أوباما.. أوباما
أمجد ناصر
في تلك الليلة لم أنم. مثل ملايين غيري، على الجانب القديم من الاطلسي، لم أنم. مثل غيري كان أرقي الإرادي مستَنفراً، قلقاً، طويلاً. مثل غيري على ضفتي المتوسط، على جوانب البحر الأحمر، خلف المحيط الهندي، لم أنم. مثل غيري في أوروبا وافريقيا وآسيا لم أنم. ففي تلك الليلة كان التاريخ يرسم خطاً على الأرض. ليس في الكلام والبلاغة والمجازات المستهلكة والشعارات الفاقدة لكل زخم ولكن على الأرض وفي قلوب الناس. في ‘الغراند بارك’ في شيكاغو. في ‘تايم سكوير’ في نيويورك. في بنسلفانيا وأوهايو وفلوريدا وكل ‘المتأرجحين’ على حبل لحظة تاريخية توشك ان تحدث، في الولايات الحمراء والولايات الزرقاء والذين رغبوا، من أعماق قلوبهم، بالتغيير. هناك، وبسبب اولئك، فتح تاريخ قوة العرق والمال والتقليد والدين صفحة جديدة. لن يقلل من قوة الحدث ونضارته وجرأته وحقيقته وملحميته القول إن امريكا غيرت وجهها فقط ولم تغير عقلها وقلبها وقبضتها. فليس صحيحا أن امريكا استبدلت وجها بوجه، أو ارتدت قناعا جديدا. الذين لا يرون في اوباما سوى قناع للرجل الأبيض مخطئون. فالرجل الأبيض لم يكن يحتاج قناعا. ليس هذا القناع على الأقل. إنه لا يحتاج الى هذه ‘التمثيلية’. إنه متغطرس. لا يقبل الهزيمة بسهولة. ذلك الرجل الابيض الذي استمات كي لا يأتي باراك اوباما الى البيت الأبيض ليس سعيدا بهذه النتيجة. لن يكون عزاء له القول: هذه هي أمريكا. بلد الفرصة والمعجزات. الذين سمعوا أصوات الاستنكار الطالعة من معسكر المرشح المهزوم وهو يقر بنصر غريمه غير المسبوق تأكدوا أن أمريكا انقسمت في تلك الليلة الى اثنتين على العلم المخطط المكتظ بالنجوم: أمريكا القديمة وأمريكا الجديدة. أمريكا الرجل الأبيض، الكاوبوي، تاريخ العبودية والفصل العنصري، اقتناء السلاح وحرية السوق الجشعة، وأمريكا الامتزاج العرقي والاقليات والليبرالية وأحلام السينما والكتب ومحبي السلم والبيئة والنساء والاهتمام بما يجري في العالم. مجيء أوباما الى البيت الأبيض ثمرة صراع طويل بين قيم بالية عنصرية وقيم جديدة، شابة، منفتحة، ومتسامحة وقابلة للاعتراف بخطئها ومستعدة للتغيير. في تلك الليلة كانت أمريكا على موعد مع تاريخ بدا قبل عامين فقط غير قابل للتصور فكيف للتحقق. هذا لم يذهلنا نحن، في العالم العربي الذي ضاق ذرعا بأمريكا التي تضغط على الزناد عند أدنى حركة، بل أذهل أوروبا، شريكتها في الاطلسي وحليفتها المكرهة فيه.
‘ ‘ ‘
ليلة الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) كانت كل تلفزات العالم تتابع، بقلق وأرق وخوف، ما يجري على الجهة الأخرى من الاطلسي. كنت اتنقل بين الـ ‘بي بي سي’، ببثيها الانكليزي والعربي، و’الجزيرة’، و’العربية’. كانت الـ ‘بي بي سي’ قد وزعت خيرة مراسليها على معظم مراكز الاقتراع الامريكية الحساسة، خصوصا، في الولايات المتأرجحة. كان كبير مذيعيها ديفيد دمبلبي الذي لا يُرى، على الشاشة، إلاَّ في الأحداث الجلل يدير من واشنطن شبكة واسعة ومعقدة من المراسلين والمعلقين. ‘بي بي سي’ العربية فعلت ذلك من لندن وواشنطن، ‘الجزيرة’ نقلت ثقلها الى أرض المعركة. لا أعرف كيف غطت فرنسا، المانيا، روسيا، الصين، اليابان، كوبا (خصوصا هذه الأخيرة) وقائع تلك الملحمة. لكن لندن تعكس، في تقديري، شعور أوروبا العميق بالقلق، برغبتها في التغيير، رغم ‘العلاقات الخاصة’ التي تربط بين الامبراطورية العظمى الآفلة وتلك الطالعة من وراء الأطلسي. فما يجري في أمريكا لم يعد يعني، منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل، أمريكا وحدها، بل يعني العالم بأسره.
‘ ‘ ‘
تابعت خلال وجودي في لندن أكثر من سباق رئاسي أمريكي، بدءا من ولايتيّ كلينتون المأسوف عليهما، لأكثر من سبب، ولكن تحديدا بسبب ولايتيّ دبليو بوش المكللتين بالدماء والدموع، غير أنني لم ألحظ اهتماما بريطانيا، اعلاميا وسياسيا وثقافيا، كما حصل في الصراع بين حزبيّ أمريكا الكبيرين ( لِمَ لا أقول الوحيدين).
