المفكّر العربي طارق حجي… العيب فينا .. والشرف لك!
حاورته مرح البقاعي
الجلوس إلى طارق حجي يكاد يوازي الولوج في غيمة صوفيّ يرتدي جبّة ًنُسِج وبرها الذهبيّ من لُحمة مشهد المعاصرة المفرطة، وسداة دانات التراث العربي.
يدوّرك “طارق” في موجات من زغب “المرّيخ” الحُمر حتى تدوخ من دفق اللغة، ويتنقل بك في طلعاته الحوارية، هونا، بين طبقات الضوء والرخام، حتى ينقلب عليك المكان من فوضى تلاطم الفِكََر، وتعلق روحك بين زوايا بحّة صوته الماجد، لترتمي بيسرِ مكين إلى أتون تلك الرجّة الكنائسية من تداعياته في الشعر والنثر تتناهى إليك ضرباتٍ من أجنحةِ رفّ حمامِ صباحيّ على خشب أبواب قرطبة العاري.
قال فيه أنيس منصور: طارق حجي يصدر كتبا كما تجيء تختفي دون أن يقرأها الكثيرون.. والعيب فينا، والشرف له!
التقيته في نيويورك فخرجت المدينة من إسمنتها لتدخل، راضية مرضية، في لجّة بياض درويش زاهد…
سألتُه:
طارق، أنت تنتمي إلى ثقافة تحتفي باللغة بالعربية، ويتعاظم هذا الاحتفاء حين يقترن الإتقان اللغوي بالبلاغة والشعرية. اسمح لي أن أقول أنني انبهرت بلغتك العربية لجهة النحو والبلاغة والصوتيات.
ومرة أخرى، أرجو ألا يغضبك قولي أنك هذا “المصري” الذي سمعت منه نطق الجيم والثاء والذال كما ينبغي للنطق العربي الفصيح أن يكون. وهنا أريد منك أن ترشدنا إلى مصادرك اللغوية نطقا وكتابة.
حجي: ارتبطت باللغة العربية وولعت بها وبشعرها ونثرها وآدابها وفقه لغتها وصوتياتها منذ كنت على مشارف الذاكرة البكر. وأخذني هذا الهيام إلى مطالعة جل الآثار الأدبية العربية (الشعرية والنثرية)، بل وحفظ نيف وعشرين ألف قصيدة . وكان ولعي بالتليد من روائع وناصيات الأدب العربي كولعي بالحديث والمعاصر منه. ومنذ كنت أستاذا مساعدا للقانون بواحدة من جامعات المغرب، لثلاثة عقود خلت، استقر قراري على ألا َ ألقي كلمة أو حديث إذاعي أو محاضرة أو أدلي بحوار تلفزيوني إلا بالعربية الفصحى. ودون أيّّما جنوح إلى اللهجة المصرية. فأنا بحكم ولعي بالصوتيات أعرف عيوب كل لهجة عربية بما فى ذلك اللهجة المصرية . لقد حفظت – عن ظهر قلب – لزوميات أبي العلاء المعري منذ كنت طالبا جامعيا، ولا يليق بمن يحفظ اللزوميات أن يلحن أو يتأثر باللهجات الدارجة عندما يتحدث بالفصحي – لا سيما عندما ينطق الثاء والظاء والذال … كذلك فأنا أعرف تمام المعرفة أن القاف والسين فى الدارجة المصرية ليسا هما القاف والسين كما ينبغي أن تكونان.
البقاعي: تشي كتاباتك وحواراتك التلفزيونية بزخم معرفي تتلازم فيه الفلسفة مع الأدب والفنون والعلوم الاجتماعية والسياسية وعلم التاريخ. حدثني عن مناهلك المعرفية منذ الابتداء.
