أي انتخابات في ظل المال الطائفي – السياسي؟
خالد غزال
أقر مجلس النواب اخيرا قانون الانتخاب وفق الاتفاق الذي جرى التوصل اليه في الدوحة وعلى قاعدة القانون الصادر عام 1960 في عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب. بمجرد صدور القانون تبرأ الجميع من “دمه” ونعتوه بأوصاف اقلها انه سيزيد الانقسام الطائفي ولن يحقق للمسيحيين الطموح بتمثيل فعلي. اتى التبرؤ هذا من الاقطاب الذين افتتحوا معركتهم الانتخابية والسياسية برفع شعار العودة الى قانون 1960 في وصفه المطلب المركزي للطوائف المسيحية. بصرف النظر عن الاعتراضات من هنا او هناك، فإن لبنان دخل عمليا في المعركة الانتخابية التي يتوقع لها ان تكون استثنائية في “همجيتها” وسعارها الطائفي – المذهبي- المالي، وان تترافق مع توتر امني عندما تستدعي حاجة هذه الفئة او تلك الى إحداث اضطرابات لمنع فشلها في المعركة.
بدأت طلائع المعركة باستلال سيوف التحريض الطائفي والمذهبي من جميع الجهات، وهو امر لم يتوقف في الاصل في سياق قولبة الحياة اللبنانية السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل القفص الطائفي الحديدي. في عام 2005 استغل زعيم “التيار الوطني الحر” الجنرال ميشال عون “التحالف الرباعي” الذي قام آنذاك في وصفه حلفا طائفيا اسلاميا، ليخوض في وجهه معركة شرسة تحت عنوان منع تهميش المسيحيين واستعادة القيادة لهم، وهي معركة جرى تجييشها بقوة ودخلت فيها الكنيسة داعمة لها من اعلى الهرم الى ادنى المستويات في استثارة العصبية الطائفية المسيحية. لم يوفر الاطراف الاخرون الاثارة الطائفية لترجيح كفة معادلة الاطراف الاسلاميين في مجلس النواب.
تتخذ معركة التجييش الطائفي هذه المرة بعدا تحريضيا لا يقاس بمثيله عام 2005. فالسلاح الذي امتشقه عون يومذاك يستخدم بالحجة نفسها ضده اليوم. يثار في وجه الجنرال انه يربط موقع المسيحيين بحلف اقليمي ايراني- سوري ويلحقهم بطرف مذهبي يمتلك السلاح ويسعى من خلاله الى تكريس هيمنة طائفية لمذهب اسلامي على السلطة في لبنان. وهو اتهام قد يكون له مفعول غير قليل وسيمنع عون من الادعاء بوجود حلف اسلامي في وجه المسيحيين هذه المرة. في المقابل، لا يخفى ان الطرف الاخر من المعادلة يعاني ارتباكا في خطابه الطائفي، فهو يريد ان يعطي المعركة طابعا “وطنيا” استقلاليا وسياديا، لكنه في مواقعه المختلفة مضطر الى مواجهة تحريض طائفي ومذهبي من اخصامه باستخدام الاسلوب نفسه. لكن الجديد ان السعار الطائفي المنطلق من عقاله مجدول هذه المرة بعلاقة القوى الاهلية بالمشاريع الاقليمية حيث يدخل الحلف الايراني- السوري طرفا مباشرا لدى فريق، فيما لا يقل الحلف المصري – السعودي عن السعي الى موقع اكبر من خلال فريق لبناني اهلي، وهي مفارقة ندر ان عرفها لبنان بمثل هذه “الفظاظة”، على رغم ان الخارج الاقليمي كان له دور مؤثر الى حد ما في الانتخابات اللبنانية انما في مناطق محددة.
استتباعا للنقطة المشار اليها، يتخذ السعار الطائفي الجاري بعدا “استراتيجيا” من خلال اثارة قضية الاقليات في لبنان والمنطقة واستعادة “المسألة الشرقية”. بدأ الموضوع من استحضار حقوق الطائفة الارثوذكسية باعتبارها “طائفة محرومة” ووضع مركز صلاحيات نائب رئيس الوزراء في طليعة الهموم الرئيسية للبنانيين. لم يكن الهدف من طرح الموضوع، الذي هو فعلي في سياق المحاصصة الطائفية في البلد، سوى شحن الوضع المسيحي بما يزيح الانتباه عن ربط قسم واسع من المسيحيين بمشروع اقليمي لا تنقصه الصفة الطائفية والمذهبية ذات الانتماء الاسلامي. اقترنت اثارة حقوق الطائفة الارثوذكسية بموضوع يتصل بالارهاب السلفي ذي الطابع الاسلامي السني، لتشكل عنوانا يجري بموجبه تخويف المسيحيين من الخطر المقبل عليهم من الشرق الاسلامي. لا ينفصل هذا الاستحضار الارهابي عن خطاب سياسي وطائفي يذهب هذه المرة الى تخيير المسيحيين بين اللجوء الى الطرف الاقليمي ذي الانتماء غير السني في موقع السلطة ليمكن بواسطته الحفاظ على حقوق المسيحيين وموقعهم، او انتظار حالات التهجير والالغاء على غرار ما يجري في العراق. لذا ومرة اخرى يجد البلد نفسه امام “ديبلوماسية” تتوخى فيها الطوائف استحضار الخارج لتثبيت مواقعها او لتعديل موازين القوى داخل السلطة، مما يعيد الى الاذهان ما جرى منتصف القرن التاسع عشر من “التزام” كل من الدول الغربية طائفة محددة، وما عاد فتكرر خلال الحرب الاهلية التي سعت الطوائف كلها الى الاستنصار بالحكم السوري واستدعائه عسكريا لنصرتها في وجه “عدوها” او منع انهيارها خلال المعارك الدائرة.
اما الجانب الاخر من المعركة الانتخابية فيدور حول التجييش المالي. لم يغب المال السياسي يوما عن الانتخابات اللبنانية، لكن الجديد هذه المرة هو “الفجور” في استحضار المال ووضعه في خدمة المعركة. تتساوى الطوائف في استحضار هذا العنصر الجاذب، كما يتساوى “المال النظيف مع المال غير النظيف” في كسب الجمهور، فالمصدر البترولي يمول الاطراف جميعهم، وكل وفق انتمائه السياسي. لا تقنع الاتهامات والصرخات التي ترتفع من هذا الطرف او ذاك مشهّرة به على قاعدة استخدام المال وشراء النفوس وافساد البنانيين. لقد سبق الفضل بإفساد نفوس اللبنانيين عبر الغاء كل وطنية واستقلالية لصالح الانتماءات والولاءات الطائفية التي تمثل في ذاتها الفساد المطلق، اين منه الافساد المالي. يراهن اقتصاديون على ايجابية العنصر المالي في الانتخابات النيابية لكونه سينشط الدورة الاقتصادية ويضخ عملات صعبة تخفف من الاعباء الاجتماعية التي ينوء تحتها المواطن.
في ظل هذه المعركة المندلعة سيكون من الصعب وصول جلسات الحوار المقبلة الى نتائج فعلية على صعيد القضايا الجوهرية المطروحة امامها وخصوصاً منها الاستراتيجيا الدفاعية. سينتظر كل طرف حصيلة المعركة الانتخابية وميزان القوى الذي ستفرزه ليتمكن من تعيين خياراته السياسية وما يترتب عليها من تنازلات او استعصاء في المواقف والمواقع. في السياق نفسه، لا يتوقع لـ”فيلم” المصالحات ان يتواصل، بل يبدو ان الحدود التي وصل اليها اقصى ما يمكن أن يعطيه هذا الطرف او ذاك. كما يبدو ايضا ان التعثر الحاصل لدى عدد من الافرقاء بات مرتبطا بحسابات كل طرف ومدى ما تعطيه المصالحة من كسب او خسارة في سياق المعركة الانتخابية المفتوحة.
الى ان يأتي موعد الانتخابات في ايار المقبل، ستنجلي المعركة الدائرة عن مزيد من الانقسام الاهلي، وعن ربط اوثق له بالمشاريع الاقليمية على حساب سيادة لبنان واستقلاله، ولن يكون مستبعدا لجوء اطراف الصراع المحليين او الاقليميين الى تعطيل الانتخابات اذا ما تبين ان نتائجها لن تكون لصالحهم. في كل الاحوال، سيكون اللبنانيون امام مرحلة عصيبة وليس مبالغة القول بمصيريتها على صعيد حياتهم السياسية واستقلالهم وبناء دولتهم ومنع الوصاية مجددا عليهم او الحد منها في احسن الاحوال. يظل الغائب الاكبر عن كل ما يجري هو الديموقراطية التي تشكل الانتخابات النيابية عادة احدى المناسبات المهمة التي يتاح فيها للمواطن ممارسة حقه في التعبير عن رأيه واختيار من يمثله تحت قبة البرلمان ¶
النهار