تشخيص أزمة الرهن العقاري الأميركية
جلال المسدّي
وأنا أكتب هذه السطور تتعرض الأسواق المالية في وول ستريت، ونيويورك ولندن وفي أنحاء العالم للاضطراب، فخلال 24ساعة اختفى مصرفان من أكبر أربعة مصارف في الولايات المتحدة وأعلن “ليمن برذرز” الذي بقي في السوق لمدة 158 سنة إفلاسه وهو أحد مصرفين اثنين نجيا من الكساد الكبير عام 1929، فخسر 25000 عامل أجير حول العالم وظائفهم . كما استولى “بنك أوف أميركا” وهو من أكبر المصارف الأميركية على أهم المصارف العقارية في العالم وهو “ميريل لينش” بأمر من الحكومة الأمريكية ودفعت 5 مليار دولار في المقابل.
ولو لم يحصل ذلك، لأفلس هذا المصرف أيضاً. وكان حصل الأسوأ للرأسمالية وهو قصور “ليمان” و”ميريل لنش” عن تطبيق عقودهما والتزاماتهما، ما كان سيؤدي إلى إفلاس عدد آخر من المصارف.
إضافة إلى ذلك أعلنت أكبر شركة تأمين أميركية AIG حاجتها لمبلغ 40 مليار دولار خلال ساعات وتحت طائلة الإخلال بالتزاماتها، وطلبت قرضاً من الاحتياط الفيدرالي قبل فوات الأوان!.
حدث كل ذلك بعد أسبوع فقط من تأميم أكبر شركة شبه حكومية في العالم للقروض العقارية “فاي ماي” و”فريدي ماك” لحماية مالكي العقارات الأمريكية وقطاع القروض العقارية من الإفلاس. وكان هذان الدائنان يملكان أكثر من 40% من القروض العقارية في الولايات المتحدة و85% من القروض الجديدة. وهذا يعني أن عدم تمكنهما من العمل كان سيؤدي إلى الانهيار التام للسوق العقارية. ولذلك اضطرت الإدارة الأمريكية إلى تأميمهما.
ولكي ندرك فداحة الخسارة فإن صندوق النقد الدولي حدد الخسارة الإجمالية في دفاتر الموازنة نتيجة الديون المعدومة بحوالي تريليون دولار على مستوى العالم ، وبطبيعة الحال
سوف تتحمل المؤسسات المالية في الولايات المتحدة نصيب الأسد من هذه الخسائر. وإذا ما علمنا أن مجموع سندات رأس المال لدى كل المؤسسات المالية في الولايات المتحدة يبلغ 1.2 تريليون دولار، فإننا إذا لم نكن شهوداً على انهيار النظام الرأسمالي إلا أننا نعيش، على الأقل مرحلة الارتجاف.
وحدث ما حدث….ويكمن الخوف جراء أزمة الائتمان العالمية من عدم رغبة المصارف في إعطاء القروض وبنسب فائدة معقولة أو بشروط ميسرة للشركات، لذلك تدفع المؤسسات التي تعاني من الصعوبات المالية إلى الإفلاس، فتوقعوا المزيد منها خلال العام المقبل. ولماذا لا تستطيع المصارف إعطاء المزيد من القروض؟ لأنها خسرت الكثير من المال جراء انخفاض قيمة الأصول التي اشترتها خلال السنوات الخمس والست السابقة، لذلك عليها أن تقتصد وتكف عن إعطاء القروض. كما يجب أن تبحث عن رؤوس أموال ومستثمرين جدد قبل معاودة الإدانة (هذا يفسر لماذا لم يعط أي مصرف القروض لـ: بيرستيرنس وليمن ونورثن روك، وآخرين). لكن ما هي هذه الأصول التي خسرت كل هذه القيمة؟ نسمي في الأساس ضمانات مدعومة من القروض العقارية سابقاً في السوق العقارية كانت المصارف ومؤسسات البناء تجذب الإيداعات من المدخرين، وتعطيها قروضاً لأشخاص يريدون شراء منزل. إذاً من الإيداع إلى القرض السكني، المعادلة سهلة.
إنما بدأ بعض المصرفيين في الابتكار من أجل زيادة الأرباح، فاستدانوا من مصارف أخرى من أجل تقديم القروض العقارية. وأصبح هذا “التمويل الشمولي” رائجاً في المصارف الأميركية، مثل “نورثرن روك” التي كانت أشبه بالمؤسسات العقارية النائمة حتى أواسط التسعينيات، وتحولت إلى مصرف مع حملة أسهم وإدارة شرسة من أجل جلب المال لمستثمريها (لا مودعي المال فيها).