حجي: باستثناء العلوم الطبيعية والتطبيقية، كالطب والهندسة والعلوم، فإن رحلتي مع المعرفة وتحصيلها لم تترك أرضا من أراضي العلوم الاجتماعية والإنسانيات إلا ونهلت من عيونها وينابيعها وطالعت الأبرز من كلاسيكياتها … وينطبق هذا على الآداب بمجالاتها المختلفة والتاريخ والفلسفة والعلوم السياسية والاجتماعية. وتشي مكتبتي الخاصة، بكتبها وأسفارها الثلاثين ألف، بحجم وأبعاد رحلتي مع التحصيل وبأكثر من لغة. ففي هذه المكتبة أكثر من ألفي كتاب عن الأديان وبالذات الأديان الإبراهيمية، منها ثلاثمائة سفر عن اليهودية وحدها، معظمها بغير العربية. لهذا لايبدو الأمر غريبا أن أكون واحدا من مؤسسي كرسي الدراسات القبطية (المسيحية الأرثوذوكسية) في الجامعة الأميركية بالقاهرة، أو أن يكون هناك منحة باسمي لدرجة الدكتوراه في حقل الدراسات الإسلامية/اليهودية المقارنة، وفي واحدة من أكبر عشر جامعات فى العالم، وأقصد هنا جامعة تورونتو الكندية.
البقاعي: لمست أنك لا تكتب لمحض الكتابة، وإنما لأنك تهيء لمشروع أراه معرفيا، وأحيانا أراه يقارب السياسة والاجتماع، ومرات أراه ثقافيا عقليا، حدثنا عن هذا المشروع.
حجي: يمكن تلخيص مشروعي الفكري في النقاط التالية :
1- إيقاظ العقل العربي على حقيقة كونه من أقل العقول المعاصرة قبولا للنقد، وكذا ممارسة للنقد الذاني. إذ أرى أن العقل النقدي كان ولا يزال حجرالأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية المعاصرة.
2-الدعوة التفصيلية لضرورة بذر قيمة الإيمان بالتعددية، وممارسة الغيرية، وكلاهما مفتقدان في سوسيولوجيا القبيلة العربية التي لا تعرف إلا الفردانية عوضا عن التعددية، كما أنها تقصي نفسها عن الغير وتلتف حول أناها المتضخمة. وقد قدّمت تحليلات مطولة لتفشّي قيم القبيلة العربية في أهم شكل من أشكال الإبداع عند العرب وهو الشعر. وبيّنت أن الشعر العربي النبطي يقوم كلية على قيم القبيلة المناقضة والمناهضة لقيم المجتمع المدني العصري المتحضر.
3- الدعوة إلى وضع برامج تعليمية تفصيلية تؤصّل لقيمةِ عالميةِ وإنسانيةِ العلم والمعرفة في مسيرة الحضارات البشرية. ففي كتابي “قيم التقدّم” أحاول أن أرسخ في عقل وضمير المتلقي أن التقدّم ليس بظاهرة غربية، ولا يهودية، ولا مسيحية، بل هو ظاهرة ذات مكونات وعناصر إنسانية محض.
4- أنا من المناصرين العنيدين لحقوق المرأة والأقليات، ومن كوكبة الدعاة لقيم التسامح الديني والثقافي.
البقاعي: عندما ولجت دارة أعمالك، وأخصّ منها تلك التي صدرت باللغات الأوروبية، لاحظت أنك تحظى بانتشار في أوروبا وأميركا الشمالية غير معهود بالنسبة لكاتب قضيته المجتمعات العربية: داء ودواء. لماذا توجد عشرات الآلاف من الإشارات لأفكارك وكتاباتك على شبكة الإنترنت، رغم أن جلّها معنيّ بالمجتمع المصري أولا، والمجتمعات العربية تحصيلا ؟
حجي: ببساطة، لأنني مثل ابن رشد بين أهله.. فقد كانوا أكثر استعدادا للترحيب بكتابات هي أبعد ما تكون عن الفلسفة والحكمة والعقلانية، ويندرج تحت ذلك كل ما كتبه أعداء المعتزلة، وعلى رأسهم الحنابلة، الذين لا يزالون، ومنذ ما يزيد عن الألف عام، جاحظين أمام حرمة النص ومولين أدبارهم لمتن العقل. وأسوق هنا منهم: ابن تيمية، وابن قيّم الجوزية، وكذلك الرجل الذي نحر العقلانية في المناخات الإسلاموية وهو أبو حامد الغزالي، وصولا إلى تلك السلسلة “النصّية” غير العقلانية لمحمد بن عبد الوهاب قاضي الدرعية، وانتهاء بالأجيال الأحدث من عباّد النص مثل سيد قطب، وجحافل من تلاميذ تلك المدارس من الذين يدورون وجودا وعدما مع دورة البترودولار الوهّابي. فلما كان ذلك كذلك فقد كان من الطبيعي أن يحتفي بأفكاري أولئك الذين ليسوا بحاجة لها من أهل العقلانية والمنطق والعلم والفلسفة!
