صفحات العالم

الملك والمفتي

حازم صاغيّة
هناك اليوم ضياع فلسطينيّ وضياع إسرائيليّ. الفلسطينيّون حائرون بين طرح الدولتين وطرح الدولة الثنائيّة القوميّة، والأوّل صعب جدّاً والثاني مستحيل. والإسرائيليّون العائدون متأخّرين إلى المبادرة العربيّة، محيّرون دائماً بين أولويّة «الخيار الفلسطينيّ» وأولويّة «الخيار السوريّ» كما بين التفاوض وتأجيله أو تطويله أو تمويهه. وفضلاً عن ميل الدولة العبريّة الراسخ إلى اعتصار الخصم، بتفاوض أو من دونه، فالحقيقة الأقوى تتجسّد اليوم في الثنائيّة الفلسطينيّة: «فتح» في الضفّة و «حماس» في غزّة. وهي حقيقة أكبر من أن تُتَجاهَل أو أن نمارس بالحماسة القفز فوقها. فلئن كانت الهويّة الفلسطينيّة وطنيّةً تبحث عن وطن افتقرت إليه، تاريخيّاً وليس منذ 1948 فقط، فقد صارت، بعد ذاك الانشطار، تفتقر أيضاً الى الوطنيّة.
وهذا ما يردّ إلى سجال مرير وحادّ عرفه التاريخ العربيّ الحديث، كان بطلاه الملك عبدالله الأوّل والحاج أمين الحسيني. فالأوّل وحّد الضفّتين وأطلق سيرورة اندماج بطيء بين الشعبين يظلّله هاجس بالتعاون والتكامل الاقتصاديّين اللذين يتجاوزانهما إلى الجوارين العربيّ والإسرائيليّ. وهذا إنّما كان تأويل عبدالله للوحدة العربيّة، أو ما اعتبره ممكناً منها بعد الحطام الذي انتهت إليه الحكومة الفيصليّة في دمشق.
أما المفتي فكان مؤسّس الوطنيّة الفلسطينيّة من دون دولتها، حاضراً ومستقبلاً. وهو كان وفيّاً لنهجه، في التصلّب الذي أبداه حيال العروض التسوويّة، وفي تحويله الإضراب العامّ الفلسطيني في 1936 حرباً أهليّة، ثم في تعاطفه مع المحور.
واستمرّ العمل بالنهج هذا مع أحمد الشقيري، بعد تأسيس منظّمة التحرير، مع فارق أساسيّ مؤدّاه أن الأخير كان دمية في يد عبدالناصر. هكذا كاد الزعيم المصريّ وعامله الفلسطينيّ يحرقان الأردن، أواسط الستينات، ويصدّعان الوحدة الوطنيّة الهشّة الشرق أردنيّة – الفلسطينيّة.
ثم استأنفت المقاومة النهج الحسينيّ – الشقيريّ بالاستقلال عن عبدالناصر، فكانت الحرب الأهليّة في 1970-71 التي تركت أحقاداً غير مسبوقة، وابتدأت حساسيّات المجتمع، بعدها، تتحوّل سلوكاً سلطويّاً. وأُحبطت خطّة الملك حسين المعروفة بـ «المملكة المتّحدة» لمصلحة ضغط متواصل على عمّان، عربيّ وفلسطينيّ، أثمر في 1974: يومذاك، وكان ياسر عرفات عائداً من مخاطبة الأمم المتّحدة، قرّرت قمّة الرباط أن المنظّمة «الممثّل الشرعيّ الوحيد للشعب الفلسطينيّ». وهي جميعاً مكاسب لعرفات ما لبثت أن أُهدرت، بعد أشهر، في حرب لبنان.
وبدا الفلسطينيّون مستعدّين للتهدئة، أقلّه لالتقاط الأنفاس، إلاّ أن النظام السوريّ منعهم من التفاعل الإيجابيّ مع مبادرة أنور السادات، ثمّ كانت حروب دمشق عليهم بالتوازي مع حربها على قرارهم وقرار الأردنيّين، أواسط الثمانينات، سلوك طريق السلام. حصل هذا فيما الفلسطينيّون يضمّدون، في تونس، جروح الاجتياح الاسرائيليّ في 1982.
وما بقي من رصيد، ومن قوّة، لمنظّمة التحرير، بُدّد في تأييد صدّام حسين يوم غزا الكويت، إلا أن مدريد وأوسلو طوتا هذه الصفحة لاعتبارات من طبيعة إقليميّة. لكن الانتفاضة الثانية ما لبثت أن أعادت الاعتبار للنهج الحسينيّ، فكانت بمثابة تصويت للخيار الأكثر راديكاليّة. وما «حماس» وسلطتها في غزّة غير الدليل على جدّيّة العجز، ومن ثمّ سهولة الانتقال من نقص الوطن إلى نقص الوطنيّة.
وهو مسار يقول إن تفادي الانسداد التاريخيّ الراهن ربّما وفّره تصحيح التصويت، بحيث يُغلّب نهج الملك عبدالله الاول، ولو تأخّر ذلك، على نهج المفتي.
بيد أن تواريخ الأحقاد والمخاوف الأهليّة تجعل ما كان سهلاً أمس أصعب الآن. فالأردنيّون، اليوم، قد يختارون، إذا ما عُرض عليهم هذا الخيار، لبقائهم أكثريّةً، أو أقليّةً ضخمة، بدل التحوّل أقليّة صغرى.
وكائناً ما كان الأمر، يبقى الطموح شرعياًّ جدّاً إلى دولة مركّبة يمكن لتعدّديّتها أن تعوّض الانهيارات التي تعرّضت لها التعدّديّة اللبنانيّة، دولة يتجاوز الطرفان بإنشائها حساسيّات التاريخ.
الحياة     – 31/10/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى