صفحات العالمياسين الحاج صالح

رئيس أسود في البيت الأبيض..!

ياسين الحاج صالح
قبل أن يكون فوز باراك أوباما بالرئاسة الأميركية انتصارا شخصيا له، ولحزبه الديمقراطي، هو انتصار كبير للأميركيين على أنفسهم. وهو شرف لهم جميعا لا يسع المرء إلا أن يغبطهم عليه. لقد انتخب أكثرهم رئيسا “ملونا”، أقرب إلى السواد، وهم الذين تشكل تاريخهم بالعبودية والتمييز العنصري، ولا يزال بينهم تيار نافذ يعرف الهوية الأميركية بالواسب (البيض الأنكلوسكسون البروتسانت). ورغم أن لون الرجل كان خصما من نسبة التصويت له، إلا أنه ثبت في النهاية أن الخصم الذي شكلته الأزمة المالية الراهنة والميراث البوشي من حساب منافسه الجمهوري جون ماكين كان أكبر. وبإقبالهم على التصويت بكثافة ومنحهم فوزا جيدا للرجل المستجد ضمن صفوف الطبقة السياسية الأميركية، أظهرت أكثرية أميركية كبيرة انحيازها إلى خيار المصلحة العقلانية ضد سياسة الهوية ومقتضياتها. وبهذا اندرج فوز أوباما في سلسلة مشرفة تمتد من الحرب الأهلية قبل 145 عاما من أجل تحرير العبيد والكفاح ضد التمييز العنصري الذي عرف ذروته في حركة الحقوق المدنية في الستينات.
ولكان جون ماكين لو فاز بالرئاسة الأميركية نذير شؤم على مستقبل أميركا والعالم. إذ كان سيعني أن البلد الأقوى والأغنى في العالم ينحاز للأصل على الإنجاز، وللنزعة المحافظة على إرادة التغيير، وللبيض على “الملونين”، ويصادق على السياسات البوشية، وإن في نسخة معدلة بعض الشيء.
***
تعودنا في العالم العربي على تقييم الرؤساء الأميركيين وفقا لموقفهم مما يفترض أنها قضايا عربية مشتركة، فلسطين بخاصة. هذا منطقي. لكنه يضمر افتراضا ضمنيا بأن هناك سياسات عربية متسقة، موجهة نحو خدمة القضايا المعنية، لولا أن يحبطها الانحياز الأميركي. من يستطيع القول إن الأمر كذلك؟ هذا المعيار التقييمي يعكس في آن موقفا سلبيا ومتفرجا (على الأميركيين أن ينصروا قضايا قلما يجتهد أهلها لنصرتها)، وموقفا انعزاليا ومتمركزا حول الذات: إذا كانت السياسة الأميركية منصفة للعرب فلا تهم أية خصائص أخرى محتملة لها. هذا موقف أناني وغير مسؤول، فنحن في العالم ومنه وينبغي أن نكون معه، ومن شأن سياسات أميركية أقل تمركزا حول القوة العسكرية وأكثر تفاعلية وتعاونا أن تكون إيجابية للعالم ككل. وينبغي لما هو إيجابي للعالم إيجابي للعرب أيضا. إلى ذلك فإن من شأن النظر الحصري إلى السياسات الأميركية من منظار إيجابيتها أو سلبيتها حيال العرب وشؤونهم أن يورثنا عجزا مطبقا عن فهم كيف نؤثر على سياسات الأميركيين وكيف يمكن أن تتغير سياساتهم في اتجاه أكثر ملاءمة لمصالحنا. وعند طرح الأمر بهذه الصورة يظهر على الفور أن المدخل إلى تعديل السياسة الأميركية في الاتجاه المرغوب هو تعديل السياسات العربية ذاتها لتنصف المجتمعا المحكومة وتنضبط بمطالبها، ولتتعامل مع العالم بروح من الإنصاف والمسؤولية.
قبل أربع سنوات، وبمناسبة انتخابات الرئاسة الأميركية التي انتهت بتمديد ولاية بوش اقترح كاتب هذه السطور أن نشارك، نحن سكان “الشرق الأوسط”، في انتخاب الرئيس الأميركي لأن السياسات الأميركية تؤثر بقوة على أوضاعنا ومصائرنا دون أن نستشار فيها. وهذا متعارض مع مبدأ الديمقراطية الذي جعل جورج بوش من نفسه بطلا له وسوغ به احتلال العراق. لكن أليس أولى أن ننتخب رؤسائنا وقادتنا، وتأثيرهم على حياتنا ومستقبلنا أكبر بلا جدال من تأثير الأميركيين؟ وهم بعد قلما يستشيروننا أو يأخذون بآرائنا، بل وقد ينالنا منهم ما لا يسر إن حرصنا على التعبير العلني الصريح عنها. الغرض أن نقول إن التعديل الضروري للسياسات الأميركية الجائرة فعلا حيال قضايا عربية أساسية يمر عبر تطوير سياسات ومؤسسات سياسية عقلانية وديمقراطية في بلداننا. وهذا هو النقيض التام لإيديولوجية نظمنا التي، بالعكس، تستند إلى عداوة الأميركيين والغربيين المفترضة لنا وتطلعهم إلى السيطرة على بلداننا كي تسوغ استئثارها بالحكم وتعطيل أي تغيير سياسي. ما لا تقوله لنا هذه الإيديولوجية هو كيف نؤثر على السياسة الأميركية بينما نحن محرومون من فرص التأثير على سياسة بلداننا؟
لكن هل تسعى الجهات المعنية إلى التأثير فعلا على السياسة الأميركية؟ نشتبه بالأحرى بأنها تفضل الاستثمار في صورة البعبع الأميركي طالما أن هذا البعبع لا يهددها مباشرة. ولعل أفضل العوالم بالنسبة لها هو ذاك الذي يقترن فيه انحياز أميركي أعمى لإسرائيل مع حرص أميركي بصير على “الاستقرار في المنطقة”. فالانحياز يمكّنها من استنفار المجتمعات المحكومة وحيازة قسط من الشرعية، والاستقرار يؤمنها على طول بقائها.
ضد هذه الروحية السلبية والانعزالية ننحاز إلى فكرة أن الرئيس الجيد للأميركيين جيد لغيرهم، بمن فيهم نحن. أو لنقل إن الرئيس السيئ للأميركيين لا يمكن أن يكون جيدا لنا. وهذا المبدأ هو الذي يمكننا من تطوير نقد متسق للسياسات الأميركية التي لم تتخل عن دعم الدكتاتوريات إلا لوقت قصير بعد أيلول 2001 وفي سياق تسويغ احتلال العراق.
****
بتصويتهم لأوباما، الملون والأميركي منذ جيل واحد، يجدد الأميركيون شباب “الحلم الأميركي”. وبتمركز سياسات بلداننا حول مهمة كبرى واحدة، منع التغيير، يتجدد الكابوس العربي الذي لا تشكل السياسات الأميركية في “الشرق الأوسط” غير سند إضافي له.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى