زكريا محمد:الذهاب إلى النثر خط انسحاب فالموت الشعري أقرب إلى الموت النثري
عناية جابر
زكريا محمد: أنا شامان ولا أكون أنا إذا لم أضع قناعاً
زكريا محمد شاعر فلسطيني أصدر ست مجموعات شعرية، ورواية تحت عنوان: »عصا الراعي« كما كتب للناشئة: »أول زهرة في الأرض«. آخر مجموعاته الشعرية التي صدرت هذه السنة »أحجار البهت«، ويصدر له قريباً عمل جديد عن: »دار آفاق« المصرية. لزكريا محمد ومجموعة من الكتّاب الفلسطينيين موقع الكتروني، يعملون من خلاله على سّد الفراغ الذي أحدثه غياب أو توقّف المجلات الأدبية في فلسطين مثل »الكرمل« أو سواها. مع زكريا محمد كان هذا الحوار:
ديوانك »أشغال يدوية« الصادر في بيروت عام ١٩٩٠ لم يُمح من الذاكرة. بيد أنّك على ما يبدو فضّلت تجريب قلمك نثراً، ورواية تحديداً. هل من مسافات برأيك بين الأجناس الأدبية؟ وما هي مكانة الشاعر، اليوم في كنف مجتمعاتنا؟
﴿ »أشغال يدوية« كانت محاولتي الثانية. أظن أنني امتلكت صوتي تماماً بعدها، أي في مجموعتي الثالثة »الجواد يجتاز إسكدار«، الذي صدر عن دار السراة. أشغال يدوية كانت خطوة في الطريق إلى »الجواد«. في هذه المجموعة فعلت ما بدا لي. ما رأيت أن أفعله من دون أن أهتم بأي شيء. نشرت فيها بروفات لقصائدي حتى. ثم جاءت بعدها مجموعة »ضربة شمس«، وتبعتها مجموعة »أحجار البهت« التي صدرت هذه السنة. وقد كتبت مقالة بعنوان »الشعر والبندورة« أوضح فيها لنفسي مساري في هذه المجموعات.
لا، لم أبتعد عن الشعر. لكنني مقل دوماً. أنا لا أعرف كيف يكتب الشعراء بهذه الكثرة. كيف يكتبون كل يوم. لم يدلني أحد على هذا. لذا أسرق الشعر في لحظات خاصة قليلة، لحظات مشمشية إذا أردت.
أنا لا أظن أن التنقل بين الشعر والنثر هو عبور فوق سياج جارك كي تقطف من شجرته. الكتابة حقل واحد. حقل واحد شاسع فيه من الثمرات الكثير. ويمكن لمن أراد أن يقطفها. بل أقول إن الفن كله حقل واحد. لكن المشكلة في الزمن فقط. ليس هناك وقت كاف كي أكون شاعرا ورساما وسينمائيا. عدم كفاية الزمن هو فقط ما يمنعني من ذلك. لا مانع غير ذلك.
فوق ذلك، فللشعر طرقه. الشعر اقتصاد الكلمة. وهو مرغم على أن يقول الأشياء إيماء. وهذا ربما ما دفعني إلى النثر. ما لا يقبض عليه الشعر في إيماءاته قد يقبض عليه النثر. لكن ربما كان الذهاب إلى النثر أيضا نوعاً من حفظ خط الانسحاب عند الكتاب. ذلك أن الموت الشعري عادة أبكر من الموت النثري. الشعر مكشوف، وموت الشاعر فيه مكشوف وفضائحي. أما النثر فيغطي نفسه بألف طريقة وطريقة. ولهذا قد يذهب الشعراء إلى النثر. يعني أن الخوف من الموت الشعري هو ما قد يكون دافعهم إليه، لست أدري!
روايتك »عصا الراعي« صدرت في القاهرة. تبدو الرواية لقارئها أشبه بالسيرة الذاتية. أتظنّ أن كثيراً ممّا نكتبه ما هو إلا سير أو يوميات ولو استترت وراء حكايات وشخصيات؟
﴿ بشكل ما، نعم. لكن عند لحظة معينة السيرة ذاتها ذريعة للكتابة. أنا لا أكتب سيرة كي أكتب سيرة. أنا أتذرع بالسيرة كي أكتب شيئا ما. كل شيء ذريعة للكتابة. السيرة، الحب، الوطن، الليل والنهار. الموت وحده ليس ذريعة. فنحن نكتب، أي نستخدم الذرائع كلها، كي نتحايل على الموت، كي نحاوره، كي نجعله أليفاً، أو كي نؤجله.
روايتي (عصا الراعي) فيها جزء من سيرتي. لكن مقصدها النهائي ليس السيرة. هي في هدفها الأعمق لعب على أسطورة »جلجامش وأنكيدو«. هناك في الرواية أخ أصغر يفقد أخاه، ويمضي عمره يبحث عنه. حياته كلها تتحول إلى بحث مرير. في أسطورة جلجامش يجري العكس. يموت الصغير، انكيدو، فيبكيه جلجامش بمرارة، ويذهب للعالم السفلي بحثا عنه. »عصا الراعي« معكوس جلجامش.