أما سدنة النصوص وعبّاد الحرف فأنّى لهم بفهم كتاباتي، ناهيك عن الترحيب بها! ورغم أن هؤلاء أهلي :” ثقافيا”، إلا أنني أفضل، إن كان من المحتوم أن يخاطب أفكاري أحد، أن لا يكون من تلك المجموعات التي تنتمي إلى بيئات الأميّة المستترة والضحالة المعرفية ونحول العقل.
البقاعي: ما موقع “العروبة” من عقل وفكر ووجدان طارق حجي ؟
الآن تضعينني وجها لوجه أمام سؤال هام وحرج في آن. البعض يرى أن بين العرب عناصر وحدة سياسية؛ وكما أعتقد فإن الواقع يدحض “حسن ظن” هؤلاء! فقد أراق العرب من دماء العرب خلال القرن المنصرم أضعاف ما أراق غير العرب من دم العرب. أما الذين يعتقدون بوجود وحدة اقتصادية، فيؤسفني أن أبلغهم أن التجارة العربية ـ العربية لا تبلغ مقدار واحد على عشرين من حجم التجارة غير العربية وهو ما يدحض هذه النظرية، والتي إن كانت نبيلة في نواياها فإنها لا تبرأ من كونها غير واقعية.
أما عن نفسي، فلا أنظر لما يجمع بين العرب على أنه مرتبط بدواع ٍ سياسية أو اقتصادية؛ وحتى على صعيد التجربة التاريخية، ففيها العديد من الفصول التي تجمعنا والعديد مما يفرقنا أيضا.
الرابطة الحقيقةالتي توحدنا هي الرابطة اللغوية الثقافية الأدبية، وكل ما يتجلى فنا وأدبا وتعبيرا. وعليه فإني لا أستسيغ كلمة القومية، وأرفض صيغتها السياسية لأني عارف بمنابتها التاريخية. إني أرى أن الهوية إنما تقوم على حامل اللغة، وليس الدين والقومية، وذلك لكي يصير للمسيحي العربي ـ على سبيل العدّ لا الحصر ـ حق المواطنة الكاملة دون نقصان.
نحن هنا بصدد أمر يتعلق بذيول الدولة العثمانية، وبظرف تاريخي منتهِ ، ما عاد له وجود. ونصيحتي الوحيدة أن نقتنع أن ما يجمعنا فعلا هم أعلام من أمثال طه حسين ونجيب محفوظ وجبران خليل جبران ومارون نقاش ومحمد الماغوط وغادة السمان ومي زيادة وبدر شاكر السياب وفاطمة المرنيسي وعبد الرحمن منيف وسعد الله ونّوس وفدوى طوقان وأحلام مستغانمي… هؤلاء ونظراؤهم عديدون، وهم الذين يشكلون فعلا حامل العروبة الثقافية، وليس الحكام والقادة ورجال الأعمال، وقد أضحت التجارة ضمير المجتمعات المنكر.
الجدير بالذكر أنه من آخر إنجازات طارق حجي مشروع تنويري قيد التأسيس لمؤسسة ثقافية يطلق عليها اسم “مجلس ابن رشد وابن ميمون”Averroes & Maimonides Council للتبادل الثقافي، وذلك بالمشاركة مع مؤسسة الوارف للدراسات في العاصمة الأميركية واشنطن http://www.alwaref.org
للمزيد من المعلومات عن أعمال طارق حجي يمكنكم التوجّه إلى موقعه الألكتروني على العنوان: http://www.tarek-heggy.com
خاص – صفحات سورية –