لكن القصة لم تنته عند هذا الحد، بل أتت المصارف بمّوال جديد يقضي بتجميع القروض السكنية في سلة تضم قروشاً ذات نوعية مختلفة تستطيع بيعها كسندات أمانة لمصارف أخرى أو لمستثمرين ماليين. وأدى ذلك إلى “تنويع” مخاطرهم. إضافة إلى ذلك قامت شركات أخذت كل هذه المسؤوليات على عاتقها. وهذا أتاح للمصارف الاستدانة أكثر وإعطاء قروض سكنية. وأدى ذلك إلى انخفاض السيولة لدى البنوك من 10% من قيمة القروض إلى 5% أو أقل، أو حتى 2% في ما خص المصارف الأمريكية الكبرى.
لكن المشكلة لم تكن موجودة. إذ كانت السوق العقارية الأمريكية تزدهر وكانت المصارف تستعيد المال الذي تقرضه من خلال ارتفاع أسعار العقارات. كما كان أصحاب المنازل يتحملون تسديد ديونهم وأيضاً أخذ قروض أكبر. إضافة لذلك، كانت المصارف تستطيع إدانة أناس لا مدخول لهم لأنها كانت تعتمد على ارتفاع أسعار البيوت من أجل تغطية قروضها. بعد ذلك فشل كل شيء. فمنذ عام 2006، بدأ ارتفاع أسعار العقارات يتباطأ قبل أن يهبط وعندما أثر انخفاض العقارات على قدرة المستدينين في تسوية ديونهم، انخفضت رغبتهم في الاستدانة. فهبط سوق القروض العقارية وتلا ذلك خسارة دائني القروض العقارية لأموالهم، واكتشف أصحاب الضمانات المدعومة من القروض العقارية أن عقاراتهم لم تكن تستحق ما دفعوه، وأن الجميع في العالم المالي كان لديه هذه الضمانات.
لماذا انهارت السوق العقارية؟ لماذا لم تبق على خطها المستقيم صعوداً كما حصل لمدة 18عاماً؟ أغامر بجواب: أولاً: هناك دورات حركية تعمل في ظل الرأسمالية الحديثة. وأهم قوانين هذه الدورات هي الربحية. وكما أوضح ماركس، تعتبر نسبة الربح مفتاح الاستثمار والنمو في النظام الرأسمالي، وفي المقابل، عدم الربح يعني لا استثمار، ولا مردود، ولا وظائف، لكن دورات الربح تتحرك من خلال حلقات، فيرتفع
لفترة قبل أن يبدأ بالهبوط.
ومثّل هذا الارتفاع الهائل في أسعار المنازل، انحرافاً كبيراً في مدار الرأسمالية في اتجاه قطاعات غير منتجة، لم تؤدّ إلى أي ربح جديد، من خلال الاستثمارات في التكنولوجيا والقوة العاملة. ففي مقال منشور حالياً في مجلة مونثلي ريفيو تحت عنوان “أربعة أزمات في نظام الرأسمالية العالمية الراهن” يحدد الكاتب حصة القطاع المالي من الاقتصاد الأمريكي في العام 2004 بـ300مليار دولار، مقارنة بـ534 مليار لباقي الصناعات المحلية، وهذا يمثل 40% من كامل الناتج القومي، وقارن ذلك مع نسبة القطاع المالي منذ 40 سنة والتي لم تتجاوز 2%.
هذا التحول البنيوي في الاقتصاد الأمريكي والذي يعتمد على قيمة الدولار التبادلية الغير مدعومة بأخرى استعمالية لا يوضح أن الاقتصاد الأمريكي جريح فحسب بل يوضح عمق الجرح النازف.
ويأتي الإنقاذ:
هنا يتوجب السؤال: ما معنى كلمة إنقاذ في الخطة الأمريكية العملاقة، والتي تنفذها دول رأسمالية أخرى- كل على قدر تفاقم الأزمة فيها- خططاً مشابهة، وإن تجنبت إعطاء العنوان ذاته؟ هل المقصود إنقاذ الطبقة المتوسطة عصب الصناعة والاستهلاك. والتي يحرص النظام الرأسمالي عموماً على أن تحصل على قدر مدروس من الدخل بما يكفي لمتابعة الحياة الاقتصادية من خلالها، أم إنقاذ الاقتصاد الوطني…إنقاذ حركة الإنتاج والاستهلاك؟
إن الخطة الموضوعة وما سبقها من خطوات مبدئية ليست ابتكاراً جديداً، فكثيراً ما جرى إنقاذ مصرف مالي أو مؤسسة أو شركة كبرى بالأسلوب نفسه. إنما لم يكن ذلك في يوم من الأيام بحجم ما بلغه الآن دفعة واحدة.