عبادة الطبيعة
عوالمك الكتابية تعيد للتراب وللأزهار والنباتات بعض اعتبارها بعدما اجتاحتنا كتابات أهل المدن. أهذا هو سبيلك إلى بناء فلسطين وترميم ما تشوّه من ذاكرتنا؟
﴿ أوافق على هذا التقدير. إذا أردت أن أقول لك ما هو الهدف الثاني لرواية »عصا الراعي« فسأقول لك إنها زهرة السيكلاما، أو عصا الراعي كما تسمى عندنا. الرواية مديح لهذه الزهرة. تحويلها إلى رمز. كنت أكتب عنها كي أقول للناس واعياً ما أقول: »ما لكم؟! ألا ترون الزهرة؟!« أو »برقة… برقة، لا تؤذوا الملكة«. وهكذا.
قصائدي أيضا ملك الطبيعة وكائناتها. هي مليئة بكائنات الطبيعة. مليئة بالحيوانات. حمير وجمال وثيران وبغال وطيور. أنا أعبر عن نفسي عبر هذه الكائنات. أنا الشامان القديم أرقص بأقنعة الحيوانات. لا أكون أنا إذا لم أضع قناعا على وجهي. قصائدي حكاية للكون الذي أعرفه أو أجهله بلغة الحيوانات والكائنات. حين أريد أن أعبر عن إرادتي الضارية العمياء أختار شجرة أو جملا لأفعل ذلك: »الشجرة تصعد في الفضاء/ وتقضمه مثل جمل يقضم الشوك«.
أنا والشجرة، أنا والحصان نصعد معا. خطوتي هي خطوته. قناعي وجهه، ووجهه قناعي.
وحين تختلف خطوتي عن خطوة الشجرة، فأنا أختلف معها كشجرة.
بإمكاني أن أقول إنني عبد الطبيعة. وحين يبهظني كل شيء أصعد إلى التلال كي أمنح نفسي ساعتها. لكن كثيرا من التلال ممنوعة علينا الآن. المستوطنون المسلحون في رأس كل تلة. كما أن ما بقي من التلال تسيطر عليه أكياس البلاستيك.
الذاكرة حاضرة في عملك الجديد الذي سيصدر قريباً في القاهرة وهو يدور حول الأساطير…
﴿ نعم، عندي كتاب سيصدر قريبا عن دار آفاق، وهو يصل إلى نتيجة حاسمة واحدة: ان عبادة مكة، وعبادة الجزيرة العربية كلها، كانت هي ذاتها ديانة إيزيس وأوزيريس المصرية. كنت أود أن أسمي الكتاب »الطائر المخمور«، لكنني خفت أن يظن أن هذا شعر وليس بحثا ميثولوجيا. لذا سميته »عبادة إيزيس واوزيريس في مكة في الجاهلية«. الطائر المخمور هذا طائر معروف يدعى »المكّاء«. وقد كان الجاهليون في مكة يقلدون صوته في صلاتهم. وورد دليل على ذلك في الآية ٣٦ من سورة الأنفال في القرآن: »وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية«. والمُكاء هو صوت المُكّاء الطائر هذا. أما التصدية فهي صوت الحية. صلاتهم كانت ترديدا لصوتي الطائر والحية، أي لنغمتي الكون الرئيستين: نغمة القمة، أي نغمة الصيف الخمري الفيضي، ونغمة القرار، أي نغمة الشتاء الساكن القار. وبلغة أخرى جرياً بين أوزيريس في فيضه ولا فيضه.
وبالمناسبة ما زالت أسطورة هذا الطائر الخمري حية حتى الآن. وقد سمعتها في سوريا في الثمانينيات. فهناك يتحدثون عن طائر يسمى »السكران«. يظهر هذا الطائر وقت نضوج العنب والرمان، ثم يأخذ حبة رمان ويفرغها من ثمارها. ثم يذهب إلى شجيرات العنب ويأخذ أنضج الثمار بمنقاره ويضعها داخل الرمانة الخاوية. وحين تمتلئ يغلقها بالطين، وينتظر حتى يتحول العنب إلى خمر. وحينها يفتح الرمانة ويغرق منقاره في النبيذ، ويشرب، ثم يطير كي يغرد في السماء. وهكذا كان يفعل الطائر المكّاء في مكة في الجاهلية فهو خمري كالسكران، وهو سكران مثله. يقول امرؤ القيس في معلقته: »كأن مكاكيّ السماء غديّة/ نشاوى تساقوا بالرياح المفلفل«.
والرياح هنا هي الخمر. وهكذا فالمكاكي، جمع مكاء، كانت في وقت امرئ القيس تصعد في السماء سكرى نشوانة مغنية.
أمر ممتع جدا أن تطوف في عوالم الميثولوجيا المدهشة. وهذا ليس بعيدا عن الشعر. الشعر والأسطورة كانا معا دوما. بل إن الشعر كان أداة الأسطورة الأولى. هذا واضح تماما عند اليونان. لكنه سيكون واضحا أيضا لمن يدخل عالم الأساطير عندنا.
طبعا، علي أن أعترف بأن الذهاب إلى التاريخ والأسطورة قد يكون محاولة للهرب من عالم الهزيمة الواقعي الذي نحن فيه. نحن مطحونون تماما الآن، وفي اللحظة. لكننا لسنا كذلك في الماضي، أو أننا هكذا نتصور، ربما.
حين أذهب إلى الأسطورة فأنا أذهب إلى الشعر في بيته. يعني أنا لا أخونه مع الأسطورة.
فلسطين عربية
هل قادتك عمليات التنقيب في الذاكرة الفلسطينية، إلى ذاكرة عربية أوسع؟ ماذا اكتشفت وأنت تنقّب في النّصوص القديمة؟
﴿ كلما نقبت في ذاكرة فلسطين وجدتها عربية. ليس لفلسطين ذاكرة أخرى غيرها. وكي لا أفهم خطأ، فأنا أرى أن تراث المنطقة كلها، أي بابل وآشور ومصر وكنعان وآرام، كله عربي. يعني أن كلمة عربي اسم لكل ما أنتجته المنطقة. التركيز على فلسطينية فلسطين عندي هو فقط محاولة من أجل وضع قاعدة لروح المقاومة. كي تقاوم فلسطين المشروع الصهيوني يجب أن تكون فلسطينية. لكنها تقاوم كي تكون عربية، ولا شيء غير ذلك.
وأقول لك إنني حين اكتشفت في بحثي أن أوزيريس وإيزيس كانا متوجين في مكة، كما كانا في مصر، بدا لي أن قاموسنا السياسي الحاضر الحاضرة يفقد معناه. لم يعد يعني لي شيئا.
قرأت قبل أيّام أنّك ألّفت كتاباً للناشئة وعنوانه »أوّل زهرة في الأرض«، هل لك أن تخبرنا عن هذه التجربة؟
﴿ هذا ايضا دليل آخر على أنني »لا أستحي«، وأنني أقفز بوقاحة عن »تخصصي«. نعم، لقد كتبت عدداً من قصص الأطفال ونشرتها. لكن ذلك حدث لأنني أب لا غير. بدأ الأمر حين ولدت ابنتي. اضطرب ابني، الذي كان في الثانية والنصف من عمره، من قدوم الضيف الغريب. اضطرب بشدة، خاصة أن ذلك ترافق مع انتقالنا من بلد إلى بلد آخر. وكي أسليه، كي أساعده في التغلب على اضطرابه، صرت ملزماً بأن أقرأ له القصص. وحين لا أجد قصة أرغم على اختراع قصة له. وهكذا اخترعت عشرات القصص له. وحين كبرت ابنتي قليلا، كان علي أن أواصل اختراع القصص للاثنين معا. وفي لحظة محددة، وحين اكتشفت أن بعض القصص تعجبهما ويطلبانها مرة بعد أخرى، فكرت في تسجيلها. وسجلتها فعلا. في ما بعد نشرت بعضها. وفي ما بعد أيضا كتبت قصصاً أخرى لم أخترعها لولديّ.
كان الأمر صدفة. وقد أحببت هذه الصدفة. كتبت مرة قصة اسمها »نمولة«، مأخوذة عن أصل فولكلوري، وكنت سعيدا حين كان بعض الأطفال الذين قرأوا القصة يشيرون إليّ قائلين: نمولة! لقد صرت نملة صغيرة. وهذا يعني أنني، مرة اخرى، أرقص بأقنعة الكائنات الأخرى.
زكريا محمد يقرأ بلا شك في الكتب القديمة، هل يقرأ أيضاً لأقرانه؟ ما القراءة بالنّسبة إلى شاعر وروائي ومنقّب في خزائن اللغة؟ هل من حيلة أو طريقة كي يعود القرّاء العرب إلى القراءة؟
﴿ أقرأ لأقراني. وأحب منهم من يدفعني إلى الكتابة أو القراءة. وكنت دائما أقول لنفسي: عليك أن تكون رحيما بالآخرين ونصوصهم، وقاسيا مع نفسك. أنا أبحث عن الجميل في نصوص أقراني، وفي نصوص الآخرين، لا عن سهواتهم وأخطائهم. وحين يعجبني شيء أكتب عنه. أعتقد أن مهمة الكاتب، حين يتصدى لدور الناقد، أن يكتب عن الجيد لا عن السيئ. وفي ما يخص نصوصي فإنني أبحث عما هو سيئ فيها. أبحث عنه كي أزيله. وحين يكون منشورا أبحث عنه كي أقرع نفسي على ما فعلت.
أما بخصوص الحيلة، فليس لدي حيلة واحدة. الحيلة الوحيدة هي أن نحاول جعل ما نكتبه أنيقا وجميلا.
عناية جابر
السفير