والسبب واضح وبسيط: وجود باراك أوباما. فلولا هذا المرشح المتحدر من أصول مختلطة كينية وأمريكية بيضاء لما كان السباق بين الحزبين الامريكيين لدفع مرشحيهما للرئاسة قد اكتسب ذلك الزخم الداخلي الأمريكي والعالمي. صحيح أن وجود هيلاري كلينتون مدَّ السباق بما لا سابق له في التاريخ الامريكي: ترشح سيدة للبيت الأبيض، ولكن تلك السيدة بقيت، في نظر كثير من المراقبين، استمرارا لحملة ورئيس سابقين.
لم أقرأ أو أسمع معلقا أو سياسيا أو مثقفا بريطانيا لم يعتبر وجود باراك أوباما على قائمة السباق الى البيت الأبيض حدثا يستحق الاحتفاء والدعم، إن لم يكن التهليل، حتى أن عمدة لندن، المحافظ، فعل ذلك في أكثر من تعليق ومقال. هناك، طبعا، أسباب متعددة وقفت وراء ذلك الترحيب العجيب بأوباما ولكن أهم سبب، على الاطلاق، هو الوعد بانفراج دولي يمكن أن يشهده العهد المأمول لأوباما. انفراج ليس على مستوى صورة أمريكا المتدهورة في أوروبا ‘العجوز’ بل في صورة النظام السياسي العالمي والعلاقات بين الأمم.
نظن، في العالمين العربي والاسلامي، اننا الوحيدون الذين ‘نكره’ أمريكا. ونظن أن سؤال ادارة بوش اليمينية الاستنكاري: لماذا يكرهوننا، موجه لنا وحدنا بين سائر الشعوب والأمم، ولكن ذلك ليس صحيحا، فـ ‘كره’ أمريكا الرسمية في أوروبا ليس أقل مما هو عليه في العالمين العربي والاسلامي. فالناس، هنا، تعتبر أمريكا، في عهدها الجمهوري الحالي، مصدر شرور كثيرة في العالم. فلولا أمريكا جورج بوش وديك تشيني لما كانت صورة العالم بائسة الى هذا الحد، لما كانت الحرب أول رد فعل يخطر في بال أكبر قوة على الأرض، لما تردى الاقتصاد الى هذا الدرك وجاعت شعوب كثيرة. باختصار: لكان العالم في حال أفضل.
الولع الأوروبي بأوباما (وفي غير مكان في العالم) يعني رغبة عميقة في التغيير الأمريكي. ليس في لون الجلد فقط ولكن ما وراء اللون نفسه. طبعا هذا مديح غير مفكّر فيه لأمريكا نفسها التي نهجوها. فحدث كهذا (فوز مرشح أسود للرئاسة) لا يحصل في العالم الغربي ‘الأبيض’ إلاَّ في أمريكا بالذات، ليس لأن هناك شريحة كبيرة من السود الامريكيين ولكن لأن ‘فكرة’ أمريكا تقوم، حيال نفسها، على هذه الكلمة السحرية: الحلم.
قد تكون أمريكا استعادت الحلم في تلك الليلة الانتخابية الطويلة بعد ‘الواقعية’ الفجة، الركيكة، المبتذلة، التي طبعت صورتها في عهد جورج بوش الابن. العالم بحاجة، في زمن القطب الواحد، الى الحلم الأمريكي، الى قدرة تلك القارة على تغيير نفسها واستعادة رشدها والمساهمة في تأجيج المخيلة الانسانية. فالحروب التي حدثت في عهد بوش الابن كان يُظَنُ على نطاق واسع، وخصوصا، بعد انتهاء الحرب الباردة، أنها صارت من إرث الماضي البغيض.
الأوروبيون، الآسيويون، اللاتينيون، الأفارقة، العرب الذين كانوا أكبر المصوتين (ولكن بلا صناديق اقتراع) لانتخاب أوباما رغبوا، من أعماقهم، أن يفوز المرشح الأسود بالبيت الأبيض لأنهم، على ما أظن، يحبون أمريكا فعلا: أمريكا الأحلام والأفلام والمبادرات والبساطة السياسية والنقاشات المفتوحة. ومن نافل القول ان ذلك لم يكن ليتحقق بوجود جون ماكين في سدة الرئاسة، فالأمر يعني استمرار العهد الحالي المظلم.. ولكن بوجه عجوز سبعينيٍّ يريد لأمريكا أن تبقى في العراق (مثلا) مئة سنة أخرى!
في تلك الليلة التي لم ينم فيها كثيرون أكدت أمريكا أنها قادرة على مفاجأة نفسها والعالم. فبعد نحو شهر من الآن سنرى العائلة الامريكية الأولى سوداء في البيت الأبيض. سيكون هناك رئيس أسود وامرأة أولى سوداء وابنتان سوداوان، لم تصدقا ما يحدث عندما صعدتا مع أبيهما لتحية المحتشدين في ‘الغراند بارك’ في شيكاغو. أليست هذه أمريكا جديدة؟ نأمل ذلك.
القدس العربي