تقول الخطة المعنية بوضوح ما محوره: قيام الدولة بتخليص المصارف المالية من الصفقات الخاسرة، وترك المضمونة الرابحة منها للمصارف نفسها ويعني هذا واقعياً:
1- تتحمل الدولة الخسائر
فتعفى المصارف المالية من نتائج عملها وأخطائها الجسيمة بتأثير الرغبة في حصد قدر من الأرباح والعائدات السنوية بأسرع وقت، ويتحمل تلك النتائج دافعوا الضرائب، فالدولة ليست مالكة ذاتية للثروة.
2- تعني كلمة تعفى هنا إعفاء أصحاب الثروات المالية الحقيقيين من المحاسبة أيضاً، فهؤلاء لا تحاول الدولة أصلاً تحميلهم المسؤولية وبالتالي لا تصل إليهم أيدي المحاسبة “الجزئية” التي تصل إلى مدراء الأعمال التنفيذيين-أي الموظفين واقعياً- فهم يخسرون أمكنة عملهم، فيعين أصحاب الثروات سواهم، سواء كان ذلك في المنشآت المالية نفسها بعد إنقاذها أو من خلال إقامة بدائل عنها؟.
3- حجم الخسائر التي تتحملها الدولة أكبر بكثير من أن تكفي الضرائب السنوية لتغطيتها ويعني هذا أن تقترض الدول لتغطي خسائر أصحاب رؤوس الأموال.
4-الدولة تقترض من أصحاب رؤوس الأموال أنفسهم (المصارف).
5-الحصيلة: الدولة تأخذ من أصحاب رؤوس الأموال عقود القروض الخاسرة، وتوقع معهم عقود قروض مضمونة وضمانها قائم في أن الدولة في النظام الرأسمالي تسدد ما عليها دوماً، مع الزيادات الربوية المضاعفة!.
6-عندما تتخلص المصارف من العقود الفاسدة تتجدد الثقة بها…والمقصود هو الثقة المتبادلة بين أصحابها، فعلاقتها قائمة على إقراض بعضها بعضاً، كلما نشأت حاجة لتنفيذ مشروع ضخم سواء داخل البلاد أو خارجها الأمر الذي تحول لسفاح قربى في المرحلة الماضية.
7- تسديد القروض الضخمة المترتبة على الدولة مع مضاعفتها ربوياً يحتاج إلى عشرات السنين، ولا يتحقق دون جباية المزيد من الضرائب السنوية من كافة الطبقات والفئات الاجتماعية وليس من أرباح الشركات وهذا بالذات يحمل على خنق الأجيال القادمة لصالح من يعطي القروض…أي لصالح أصحاب المال.؟ إنه تأميم للديون والخسائر يذكرنا بملاحظة ماركس النافذة حول الاصطلاحين الإنكليزيين “الأسطول ملكي أما الدَين فدَين عام”.
ونشهد اليوم أزمة نقص في السيولة، سوف تنعكس على القطاعات الإنتاجية مضاعفة. أي أزمة فائض إنتاج وتتبعها أزمة نقص في العرض (المال) ناتج عن ضعف الإقراض.
لقد شجع إنفاق المستهلك الأمريكي نمو الناتج الداخلي العام. لكن هذا تم على حساب معدل ادخار شخصي سلبي. ونسبة متصاعدة للديون المنزلية وعجز هائل في الحساب الجاري. حتى مع تباطؤ أسواق العقارات استمر الأمريكيون ينفقون، الشيء الذي لا يمكن تحمله.
صحيح أننا نرى الزلزال اليوم في وول ستريت إلا أن موجاته ستطال الشطآن البعيدة قريباً
الوضع العالمي لا يقدم صورة ظريفة هادئة. بل على العكس من ذلك هناك وضع جد متفجر في كل مكان “الأول سيصير الأخير والأخير سيصير الأول” . إمكانيات عظيمة ستنفتح أمام التيار الماركسي عالمياً. يمكننا أن نسير إلى الأمام بثقة تامة على أساس الفكر الذي قدم الدليل المرة تلو المرة على صحته. يجب علينا أن نتقدم إلى الأمام بحس من الاستنفار والثقة التامة في أفكار الماركسيين وفي الطبقة العاملة، في ديمقراطيتها ، في أمميتها وفي أنفسنا.