل المسيحيين في الموصل على التوجه نحو مطلب الحصول على كانتون ديني صغير خاص بهم.
وبطبيعة الحال، فقد ترافقت تلك الأحداث المأساوية مع تسريب أنباء عن تحركات أوروبية محمومة كان الغرض الحقيقي منها تشجيع كنيسة الموصل على الانتقال من المطالبة بالحقوق الثقافية، إلى الحصول على كيان إداري وسياسي للمسيحيين.
وكان ذلك ذروة النفاق؛ إذ تم تشجيع دعوات ومطالبات لم يكن ممكناً لها أن تؤدي إلا إلى تفجر أعمال عنف واسعة النطاق. وفي تلك الأحداث، اتضح أن الغرب بأسره كان راغباً ومصمماً على استغلال محنة المسيحيين العراقيين.
لم يكن الذعر من احتمال قيام مثل هذا الكانتون، وبالنسبة لبلد يرزح تحت الاحتلال البريطاني الفعلي مع وجود استقلال شكلي سمي زوراً وبهتاناً بالحكم الوطني أمراً خيالياً أو من صنع جماعات خائفة من احتمال تمزق العراق؛ بل كان تعبيراً عن تحول دراماتيكي في مسار الصراعات الداخلية، بات يهدد أكثر فأكثر وجود العراق نفسه كبلد موحد.
حتى الملك فيصل نفسه رأى في تلك الأحداث، دليلاً يشير صراحة أو بصورة غير مباشرة إلى أن الغرب يتلاعب به كملك، كما يتلاعب بمصير الشعب الذي توّجه ملكاً في استفتاء عام.
وكان أكثر ما يغيظ فيصل في أثناء تلك الأحداث، أن الصحف الأوروبية استقبلته أثناء جولة نادرة قام بها إلى الخارج، بكل عبارات السخط على أعمال العنف ضد المسيحيين في الموصل.
القليلون فقط، أدركوا آنذاك أن التمرد الآشوري لم يكن سوى البروفة الأولى لخلق كيان مسيحي، يمكن له أن يبرر أو يتوازى مع كيان يهودي، كانت أوروبا قد شرعت في وضع أول أحجاره الضخمة فوق صدر العرب داخل فلسطين ممزقة ومحطمة.
وكان أكثر ما يثير حيرة وحزن مسيحيي العراق، أن كنيستهم وهي الأقدم بين كنائس المنطقة، لا تحظى من الكنيسة الكاثوليكية في روما بأي نوع من الدعم المعنوي لمنع أعمال الاضطهاد. وفي هذه الأجواء بدا مسيحيو العراق كما لو أنهم ضحية نفاق الغرب وصمت وتجاهل الكنيسة الغربية في آن واحد.
أما الواقعة الثانية فحدثت خلال عصر المسيحية المبكرة، حين هبّ نصارى العراق لإنقاذ أشقائهم نصارى نجران من حملة اضطهاد شرسة، قادها الملك اليمني (اليهودي) ذو نواس الحميري نحو عام 524 م واستهدفت القضاء على المسيحية في مهدها.
كانت احتجاجات نصارى العراق مصممة من أجل خلق ظروف سياسية ودينية في المنطقة، من شأنها أن ترغم الملك اليمني على التراجع ووقف عمليات تدمير المركز المسيحي جنوب غرب الجزيرة العربية.
في هذا الوقت كانت الكنيسة العراقية ترتبط بوشائج قربى وصلات روحية وعائلية مع نصارى نجران. ومع أنهما كانتا -كنيسة الموصل وكنيسة نجران- تعتنقان مذهبين مختلفين (مونوفيزي يقول بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح، ونسطوري شرقي يقول بالطبيعتين) إلا أن الخوف من نتائج هذه الحملة، كان يوحد المشاعر في العراق ونجران وصولاً إلى مسيحيي بلاد الشام اليعاقبة (أتباع يعقوب البرادعي) وعلى حد سواء.
اللافت للنظر في هذه الحقبة، أن بيزنطة الكاثوليكية أظهرت، من خلال سلوكها وصمتها وتغاضيها عن أعمال الاضطهاد، ما يبدو أنه نوع من القبول بـ “إضعاف المسيحية الشرقية المتمردة ” في العراق ونجران.
لقد سجل لنا القرآن الكريم في سورة البروج واقعة اضطهاد نصارى نجران، ووصفها أبلغ وصف. والمصادر التاريخية الكنسية تؤيد بقوة رواية القرآن الكريم للحادث، وكيف أن نصارى نجران -أبناء عمومة نصارى مملكة الحيرة في العراق وشركاؤهم في المذهب النسطوري- تعرضوا لأبشع حملة إبادة جماعية، وذلك حين قام الملك اليمني بتنظيم هجوم مباغت على نجران، انتهى بحفر أخدود ضخم حُشر فيه الآلاف من النصارى، حيث أضرمت النيران بأجسادهم الطاهرة.
