“مكانة الحضارة الغربية”
د. طيب تيزيني
نستعير عنوان هذه المقالة من كتاب أو بحث أنجزه عالم الأجناس “كلود ليفي شتراوس”، وهو (العرق والتاريخ). و”شتراوس” هذا عالم شهير قدم الكثير على صعيد علمه، بل كذلك في حقول أخرى ذات علاقة بذاك، عن طريق موضوعة “الثقافة الغربية”. ولقد جاء الاهتمام بالبحث المذكور من باب ما يحدث راهناً من ندوات ومؤتمرات ومحاضرات ثقافية بمناسبة الاحتفال بـ”دمشق عاصمة للثقافة العربية” لهذا العام.
فالعالم الباحث قدم أفكاره حول مكانة الحضارة الغربية على نحوٍ قد يُفضي إلى نزعة “المركزية الغربية”، مع العلم أن كتابه مليء بالتحليلات والآراء، التي يتحدث فيها عن المساواة والتسامح وضرورة التعاون بين الثقافات والحضارات.
وقد أثار ذلك التباساً في جمهور محاضرة ألقيتها في مركز ثقافي، بل إن هذا الالتباس يمكن أن ينشأ في وسط من المثقفين الباحثين المتمرّسين. والحق، إن مثل ذلك الالتباس ليس من الصعوبة أن ينشأ على صعيد ما طرحه مؤلف الكتاب المعني هنا. يقول “شتراوس” ما يلي مشيراً إلى إمكانية الاعتراض على قوله:”قد يعترض البعض على هذا التحليل بسبب صفته النظرية، قد يُقال إنه من الممكن، على مستوى المنطق المجرد، أن تكون كل ثقافة غير قادرة على إطلاق حكم صحيح على ثقافة أخرى، طالما أن أي ثقافة لا يمكنها أن تهرب من نفسها وبالتالي يبقى تقييمها أسير نسبية لا جدوى منها“.
وهو، أي “شتراوس”، يرفض تلك الرؤية قائلاً لنقّاده: “ولكن انظروا حولكم، وانتبهوا لكل ما يجري في العالم منذ قرن واحد، فتنهار كل تأملاتكم. وبعيداً عن انغلاقها على نفسها، تعترف جميع الحضارات بتفوق واحدة منها، ألا وهي الحضارة الغربية. ألا نرى العالم بأسره يستعير منها تدريجياً تقنياتها ونمط حياتها وأساليب لهوها وحتى ملابسها؟ إن سير الثقافات الإنسانية نفسها يثبت ُعبر موافقة إجماعية لا سابقة لها في التاريخ أن واحدة من صيغ الحضارة الإنسانية متفوقة على كل الأخريات“.
وينتهي الكاتب إلى رأي فيه الكثير من القسوة، وشيء من أيديولوجيا المستشرقين الآخذين بالنزعة المركزية الأوروبية وبـ”المعجزة الغربية”. يقول: “إن مأخذ البلدان المتخلفة على البلدان الأخرى في المحافل الدولية ليس سعيها لتغريبها، وإنما عدم إعطائها بالسرعة الكافية التي تمكنها من التغرّب (S’occidentaliser)”،
نلاحظ أن الكاتب يتبع نظرية “الغالب والمغلوب”، ومعروف أن ابن خلدون كان من الرواد المؤسِّسين لها. لكن هذا الأخير لم يتحدث عن أن “المغلوب”، بعجره وبجره وبكل فئاته وطبقاته ومكوناته، يلهث وراء “غالبه”، مطالباً إياه بجرِّه، بسرعة، إلى مصافِّه، وذلك بكيفية تؤدي إلى “تغرُّبه”. وكيفما كان الموقف لدى ابن خلدون ومنه، فإن خطأ فاحشاً يكمن في الرأي الـ”شتراوسي”، هو عدم التّنبُّه إلى أنه في تاريخ “البلدان المختلفة” التي عناها الكاتب، وُجدت حركة واسعة من الكفاح ضد “التغريب”، قامت بها طلائع شعوب هذه البلدان، وأخذت تسميتها بامتياز، وهي “حركة التحرر في العالم الثالث”، ومن ضمنه العالم العربي. وبهذا، أتت هذه الحركة لتدلّل -في الحقل النظري السياسي- على بطلان القول بشمولية نظرية “الغالب والمغلوب”، نعم كانت هنالك، وما تزال فئات في العالم المذكور، تطمح إلى التغرّب، أي الاندماج بالغرب على نحو سريع أولاً، وكلي ثانياً. بل إن هذه الفئات اتسعت بقوة عشوائية في العِقدين الأخيرين بتأثير عاملين اثنين، من الأهمية بمكان البحث فيهما واستنباط النتائج المناسبة من هذا الأخير.
أما العامل الأول، فيتمثل في الأشكال المتعاظمة من الفقر والإفقار، التي تؤسس لها النُّظم السياسية الأمنية في البلدان المشار إليها، يداً بيد مع ترسيخ آلية جديدة قديمة لتعميق تلك الأشكال في حياة الشعوب المعْنية، هي: من التخلّف إلى التخليف، أي إلى تأبيد التخلف. ويفصح العامل الثاني عن نفسه في شخص “الغرب” نفسه، الذي يتحدث عنه “شتراوس” بوصفه حامل الحضارة الكونية الراهنة. ومن شديد المفارقة أن هذه الحضارة، التي يعلن الكاتب إن مأخذ “البلدان المتخلفة” على أصحابها هو أنهم لا يسرّعون في “تغريبهم”، هي التي أحكمت قبضتها على البلدان إيّاها، بما في ذلك نُظمها القائمة، بدعوى تحديثها. وعلى العكس مما طرحه العالم “شتراوس” وممّا يفعله “الغرب المهيمن” -وليس الغرب بإطلاق- حيال “العالم المتخلف”، فإن فك الارتباط الهيمني بين الفريقين، هو الذي يمكن أن يؤسس لعلاقات حضارية إنسانية عظيمة بينهما، يكون الاحترام فيها والتعاون سيدي الموقف