تغيير تم وتغيير محتمل
الياس سحاب
ليس كلاما شعريا القول بأن الكرة الارضية قد اصبحت موقعا اكثر امانا للعيش فيه، بعد حلول باراك اوباما محل جورج دبليو بوش في البيت الابيض، لكنه كلام سياسي بامتياز، رغم شكله الشعري.
ذلك ان القول بأن هذا الحدث لم يأت بالتغيير، بل اتى بمجرد احتمالات للتغيير، قد تتحقق وقد لا تتحقق، فيه شيء كثير من التشاؤم، اضافة الى شيء من ادعاء الرصانة المفتعلة. فالحقيقة امامنا تؤكد ان شيئا من التغيير الحقيقي قد تم، لمجرد اكتمال حدث انتخاب اوباما رئيسا للولايات المتحدة، وان كان الشيء الاكثر من التغيير، هو بالفعل مجموعة احتمالات يبقى تحققها او عدمه مرهونين بعوامل كثيرة، اهمها قابلية المؤسسات الاميركية الحاكمة (سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا واعلاميا)، للتفاعل الكامل مع مفاعيل التغيير الحاصل في البيت الابيض، يليها في الاهمية قابلية الجماعات البشرية التي تتشكل منها بقية اعضاء المجتمع الدولي، الارتقاء بدورها الى مستوى هذا التغيير والتفاعل معه.
اما الذي تم واكتمل من عوامل التغيير فواضحة جلية، ابرزها عاملان:
÷ سقوط منظومة المحافظين الجدد المعششة في كل مؤسسات الحكم الاميركية منذ ثماني سنوات على الاقل، وذلك بالضربة السياسية القاضية، بعد الضربة الاقتصادية القاضية لوول ستريت، وبعد الضربات التمهيدية للفشل في افغانستان والعراق، وسائر بقاع التوتر الاخرى. قد لا يعني هذا السقوط قضاء نهائيا مبرما لا رجعة فيه على ظاهرة المحافظين الجدد، لكن ما عانت منه الولايات المتحدة نفسها، والعالم، في عهد السيطرة الكاملة للمحافظين الجدد، لا بد ان يكون درسا كافيا وافيا للمجتمع الاميركي اولا، ولكل العالم بعد ذلك، بما يجعل احتمال عودة ظاهرة المحافظين الجدد الى البيت الابيض، احتمالا غير قابل للتكرار.
÷ ان وصول مواطن اسود الى سدة الرئاسة، في مجتمع الدولة العظمى في العالم، الذي كان الاسود فيه عبدا (بكل ما في العبودية من معنى) حتى ما قبل قرن ونصف القرن، وبقي بعد نجاح حرب تحرير العبيد خافضا رأسه تحت نير ابشع انواع التمييز العنصري، حتى وقت قريب، ان وصول هذا المواطن الاسود الى سدة الرئاسة في هذا المجتمع، بغالبية سبعة ملايين صوت انتخابي، هو ظاهرة تغيير شديد العمق، تفرض علينا (احببنا ذلك ام كرهنا) الالتفات باهتمام الى ما صرح به باراك اوباما، بعد وصوله الى البيت الابيض، واصفا هذا الحدث بأنه »دليل اثبتنا به للعالم ان عظمة الولايات المتحدة، ليست في ثروتها المادية ولا في قوتها العسكرية، بل في مبادئها«.
ان هذا التغيير، بكل ما يعنيه، لن يتوقف برأيي داخل حدود الولايات المتحدة الاميركية، لكنه ذا قوة اشعاعية ستصل حتى آخر بقعة في الارض، تهز مجتمعاته المتحركة او الراكدة الى التنبه لكل رواسب العنصرية الكامنة فيها من مختلف الدرجات والالوان، وتجعلها تبدأ على الاقل بالخجل مما تحمله من بذور وظواهر العنصرية، الظاهر منها والمستتر، تمهيدا للتخلص منها، كما تم في حادثة وصول مواطن اسود اخيرا الى سدة البيت الاميركي الابيض.
هذا ما تحقق من تغيير بمجرد وصول اوباما الى البيت الابيض، بالغالبية المريحة جدا التي اوصلته. بقيت بعد ذلك الامال المعقودة على المفاعيل اللاحقة لتغييرات اخرى لاحقة، تقف عند حدود الاحتمال ولا تتعداها لاسباب كثيرة، اهمها:
÷ ان خروج المحافظين الجدد من جنة البيت الابيض، لا يعني خروجهم من كل مسام الحياة الاميركية، داخل المؤسسات وخارجها، لا بل ان الضربة القاضية التي تلقوها ستزيدهم شراسة على شراستهم المعهودة.
÷ من المؤكد ان الامتدادات السلبية للنفوذ الامبراطوري الاميركي في العالم، ليست كلها من ثمار تسلط المحافظين الجدد، بل ان طبيعة القوة الفائقة التي حولت الولايات المتحدة الى امبراطورية قابلة بالطبيعة لنشر نفوذها خارج حدودها، هذه القوة الفائقة لها طبائع استعمارية، قد تزيدها ادارة المحافظين الجدد بشاعة، لكن فيها بشاعة تسلطية اساسية. ان انتصار المواطن الاميركي الاسود على مظاهر التمييز العنصري وروحها، داخل حدود اميركا، ليس مرشحا للانعكاس آليا على علاقات اميركا الخارجية بدول العالم وشعوبه، فقوى التسلط الاستعماري الاقتصادي والمالي والعسكري والسياسي ستبقى على صراع دائم مع مفاعيل ما تحقق من تغيير جزئي، وهو صراع بقاء، لا يجوز التقليل من شراسته وشراهته داخل الحدود الاميركية نفسها، وخارجها.
÷ هناك عامل خارجي من المؤكد انه ذو تأثير بالغ ايضا في تحديد مستقبل العلاقات الخارجية لاميركا، هو وصول رياح التغيير الاميركية الداخلية، الى داخل مسام مجتمعات العالم الثالث بشكل خاص، وحتى العالم الثاني، بحيث تخرج انظمة الحكم في هذه المجتمعات من الانبطاح الحالي المخزي امام جبروت الطغيان الامبراطوري الاميركي. وليس المقصود بذلك تحريك بؤر المقاومة المسلحة ضد النفوذ الاميركي حيثما وجد، بل تصليب عود الارادة السياسية المستقلة في كل من هذه المجتمعات، بحيث لا يزيد الانبطاح السياسي المجاني اطماع السيطرة لدى القوة الاميركية.
لا بد من التطرق الى نقطة اخيرة، في هذا المجال تخصنا نحن العرب بشكل خاص، حيث اصبح من المسلمات ان اي تغيير في الولايات المتحدة، مهما علا شأنه، لا يمكن ان يترجم تغييرا في العلاقة الاستراتيجية المميزة بين اميركا واسرائيل.
ان امن اسرائيل ووجودها، والدفاع عنهما، اصبح من مسلمات المجتمع الدولي بمعظم دوله، وليس الولايات المتحدة وحدها، لذلك فان المطلوب الممكن هو فك ارتباط واشنطن بالحركة الصهيونية وتطلعاتها التوسعية، وهو برأيي تغيير واقعي قابل للتحقيق ولو في المدى البعيد. ان الخطر الحقيقي في المشروع الاسرائيلي منذ تأسيسه، هو العقلية الاستيطانية التوسعية التسلطية للحركة الصهيونية، التي بغيرها تعود اسرائيل كيانا سياسيا عاديا، يمكن حصر مشكلاتنا معه في اضيق المساحات. ولكن مرة اخرى، فان احتمال اي تغيير مهما كان بسيطا في السياسة الاميركية، تجاه اسرائيل، يبقى مرهونا اولا واخيرا بموقف الانظمة العربية نفسها من اسرائيل وبالذات من العقيدة الصهيونية التي لا تسيطر على حكومات اسرائيل وحدها، بل على تركيبتها الاجتماعية الداخلية، كما تشير التحولات السياسية الاخيرة داخل اسرائيل.
لكن هذه اعقد المشكلات، بحيث يبقى موقعها في قائمة احتمالات التغيير هو آخر المواقع، لاسباب لا تتعلق باحتمالات التغيير الاميركي داخل اميركا وحدها، بل باحتمالات التغيير داخل المجتمعات والدول العربية هذه المرة.
وفي خلاصة اخيرة نقول: لقد انتزع المواطن الاميركي الاسود ارقى واعلى حقوقه المدنية من مخالب التمييز العنصري، بعد كفاح قرنين كاملين، فكم من الوقت يحتاج المواطن العربي لانتزاع ابسط حقوقه المدنية، من حكوماته العربية؟ هذه هي الترجمة العربية لاحتمالات التغيير المطلوب، التي بدونها لا امل بأن تلفحنا رياح التغيير الخارجي، مهما عظم شأنها.
السفير