كان القضاء على الكانتون المسيحي الصغير في نجران، هدفاً إستراتيجياً من أهداف يهود اليمن القديم، ولذلك هبّ نصارى العراق عن بكرة أبيهم لإنقاذ أشقائهم جنوب غرب الجزيرة العربية، ومن دون أن تكون هناك أي أهمية تذكر للفروق المذهبية بينهم.
وعلى العكس من سلوك الكنيسة الغربية، أظهرت الكنيسة الشرقية أنها أكثر استقامة ونزاهة حيال طبيعة الأحداث المأساوية التي تواجه كل المسيحيين وفي أي مكان.
لقد سعى نصارى العراق بكل الوسائل السياسية والدبلوماسية، لا إلى حماية أشقائهم النصارى جنوب غرب الجزيرة العربية من عمليات القتل والتهجير التي سقط فيها ما يزيد على 16 ألف شهيد وحسب، وإنما كذلك إلى الحفاظ على “المركز الديني” الذي قام هناك.
ولذلك جرى بصورة تلقائية في الروايات التاريخية عن هذه الحقبة، الربط بين المذابح ضد المسيحيين وبين وجود مؤامرة خارجية من تدبير اليهود هدفها القضاء على الوجود المسيحي في كامل المنطقة الممتدة من نجران حتى أطراف الجزيرة الفراتية والموصل.
وهو أمر بدا أن الكنيسة الكاثوليكية ترغب في تجاهله نكاية بالمسيحيين العرب المتمردين على سلطتها الرسمية. وفي هذه الأجواء المأساوية شرع ملك الحيرة المسيحي (النعمان بن المنذر بن ماء السماء) في تنظيم حملة سياسية ودبلوماسية لفضح نفاق بيزنطة، ولكنه قام في الوقت ذاته بإرسال بعثة خاصة ترأسها أسقف الحيرة، من أجل اقناع بيزنطة باتخاذ موقف عادل ينتصر للمسيحية بكل مذاهبها.
كانت أجواء الاتهامات العلنية لبيزنطة وكنيستها الرسمية، بالتواطؤ ضد المسيحية العربية (الشرقية على المذهب النسطوري) تتصاعد في المنطقة مع توارد أنباء المذابح. ولم يكن أمراً مفهوماً في أي شكل من الأشكال، ذلك التصرف الذي يجمع بين الحرص على المسيحية وبين الصمت على عمليات الذبح والقتل التي يتعرض لها المسيحيون.
وكان مما يبعث الاستغراب بالنسبة لمسيحيي العراق وخصوصاً مسيحيي البادية من أبناء القبائل العربية، أن بيزنطة واصلت برغم كل المساعي والجهود لا تجاهلها المذابح المرّوعة؛ بل وكذلك تغاضيها عن محاولات تدمير “الكانتون الديني الصغير” في نجران، وهي التي عملت بكل الطرق بما فيها التحايل الدبلوماسي، على إقناع ملوك اليمن ونجران، قبل صعود الدور اليهودي مع الملك ذي نواس الحميري، بأهمية وضرورة السماح ببناء كنائس وأسقفيات ” شرقية “. وكان ذلك أيضاً ذروة النفاق.
في هاتين الواقعتين التاريخيتين، ثمة ما يعيد التذكير اليوم، بأن حملات الاضطهاد التي تعرض لها المسيحيون في تاريخ العراق والعرب، كانت ترتبط بالفعل بوجود هدف مزدوج من هذا النوع، هو في نهاية المطاف خلاصة مطامع قوى معادية للمسيحية، ساعية إلى استغلالهم أو التلاعب بمصيرهم التاريخي. وأن هذا الهدف وإنْ تباينت أغراضه المعلنة؛ سيظل مصمماً من أجل إضعاف وجودهم الروحي والسياسي، فهم في النهاية أحفاد مسيحيين منشقين على الكنيسة الرومانية البيزنطية.
إن التماثل أو التكرار في أحداث التاريخ، قد لا يكون لوحده سبباً مقنعاً أو كافياً لتبرير الهلع من وجود الخطر. والتاريخ كما تخبرنا وقائعه، لا يسمح باستخلاص فكرة عن تطابق تام في صور العدو نفسه الذي يظهر في كل مرة فوق المسرح نفسه، تارة في هيئة حملة اضطهاد لتدمير المركز الديني، وتارة أخرى في هيئة محاولة إنشاء الكانتون الديني.
لكن التاريخ مع هذا، يسمح باستخلاص فكرة عن طبيعة الخطر الذي يواجه جماعة بشرية ما، ربما بسبب معتقداتها الدينية أو بفعل وجودها في منطقة مصالح قوى كبرى.
والحال فإن مسيحيي العراق كانوا، وبسبب جملة عوامل وظروف تاريخية، عرضة لخطر حقيقي مزدوج من هذا النوع، تغدو معه سياسات الحزبين الكرديين -وليس الشعب الكردي قطعاً- مجرد أشواك جارحة على طريق الجلجلة لا أكثر.
كاتب عراقي
الجزيرة نت